عندما كشفت "اللحية" أزمة التيارات الدينية

عندما كشفت اللحية أزمة التيارات الدينية

عندما كشفت "اللحية" أزمة التيارات الدينية


12/09/2018

يكشف إطلاق اللحية واعتبار وجوبها عن أزمة منهجية لا يمكن إغفالها في أصحاب التيارات الدينية على العموم وخاصة الإسلام السياسي، وعدم قدرتهم على التفريق بين ما هو مندوب ومستحب، وبين ما هو واجب، أو محرم، وفق ما تفرضه مصالحهم.

وجوب يفرق المهديين عن الضالين

تبدأ الإشكالية الكاشفة عن جهل هذه التيارات من اعتبار بعض هذه الجماعات، أنّ اللحية واجبة، وأنّها من "الهدي الظاهر"، وهو سنة النبي الكريم في اللباس، والمظهر الخارجي، وسنن الفطرة وغيرها، ووجوب تطبيقها، وليس الاقتداء فقط، أو عدم عمله بالمطلق، وهذا ما تعتبره جماعات التكفير تمييزاً يفرق بين المهديين المرضيين، والمغضوب عليهم والضالين.

يكشف إطلاق اللحية وحكمها عن أزمة منهجية لا يمكن إغفالها لدى أصحاب التيارات الدينية على العموم وخاصة الإسلام السياسي

تستدل الجماعات على وجوب اللحية بـ 14 حديثاً نبوياً، لم يُبحث في مدى دقتها، كلها جاءت بالأمر "اعفوا اللحى"، وهنا اعتبرت التيارات السلفية والجهادية تحديداً أنّ الأمر لم تأت به قرينة تصرفه عن الوجوب، لذا فإطلاقها واجب، وهو عنوان على الاستجابة لأوامر النبي، والانتهاء عن نواهيه، وإلا فإن المسلم ساعتها سيكون مفرطاً مقصراً، في أهم سنة من سنن الهدي الظاهر!

يتصوّر البعض من أعضاء التيارات السلفية والجهادية، أن الإصرار على تطبيق هذه السنة، هو دلالة واضحة على سلامة نية العضو، وعلى أحقيته بالتقديم على غيره داخل التنظيم، وأنّ عدم حلقها رغم أي ضرورات كالتجنيد في الجيوش مثلاً، هو نوع من الصبر على الإيمان، لذا فقد أفتى عمر عبدالرحمن، لعضو في الجماعة الإسلامية، منعته إدارة كلية التربية الرياضية ألا يدخل حرمها، وهو ملتحٍ، أن عليه ترك الجامعة، والانتساب إلى غيرها، خير من قص لحيته أو حلقها!

تفاوت في تطبيق السنة المظهرية

وتتفاوت جماعات الإسلام السياسي فيما بينها في تطبيق الهدي الظاهر، وسنن الفطرة، وغيرها، فبينما تصر التيارات السلفية، مثل؛ جماعة التبليغ والدعوة، على تطبيقها حرفياً، في كل شيء، ومنها "الكحل في العين"، "إطلاق اللحية دون تهذيبها"، "شرب الماء جلوساً"، "ارتداء الجلباب القصير".. إلخ، تتركها جماعة الإخوان جملةً مدعيةً أنها تنظيم يتوافق مع روح العصر، كما تتركها الجماعات الجهادية إعمالاً للسرية، وحفاظاً على أمن التنظيم.

تعتبر جماعات التكفير المظاهر الخارجية تمييزاً يفرق بين المهديين المرضيين والمغضوب عليهم والضالين

رغم أنّ إطلاق اللحية مسألة فقهية تحتمل الاجتهاد، إلا أنها تحولت إلى مسألة عقدية، فقد أصرّ بعضهم على تطبيقها حرفياً، وإطلاقها دون تهذيب، ورأى بعضهم أن عبدالله بن عمر، كان يحلق ما تحت قبضته، ورأى آخرون أنه يجوز حلقها في دار الكفر والحرب، وآخرون قالوا إنه لا يجوز حلق شعرة منها بحال من الأحوال، كما لا تجوز الصلاة خلف حالق اللحية، لذا فالسيطرة على المساجد لإقامة صلاة فيها وراء عضو التنظيم واجب؛ بل وبعضهم كفّر حالق اللحية، وهي جماعات التكفير، التي لا تفرق بين المندوبات والواجبات، واستدلوا بقول بن تيمية، حول مخالطة سكان دار الكفر في هديهم الظاهر "إن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً، لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالتهم ومعاصيهم".

حروب اللحى

أما جماعات مثل القاعدة فقد ردت على الفور، بأنه يجوز حلق اللحية، واستدلت بقول ابن تيمية أيضاً في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"  في معرض حديث الظواهري عن مخالفة الكفار في الهدي الظاهر، قائلاً في موقع التوحيد والجهاد: "إن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان ظهر حقيقة الأحاديث من هذا".

تصرّ التيارات السلفية مثل جماعة التبليغ والهجرة على التطبيق الحرفي للهدي الظاهر وسنن الفطرة في كل شيء

بناء على ما سبق، كانت حروب جماعات الإسلام السياسي على هذه القضية، وكانت الاتهامات بينها؛ حيث اتهمت التيارات الجهادية الإخوان، أنهم أبعد عن الإسلام، وأنهم إنما يفعلون ذلك؛ لأنهم غارقون في السرية أيضاً، أو لأن بعضهم فسّاق منحلون، بينما ردت الأولى، على أن قياداتها ملتحون، وأن اللحية أصل وجوبها هو منبت الشعر فقط، وأنها تفعل ذلك لدواعٍ أمنية!

من الناحية التربوية تدعي بعض الجماعات أن اللحية والهدي الظاهر يحافظ على ثبات العضو، كما يحميه من الانحراف؛ إذ إنه لا يستطيع أن ينظر إلى امرأة في عرض الطريق، أو يشرب سيجارة في مواصلة عامة..، رغم أن الوقائع تثبت عكس ذلك؛ إذ إن بعضهم، ومنهم قيادات ارتكبوا كثيراً من الموبقات، ووقعوا في جرائم أخلاقية كبرى، نشرتها وسائل الإعلام، وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنهم ملتحون يحافظون على الهدي الظاهر كما يدّعون.

تموجّات فقهية وفكرية

مع التموجّات الفقهية والفكرية التي تحدث لتيارات الإسلام السياسي، رأينا بعض الجماعات تسير على سطر دون سطر، فجماعة الإخوان في مصر بعد ثورة 25 كانون الأول (يناير) 2011، أطلق قياداتها لحاهم، وعلى النقيض رأينا السلفيين يتخلون عن الهدي الظاهر تدريجياً، وشاهدنا أعضاءهم في البرلمان، يلبسون بدلاً إفرنجية، ويهذبون لحاهم، فيما ظلت محاولات التمايز سارية، إذ يحاول المسلّحون الداعشيون، وأعضاء فتح وتحرير الشام تعميم لباس للتنظيم، وهدي ظاهر، مثل اللحية، وتطويل شعر الرأس.

ولأن الجميع لا فرق بينهم في الفكر النصوصي، فيستدل المتحوّلون، بما كتبه الشوكاني في كتابه "نيل الأوطار"؛ حيث قال فيه، إن الأحاديث الـ14، التي وردت في اللحية، وجاءت كلها بصيغة الأمر، كانت بها علّة تصرفها عن الوجوب، وهي الاقتران؛ أي اقتران أمر الإعفاء بقص الشارب، أو حف الشارب، أو جز الشارب، وطالما اقترن هذا بذاك، ولم يجب إعفاء الشارب، فكذلك لا يجب إعفاء اللحية.

اللحية خير دليل، على أن العمل يسبق التنظير لدى هذه التيارات، فهم يعملون ثم يبحثون عن دليل من بطون الكتب، وأكبر هدف يسعون لأجله هو التمايز بينهم.

الصفحة الرئيسية