
يحتاج الفلسطينيون في قطاع غزة لكل ثانية أو دقيقة أو يوم تتوقف فيها الة الحرب الإسرائيلية، القاتلة والمدمرة، لذا فإن الإعلان عن أي اتفاق، مهما كان نوعه، يشكل بحد ذاته إنجازا لهم، لأنه بمثابة إعلان يعد بوقف القتل والدمار، وهذا ما يفسر الفرحة الممزوجة بالدموع، التي عمت بين فلسطينيي غزة، والفلسطينيين عموما.
على ذلك لا حاجة لحركة "حماس"، ولا لغيرها من الفصائل الفلسطينية، ادعاء انتصار، بعد كل الأهوال التي اختبرها الفلسطينيون في قطاع غزة، نتيجة حرب الإبادة الوحشية التي شنتها إسرائيل ضدهم، طوال أكثر من 15 شهرا، بأيامها ولياليها، فحتى منذ إعلان توقيع اتفاقية "الصفقة"، أي في يوم واحد، قتلت إسرائيل 71 فلسطينيا.
لا حاجة لذلك لأن أكثر من ربع مليون من فلسطينيي غزة قضوا في تلك الحرب، بين قتيل أو جريح أو معتقل أو تحت الركام، إضافة إلى تدمير 70 بالمئة من عمران قطاع غزة، وبناها التحتية، مع حرمان مليوني فلسطيني فيها من الحد الأدنى من القدرة على العيش، في منطقة باتت خرابة، تكاد لا تصلح للعيش.
أيضا، لا حاجة للادعاء بصفقة وقف إطلاق نار "مشرفة"، بعد انكشاف حجم التراجعات بين الخطاب الذي أسّس لـ "طوفان الأقصى"، مع الوعود أو التخيّلات التي أطلقها، وبين تفاصيل الصفقة. ومثلا، فإن إسرائيل شددت قبضتها على القدس، وعززت هيمنتها على الفلسطينيين في الضفة الغربية، أكثر بكثير من أية فترة مضت. أما الوعد بتبييض السجون فلم يعد واقعيا، ولا على جدول الأعمال، وفقا للصفقة، علما إن إسرائيل اعتقلت أضعاف الأسرى الذين كانوا في معتقلاتها قبل عملية "الطوفان".
حنى الحديث عن عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل تلك العملية لم يعد له معنى، بحكم تحويل إسرائيل القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش، وكمعتقل لمليوني فلسطيني، بكل معنى الكلمة، إذ إسرائيل هي التي تتحكم بالمعابر، وبما هو مسموح بدخوله من مساعدات، في وضع بات فيه الفلسطينيون يفتقدون حياتهم التي كانت لهم، بما في ذلك بيوتهم، وممتلكاتهم، وأماكن عملهم، ومدارسهم، ومستشفياتهم وجامعاتهم، وحتى طرقهم.
فوق ما تقدم، فإن خطابات الانتصار، والحديث عن صفقة "مشرفة"، اليوم، هي امتداد للخطابات التي تحدثت عن أن "نجاحات إسرائيل تكتيكية ونجاحاتنا استراتيجية"، أو إن "إسرائيل لم تحقق أهدافها"، وهي في الأصل مقولة لنتنياهو في سياق تبرير استمرار حربه، وكلها تنم عن تلاعب وتورية، وتعزز الانفصام عن الواقع، وانكار الحقيقة، وترويج لأوهام، وهذا ليس مجال للحركات السياسية المسؤولة، التي تدرك واقع شعبها، وقدرته على التحمل.
ما تقدم لا يقلل من أهمية أية صفقة، كما قدمت، لكن مثل تلك الصفقة، بكل التنازلات التي تضمنتها، كان يمكن أن تعقد قبل زمن، وبالأصل فإن "حماس" تورطت في عملية أكبر من قدرتها على تحمل ردود فعل العدو عليها، وهي عملية وجدت فيها إسرائيل فرصتها السانحة للبطش بالفلسطينيين، والهيمنة عليهم من النهر إلى البحر، باتجاه شطبهم من كل المعادلات السياسية، وهو حلم نتنياهو، منذ أتى على رأس الحكومة الإسرائيلية في العام 1996، بل إن تلك العملية أدت إلى شمول إسرائيل في أهدافها لبنان وسوريا وحتى إيران ذاتها، إلى حد تعزيز دورها ومكانتها في الشرق الأوسط، إزاء الفاعلين الأخرين.
