فرنسا... ما هو أبعد من مقتل مهاجر من أصول جزائرية

فرنسا... ما هو أبعد من مقتل مهاجر من أصول جزائرية

فرنسا... ما هو أبعد من مقتل مهاجر من أصول جزائرية


03/07/2023

كشفت الأحداث التي تشهدها فرنسا، إثر مقتل شاب فرنسي من أصول جزائرية (نائل المرزوقي) في حادثة طرحت تساؤلات حول حدود استخدام القوة من قبل الشرطة، وفيما إذا كانت الحادثة تمّت بأسباب موجبة تتيح للشرطي إطلاق النار على الشاب المرزوقي، كشفت عمق التوترات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الفرنسي، والتي تندرج في إطار ما يعرف بالمسكوت عنه، لا سيّما أنّها تحولت إلى أحداث متكررة خلال الأعوام الـ (20) الماضية، قاسمها المشترك أنّها تتخذ في كل مرة أشكالاً أكثر تصعيداً وعنفاً، لجهة أعمار المشاركين فيها ومرجعياتهم وانتماءاتهم الفكرية، بالتوازي مع تصعيد آخر في تعامل قوات الشرطة مع المتظاهرين. وبعيداً عن المواقف المسبقة ومفردات الخطابات المعلبة التي تستبطن إيديولوجيات تغذي الصراعات، لا بدّ من الوقوف عند السياقات المنشئة والمغذية لهذه الأحداث، والتي تتسم بالتداخل والتعقيد ما بين سياقات سياسية وأخرى اجتماعية مرتبطة بالتمييز وخطابات الكراهية:

أوّلاً: ترتبط الأحداث بطبقة اجتماعية تعيش في الأحياء الفقيرة والمختلطة عرقياً تعرف بمجاميع من المهاجرين الجدد والقدماء الذين ينتمي بعضهم للجيل الثالث والرابع من المهاجرين، تجمعهم جملة من الأنساق بعناوين الشعور بالظلم والتمييز العنصري والإهمال من قبل الحكومات المتعاقبة لهم، رغم مزاعم حكومية حول الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت وخاصة الانخفاض في معدلات البطالة، تنفيذاً لخطط شاملة تستهدف تحسين الظروف المعيشية للمهاجرين وتأهيلهم.

نائل المرزوقي الذي قتل على يد الشرطة الفرنسية صباح الثلاثاء الماضي

ثانياً: لا يمكن إغفال أنّ الأحداث تأتي بوصفها نتيجة لتفشي خطاب الكراهية المتبادل بين اتجاهات يمينية تمثلها أحزاب فرنسية (الجبهة الوطنية) تتخذ مواقف من المهاجرين واللاجئين من الدول العربية والإسلامية، وتنشر مقارباتها بوحي من مفاهيم وتداعيات الإسلاموفوبيا، وبالتزامن لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذه الأحداث من ثمار خطابات كراهية تمارسها جماعات الإسلام السياسي بكل أطيافها، تركز على مقاومة الاندماج الاجتماعي للمهاجرين والاحتفاظ بهويتهم وحياتهم وسلوكهم الإسلامي، بما يشمل سلوكيات ومنظومات قيم مرتبطة بالطعام واللباس والطقوس الاجتماعية، تعززها خطابات رسمية لحكومات عربية وإسلامية، تقدم دعماً لهيئات ولجان إغاثة تثير حفيظة كثير من الفرنسيين، ومن الواضح أنّ هذا الخطاب المتبادل لا يقتصر على فرنسا وحدها، بل يشمل دولاً أوروبية أخرى، لكنّ وجود أكثر من (5) ملايين مسلم في فرنسا جعل منها حاضنة لهذا الخطاب، ويتردد في مراكز تفكير غربية أنّ خطابات الكراهية المتبادلة كانت سبباً في تعزيز فرص الأحزاب اليمينية في أوروبا ووصولها إلى الحكم.

