
خمسون عاماً مرت على رحيل صوت مصر، المرأة التي تربعت على عرش الغناء والطرب العربي، بصوت لا يشيخ ولا يتقادم، يتحدى الزمن والحداثة وتعاقب الأجيال، صوت الهيبة والذوق والجمال والاحترام.
تكاد أم كلثوم تكون الموضوع الوحيد الذي اجتمع عليه العرب، كانت حفلاتها في الخميس الأول من كل شهر حدثاً عظيماً، يُنقل عبر الأثير لكل البلدان العربية؛ ممثلا حالة موحدة من النشوة والصفاء. خمسون عامًا ولا زال صوت "الست" حال لسان القلوب وتُرجمان صادق للأشواق.
إنّ مسألة موت رموز الأمم نسبية، فهؤلاء يغيبون، ولكن سنا أنوارهم المنبعث من أعمالهم الخالدة يُشع في الأرواح ويُضئ للإنسانية عالم الحِس الرفيع.
احترفت أم كلثوم الغناء في وقت كانت تلك المهنة وما يُجانسها من تمثيل ونحت وكافة اشكال الفنون، من المهن الوضيعة والمحرمة، وأصحابها لا يلاقون احتراما من أفراد المجتمع، فيكفي أن نعرف أنّه في ذلك الوقت كان "المشخصاتي" لا تُقبل شهادته أمام المحكمة، والأسر الكريمة تتبرأ من أبناءها الذين تناديهم "نداهة الفن"، لكن ما حدث أنّ أم كلثوم جعلت حتى أصحاب المعالي والفخامة والجلالة والسمو، يحجزون مقاعدهم بين صفوف جماهيرها، واستمع لها الوجهاء والبسطاء والعلماء والمشايخ، وأحبها الصغار والكبار الرجال والنساء. بل إنّ ظهور الفن "الكلثومي" على الساحة المصرية، نقى الغناء من السوقية والإباحية التي شاعت في تلك الفترة. استطاعت أم كلثوم أن تؤسس مع جيلها، وهي في مقدمتهم، فناً راقياً وخالداً؛ فأحيت القصيدة العربية التراثية، وجعلت عوام الناس ينشدون معها "أراك عصي الدمع شيمتك الصبرُ". طافت بنا في أجواء إيمانية عالية وهي تقول: " والـلي هويته اليوم.. دايم وصاله دوم، دعاني لبيته". مزقت قلوبنا حباً وشوقاً وفراقاً ولوعة وعزة، ثم عادت وأروت الروح وهي تقول: "رق الحبيب يوم وواعدني". و"فكروني ازاي"، تحدت حدّ المستحيل فقالت:" عايزنا نرجع زي زمان .. قول للزمان ارجع يا زمان"، ووصفت الحبيب في أرق بيتين عربيين يصف بهما عاشق مستهام حبيب فقالت:
أين من عيني حبيب فيه عز وجلاء وحياء.. واثق الخطوة يمشي ملكا...عابق السحر كأنفاس الُربا.. ساهم الطرف كأحلام المساء.
إن كانت كل هذه القصائد والأناشيد والطقطوقات هي لقرائح عربية من بلدان عدة، لكن هذه القصائد كتبتها أم كلثوم بنفسها يوم أن وقعتها بصوتها، وأدتها بطريقة ألبست فيها الكلمة الساكنة من نبض قلبها ومعين عاطفتها، وذكاء أحاسيسها وعبقرية صوتها، وكتبتها مرة ثانية، إذا جعلتها تتردد بعد عقود، وتُحيي في سريانها قلوب وتطرب أرواح.
أنشدت أم كلثوم بكل حالة ومزاج عاطفي يمكن أن يجمع رجل وامرأة، لهذا كانت رفيقة كل قصص الحب، وكانت وفاتها ليست حزناً وطنياً وقومياً فقط، ولكن حزنًا شخصياً في كل بيت، وفي كل قلب؛ حتى أنّ جنازتها كانت أكبر من جنازة عبد الناصر نفسه.
لم تكتف أم كلثوم بما فعلته بصوتها في القلوب، ولكنّها وجهت طاقة هذا الصوت لخدمة المجهود الحربي، إذ إنّ الصوت الذي تغنى بحب مصر، وصحب كل أيامها الكبرى، وأحيا ليالي عيدها على ضفاف النيل، لم يكتف بالشدو، بل بالمعنى الحرفي وجهته ليكون رصاصاً وقنابل على كل من يعتدي على هذا الوطن، فسافرت وأحيت حفلات في بلدان عربية مختلفة، ووقفت على مسرح الأولمبيا في باريس بعد نكسة 1967، لتقل إنّنا باقون، وجابت المُحافظات المصرية، وأدخلت خزانة البلاد كيلوات من الذهب وألوف مؤلفة من العملة الصعبة، لتسليح جيش بلادها، في وقت انهارت فيه السياحة والاقتصاد ودخل قناة السويس بسبب الحرب... فعجبًا لما استطاع صوت أم كلثوم أن يصل ويتحول ويفعل!.
أوجعت ام كلثوم أعداء وطنها، حتى أنّ محكمة صهيونية أصدرت حكمًا بإعدامها رفقة ثلاث مُطربات عربيات، بتهمة تأليب الجماهير العربية ضدّ الصهيونية. لقد جعلت أم كلثوم من الفن رسالة وطنية وإنسانية، وساهمت في تضميد جراحات وطنية بوجودها مع صوتها، إذ إنّ صوت أم كلثوم لم يكن ليكتسي بكل هذه الهالة المُستحقة، إن لم يكن يصدر من كيان إنساني كبير. وكما يقال عن الرجل الذي يرهن وجوده لبلاده بأنّه "رجل دولة"، ويكون فيه من الشمائل العالية ما يستحق به أن يمثل أمّة، فإنّ أم كلثوم بكل معنى من هذه المعاني، كانت "سيدة دولة"، وهذا ما آمن به عبد الناصر وقدّره؛ إذ منحها جواز سفر سياسي، كما حصلت على قلادة النيل التي لم تمنح بعدها لأي فنان، فقد كانت أم كلثوم بحق هرم مصر الرابع، وواحدة من أوجه قوة مصر الناعمة، أدخلت الفن المصري إلى كل بيت عربي ووصلت به لحدود العالمية.
أم كلثوم صناعة مصرية، خُلاصة هوية وطنية، إنّ ما يجب التأكيد عليه في سيرة هذه المرأة، أنّها كانت بناءً وطنياً، فما كان لأم كلثوم أن تكون وأن تصل لولا أن تلقفتها الطبقة المتوسطة، والبرجوازية الصغيرة، تلك التي تحفظ هويات الأمم وتمثل أعمدتها؛ فتتبنى القادمين من الأرياف والقرى، فتثقلهم وتهذبهم وتعدهم للتفتح في أنوار العاصمة، وهذا ما كان مع "الست" وغيرها من القمم المصرية الكبيرة.
أم كلثوم خريجة كتاب قرية درست فيه ثلاث سنوات، لكنّها تخرجت مرة ثانية وثالثة ورابعة على يد الشيخ أبو العلا، وأحمد رامي، ومصطفى عبد الرازق، وأمين بك المهدي، وإبراهيم القباني، وغيرهم، كل من هؤلاء دعموا أم كلثوم وبناها في تخصصه، فخرجت علينا أم كلثوم هرماً رابعاً بهذه اللمسات المصرية المُحبة، كما أنَّ الطبقة المتوسطة ذاتها هي التي حضرت حفلاتها واشترت تذاكرها، وأذاعت صيتها، بعد أن كان روادها من القرويين والسذج والمخمورين في أصقاع القرى النائية.. وأنا هنا لا أتحدث عن مغنية ولا عن صوت جميل بل عن واحدة من ظواهر الفن لم تتكرر في التاريخ لا العربي ولا العالمي نتخطى في الحديث عنها الفن إلى السحر والإعجاب إلى الإلهام، والقدرة إلى المعجزة ويتبلور هذا الإعجاز الكلثومي في الأداء، فلم يحدث أن كررت كلمة أو جملة وتقصد بها معنى واحد، فحين غنت رائعتها "فكروني"، كانت كل "فكروني" تشدو بها تقصد بها معنى مختلف مِعتمدة في ذلك على قماشة صوتية ليس لها مثيل، فهي تقولها مرة في استنكار ومرة في تعجب ومرة دلال وأخرى في إقرار. انظروا مثلا كيف وصفت نعمات أحمد فؤاد -في خطاب أرسلته إليهاـ إحساسها حول قدرة صوتها " وكيف أنسى وينسى الناس تغريدك "النيل جاري والليل ساري"، ورفعك الصوت قوياً مرناً في أول"جاري" وانتهاءك به نادياً رقراقاً في الحرفين الأخيرين من الكلمة "الراء والياء". وكأنك تمثلين النيل من منبعه حيث يتدفق قوياً جارفاً عند هضبة البحيرات، وينتهي عذباً رقراقاً عند الزمالك، حيث يجري من تحتك طروباً بقربك فخوراً بشدوك...".
إن هذا الرسم المشهدي للجملة هو ما يجعل من أم كلثوم سيدة الغناء العربي بلا منافس أو نظير، إنّها الصوت الذي أستطاع أن يصور مجرى حركة النيل في الوديان ومجرى الشعور في القلب، ومجرى الدموع في العين والفيوض الرحمانية في الروح، حتى قال عنها أحد مشايخ دمشق: "إنّ أم كلثوم قدمت خدمات جليلة للإسلام أكثر ممّا فعل الأزهر.. وأنا استمع للمقطع "كُل المحبين في هنا إلا أنا.. في الحب مالي نصيب!"، لا استطيع أن أفهم كيف جعلت صوتها دامعاً هكذا، وكيف تأخذ الجملة الطربية شكل دمعة تسقط على قلب المستمع؟! كيف تُسيل قلوبنا فتخرج من عيوننا وجداً وشعوراً، وحين تقول في صوت منتشي فرحان: "طار بيا الأمل بجناحه، ولمست النجوم بإيديا". تشعر بأنّ السعادة أصبحت جسداً ملموساً. وما هذا الجبروت يا الله الذي قالت به "إعطني حريتي أطلق يديا.. إنني أعطيت ما استبقيت شيئا"؟..صرخ المحبين حال سماعها من عمق قلوبهم، وصرخ العرب لنفس البيت في مسرح الأولمبيا، عندما شدت بنفس البيت، لكنّها كانت صرخة عربية في وجه الاستعمار والصهيونية.
ظلّت ام كلثوم تعطي حتى سبعينيات عمرها، في عمر يتوقف فيه الجميع ويعتقد أنّه أكمل الرسالة، لكنّها وقفت قبل وفاتها بعامين على مسرح سينما قصر النيل وغنت بعذوبة شابة.
الجميل والملفت والمحزن حد البكاء، هو ما قالته أم كلثوم وهي لا تعلم أنّ هذه أغنيتها الأخيرة، ووداعها لعالم المسرح واعتلاءها عرش القلوب للأبد، وكأنّ قلبها يحس، شدت الست وقالت: "يا اللي فايتلي الليالي الحلوة والذكرى الجميلة، يا اللي ويايا بحنانك تحيي أمالي العليلة.. أنت ويايا..". لم تكن هذه الجملة للحبيب هذه المرة، بل كانت لسان حال جماهير لم تعاصر أم كلثوم، فاتت لهم الست أرقى نغم روحي وأقوى طرب عربي عُرف.. ثم استكملت وكأنها تودع الجمهور الذي طالما أحبها وعشقها وعظم اسمها " في المكان دا دا ياحبيبي، ياما جينا ..ياما جينا جينا وياما ضمتنا الليالي.. في المكان نفس المكان دا.. ياما طرنا في العلالي.. والليلة دي يا حياة روحي جينا في نفس المكان، في المكان دا يا حبيبي ياما جينا، وياما ضمتنا الليالي" هذا آخر ما قالته الست لجمهورها، بعد أن جمعتهم عقود وعقود حول مائدتها العامرة بالحب والرقي والإحساس، وطارت بهم في علالي الشجن وعلالي النشوة وعلالي الارتواء... "ومهما غبت عليا هتجيني بعد شوية.."، هذا هو وعد أم كلثوم الأخير، بأنّها لن تغيب أبداً، فهي شمس الأغنية العربية، وظاهرة الفن، وصاحبة كل أيامنا.
ظلّت أم كلثوم عامين قابعة في فيلتها في الزمالك، يناوشها الألم والأمل، تتمنى أن تسترد عافيتها وتعود، لكن المرض هذه المرة كان أقوى من هذه المرأة العنيدة، ويبدو أنّ المحيطين شعروا وبدأو يهيئوا الخبر للجمهور، وكيف لا؟ فهكذا خبر سيؤلم قلب مصر في صميمه، فكتب على أمين في عموده هذا المقال الشهير الذي أقلق وأثار وأوجع، كتب يقول: "أحسست اليوم برغبة شديدة في أن أصلي لأم كلثوم، أحسست بأنّها في حاجة شديدة لدعائي ودعاء كل عربي... وكان في إمكاني أن أمسك سماعة التليفون، وأطلب بيتها لأسألها عن صحتها.. ولكنّي شعرت أنّها ليست في حاجة إلى سماع صوتي، ولكنها في حاجة لأن تسمع السماء دعائي.. يارب... لقد أعطيتنا أم كلثوم فلا تأخذها منا.. اتركها لنا فترة أخري.. جراحنا لاتزال مفتوحة.. قلوبنا لاتزال تقطر دما".
مساء الثالث من شباط (فبراير) لعام 1975، انتهت قصة أسطورة إنسانية وفنية ووطنية عظيمة، لولا أنّ ظهورها كان متزامنا مع عصر الإذاعة والشرائط، واستمعنا لصوتها بأذاننا، ما كنا لنصدق ماسيحكيه عنها الأولون، ولقلنا إنّه من المستحيل أن يجتمع في إنسان واحد كل هذه الموهبة والعبقرية، لكنّه حدث، وأصبح للست جماهير من أجيال لم تعاصرها، وسيكون لها جماهير من أجيال وأجيال قادمة، لأنّها من نفائس الزمان.