مع ذلك، أي مع الرجاء بأن تتم تلك الصفقة، مهما كانت، وأن تصل إلى نهاياتها المرجوة، إذ إسرائيل، بخاصة في ظل الثلاثي نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، لا يؤتمن لها، كما بينت التجربة، بخاصة أنها تجد في الظروف الدولية والإقليمية، ما يفتح شهيتها على مزيد من الاعتداءات لفرض أجندتها وتعزيز مكانتها.
القصد أن ثمة عديد من الملفات التي تثير شبهة تقويض تلك الصفقة، واستئناف إسرائيل حرب الإبادة ضد فلسطينيي غزة، والفلسطينيين عموما، أهمها، أولا، انسحاب إسرائيل من كامل قطاع غزة، من 365 كيلو متر مربع، وهذه مسألة غير محسومة مع كل ما فعلته إسرائيل من تقطيع أوصال القطاع، وإقامة مناطق عازلة على حدوده الشرقية والشمالية بعرض كيلو متر، أو 800 متر. ثانيا، مسألة وقف إسرائيل حربها ضد قطاع غزة، بهذه الحجة أو تلك، وهذه أيضا، لا يوجد قطع يقيني بها.
ثالثا، ثمة خلاف حول اليوم التالي في غزة، والقصد تحديد الجهة المسؤولة عن إدارة القطاع، وتلك من القضايا التي لم يتم التوصل إلى حل لها، مع رفض "حماس" التنحي، وتولي السلطة إدارة القطاع كجزء من الكيان الفلسطيني (الضفة وغزة)، ومع رفض السلطة أي مكانة سلطوية لـ"حماس" في غزة. رابعا، لا يمكن فصل ما يجري في غزة عن ما يجري في الضفة، أي إن أي توقف لإسرائيل في استهدافها لغزة، تحاول التعويض عنه في تعزيز مكانتها في الضفة، الأمر الذي يبقي الاشتباك على حاله.
أما من جهة "حماس"، التي لا يمكن لأحد تحميلها مسؤولية هزيمة إسرائيل، فإنها معنية، بعد كل ما جرى في غزة، ومع التقدير لكل البطولات والتضحيات المبذولة، بتقديم أجوبة عن عدة مسائل، أولها، يتعلق بمدى استعدادها لإجراء مراجعة نقدية مسؤولة لخياراتها السياسية والعسكرية، انطلاقا من واقع غزة، أين كانت وأين أصبحت؟ أو هل واقع غزة بعد هجمة "الطوفان"، بات أفضل لناحية مقاومة إسرائيل، وقدرة الشعب الفلسطيني على الصمود، وبناء ذاته، وتطوير امكانياته، أم عكس ذلك؟ ثانيا، ما مصير الشعارات عن يوم الوعد، وعن زوال إسرائيل، وعن دحر الاحتلال؟
ثالثا، ما الذي ستقوله "حماس" عن المقاومة، بعد تلك الصفقة، أو بعد تلك الحرب، طالما باتت تطلب وقف اطلاق النار، أو وقف العدوان، أو وقف القتال؟ رابعا، لا يمكن الحديث عن استمرار المساعدات الإنسانية لغزة، وإعادة إعمارها، دون التزام "حماس" بالاشتراطات الدولية، التي من ضمنها وقف المقاومة، وتنحيها عن وضعها السلطوي، وهذين استحقاقين من الصعب التكهن بكيفية تعاطي "حماس" معهما.
اختم هذه المقالة بما كتبته ابنة غزة، تبارك الياسين، في حضرة الصفقة:
"وانت تعد الحلوى لانتصارك تذكر أن هناك أماً مات أطفالها جياعاً وطفلاً كان ينتظر الطعام فأصبح هو الطعام...
وانت تعد لانتصارك وترقص فرحاً تذكر أن هناك من فقد قدميه فلن يرقص معك...
ومن فقد يديه فلم يعد بمقدوره التصفيق أو حتى رفع شارة النصر...
وانت تخبر الجميع عن الانتصار تذكر أن من بقي وحده لا صديق ولا جار ولا خليل...
وانت تعد انتصارك تذكر شعب الخيام..."