ثالثاً: تخضع الأحداث وتطوراتها لتجاذبات الصراعات السياسية الداخلية في فرنسا بين اليمين المتشدد الذي يرفض أيّ قرارات تحدّ من إجراءات الشرطة وتعاملها مع المهاجرين، وبين ما يعرف باليسار الراديكالي الذي يطالب بمزيد من القرارات التي تضبط تغول الشرطة، وتحاول الحكومة اتخاذ مواقف تستجيب للطرفين، حيث اعترفت على لسان الرئيس ماكرون بأنّ ما حدث للمهاجر المرزوقي  أمر "لا يُغتفر" و"لا يمكن تفسيره"، وتم إيقاف الضابط المتهم بإطلاق النار على المرزوقي عن العمل بعد اعتقاله، وتوجيه تهمة "القتل العمد" له، وبالتزامن وتنفيذاً لتعليمات الشرطة تم التوسع في عمليات اعتقال المشاركين في الأحداث وغالبيتهم من صغار السن،  وتشهد الأوساط الأمنية الفرنسية نقاشات حول إمكانية إعلان حالة الطوارئ التي يبدو أنّها آخر الخيارات المطروحة من قبل الحكومة.

 ماكرون: ما حدث للمهاجر المرزوقي  أمر "لا يُغتفر" و"لا يمكن تفسيره"

رابعاً: تعكس الأحداث جملة من الظواهر التي تشكل عناوين للبحث بمستويات أمنية واجتماعية، من بينها، أوّلاً: أنّ العمود الفقري للمشاركين في الأحداث من فئة عمرية تنتمي لأقلّ من عمر (19) عاماً، من الجيل الثالث والرابع للمهاجرين، فما الذي يحرك هذه الفئة بقوة للمشاركة في الأحداث؟ ثانياً: أنّ حجم العنف واستهداف مراكز الشرطة والمتاجر والسيارات وإشعال الحرائق وعمليات النهب والسرقة بصور غير مسبوقة يطرح تساؤلات حول مرجعيات ذلك، بما فيها مرجعيات طبقية ومستويات الفقر والبطالة، ثالثاً: أنّ عنوان الأحداث هو التمييز العنصري من قبل الشرطة ضد المهاجرين، وقتل المرزوقي في حادثة لم تكن تستدعي قتله، أي إنّها غير مرتبطة بموقف مباشر مرتبط بإهانة رموز دينية، رغم أنّ هذا العامل يُعدّ من المسكوت عنه، رابعاً: هناك مقاربة تطرحها جهات فرنسية ترى أنّ إثارة الأحداث مرتبطة بحالة الشد والجذب التي تشهدها العلاقات الفرنسية الجزائرية، وأنّ التصعيد كان بتوجيه من جهات جزائرية، وهي مقاربة تحتاج لتمحيص وتدقيق، لا تكشفها إلا تحقيقات وجهود استخبارية موثوقة، خامساً: كشفت الأحداث الدور الذي يمكن أن تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في إثارة الشغب ، بوصفها سلاحاً ذا حدين، فهي تسهل التواصل بين المحتجين لإعلان أماكن التجمع وانطلاق المظاهرات والأحداث، إلا أنّها في الوقت نفسه تقدّم خدمة للسلطات تمكنها من اتخاذ إجراءات احتياطية تحبط أيّ تجمعات يتم الإعلان عن أماكنها ومواعيدها عبر التواصل الاجتماعي.

الحكومة الفرنسية ستتمكن من إنهاء موجة الاحتجاجات، كما تم إنهاء موجات احتجاج سابقة شهدت مستويات عنف أكبر من هذه الأحداث، لكنّها ستبقى في إطار إنجاز حلول مؤقتة، "تخفي ألسنة اللهب، دون أن تطفئ النار"، ذلك أنّ كل الانتفاضات في مختلف الدول تبدأ شرارتها بخطأ كما حدث في فرنسا، لكن سرعان ما تفتح الباب أمام استجلاب قضايا من حواضن المسكوت عنه، لم تكن بالحسبان، توفر للمتطرفين من قبل الأحزاب والسلطة ومن طرف المحتجين قيادة المشهد .

مواضيع ذات صلة:

فرنسا تحظر الحجاب في كرة القدم النسائية... لماذا؟

فرنسا تحاكم جماعة يمينية متطرفة خطيرة.. هذه كانت أهدافها



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية