عبد الله الفكي البشير لـ "حفريات": المطلوب ثورة تحرر الشعوب من وصاية رجال الدين (2)

عبد الله الفكي البشير لـ "حفريات": المطلوب ثورة تحرر الشعوب من وصاية رجال الدين (2)

عبد الله الفكي البشير لـ "حفريات": المطلوب ثورة تحرر الشعوب من وصاية رجال الدين (2)


31/05/2023

أجرى الحوار: عبدالجليل سليمان

يواصل الكاتب والباحث والأكاديمي السوداني عبد الله الفكي البشير (مفكر جمهوري)، في الجزء الثاني من حواره مع "حفريات"، الحديث عن مشروعه البحثي الذي ينطلق من رؤية نقديَّة للإِرث السياسي والفِكْري في السودان، بشكل خاص، وفي الفضاء الإسلامي والإنساني بشكل عام. ويدعو المشروع، في تأمُّلاته للتاريخ والواقع ومُتطلبات الدخول في المستقبل، إلى الانتقال من نقد السياسات والنتائج إلى تفكيك التصوّرات ومراجعة الافتراضات والمُسَلّمات.

وفي هذا الجزء يسهب الفكي البشير في الحديث عن مشروعه البحثي المفتوح والمستمر موضوعه ومحوره فكر محمود محمد طه وسيرته الفكرية، وينتقد المؤسسات الدينية في السودان ودورها في تغذية التكفير.

وهنا نص الحوار:

لديك أطروحة ذائعة حول مساهمة المؤسسات الإسلامية في تغذية التكفير والهوس الديني، تحتوي على (5) رسائل موجهة  إلى الأزهر في  مصر، ورابطة العالم الإسلامي وجامعة أم القرى في السعودية، وجامعة أم درمان الإسلامية، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف في السودان.

هل تريد أن تقول إنّ هذه المؤسسات الدينية الرسمية، فائضة عن الحاجة وينبغي الاستغناء عنها؟

تجيء هذه الأطروحة عندي ضمن مشروع بحثي مفتوح ومستمر موضوعه ومحوره فكر محمود محمد طه وسيرته الفكرية، وقد أنجزت في سبيله، وما أزال، العديد من الكتب والأوراق العلمية، والمقالات الصحفية، والمحاضرات. جاءت الأطروحة في كتاب بعنوان: المؤسسات الدينية: تغذية التكفير والهوس الديني، (2022)، وتضمّن (5) رسائل موجّهة للمؤسسات الدينية التي أشرت إليها، وعرّج الكتاب على مؤسسات دينية أخرى، منها: هيئة علماء السودان، والندوة العالمية للشباب الإسلامي (السعودية). لقد كشف الكتاب بتتبع دقيق وبمنهج توثيقي صارم عن الدور الكبير لتلك المؤسسات الدينية في تغذية التكفير والهوس الديني في السودان، وفي الفضاء الإسلامي.

ويقرأ هذا الكتاب مقروناً بكتاب آخر نشر بعنوان: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف (2020). تناولت الرسائل مواقف تلك المؤسسات من محمود محمد طه، كما رصدت دورها في التكفير والتشويه، سواء بإصدار الفتوى بتكفيره أو ردته عن الإسلام، أو بضلوعها المستمر في تضليل الرأي العام بتنميط صورته، وتشويه سيرته ومشروعه الفكري. أظهرت الرسائل جمود الفكر وغياب الورع العلمي والوازع الأخلاقي في تلك المؤسسات، عبر تناقض مواقفها. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كان الأزهر في 5 حزيران (يونيو) 1972 قد أفتى بكفر محمود محمد طه. ليجيء الأزهر بعد نحو نصف قرن من الزمان، وفي ختام "مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي"، الذي عقده في القاهرة خلال الفترة 27- 28 كانون الثاني (يناير) 2020، وبمشاركة (46) دولة من دول العالم الإسلامي، ليعلن موقفه من التكفير على لسان شيخه ضمن البيان الختامي، حيث تحدث شيخ الأزهر للعالم، قائلاً: "التكفيرُ فتنةٌ ابتليت بها المجتمعات قديماً وحديثاً، ولا يقول به إلّا متجّرئ على شرع الله تعالى أو جاهل بتعاليمه، ولقد بينت نصوص الشرع أنّ رمي الغير بالكفر قد يرتدُّ على قائله فيبوء بإثمه، والتكفير حكم على الضمائر يختص به الله ـ سبحانه وتعالى ـ دون غيره".

المؤسسات الدينية: تغذية التكفير والهوس الديني، (2022)

وبالقدر نفسه كانت رابطة العالم الإسلامي قد أفتت ردة طه في 18 آذار (مارس) 1975. ليأتي أمينها العام بعد (42) عاماً ليعلن، في مناسبات مختلفة، رؤية الرابطة، قائلاً: إنّها رؤية مستنيرة لقيادة "الاعتدال" و"عصرنة" الخطاب الديني، ورفض التكفير، و"نشر قيم التسامح والمحبة والإخاء"، و"محاربة الغلو والتطرف".

الفكي البشير: المطلوب ثورة أخلاقية، لتحرير الشعوب في العالم الإسلامي من هيمنة المؤسسات الدينية، ومن وصاية رجال الدين، وثورة فكرية تحرر هذه المؤسسات من الفهم الخاطئ للإسلام

وعلى الرغم من ذلك، فإنّ المؤسسات الدينية، خاصة الأزهر ورابطة العالم الإسلامي، لا تعرف فضيلة الرجوع إلى الحق، وإلّا فعليها التراجع عن الفتوى بتكفير محمود محمد طه. أمّا جامعة أم درمان الإسلامية، فقد قامت بدور خطير في تكييف المزاج الديني في السودان وفي غرس الفتنة وبث ثقافة الردّة عن الإسلام، ولا يكفي تطهيرها إلّا بإعادة النظر في فكرة وجودها.

يُعبّر الكتاب بفصاحة عن أزمة الفكر الإسلامي، ولهذا فهو يدعو إلى الثورة الأخلاقية، لتحرير الشعوب في العالم الإسلامي من هيمنة هذه المؤسسات، وتحرير الشعوب من وصاية رجال الدين، إلى جانب تحرير هذه المؤسسات من الفهم الخاطئ للإسلام، مُذكّراً بأنّ المطلوب الثورة الفكرية.

في عام 2013، صدر لك مؤلف موسوم بـ (صاحب الفهم الجديد للإسلام؛ محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ)، وربما هذا الفهم الجديد المفارق للمتعارف عليه لدى "أهل السنّة والجماعة" والمذاهب الفقهية الـ (4)، التي تتبنّاها المؤسسات التي وصفتها بالمغذية للتكفير والهوس الديني، هي التي وضعت الجمهوريين على (تخت) التكفير.

لكن ما أريد التعرف عليه هنا، ما موقف المثقفين من أفكاركم/ أفكار محمود محمد طه؟

عن موقف المثقفين من محمود محمد طه، ومن واقع دراستي التي أشرت إليها، وقد جاءت في (1278) صفحة، وعبر رصد دقيق وواسع، يمكن القول إنّ هناك بعض المثقفين الأحرار الذين ظلوا يعبّرون عن احترامهم له ولمواقفه الوطنية، ويعبّرون عن احتفائهم بأفكاره الإنسانية، كما أعلنوا عن مناصرتهم ودفاعهم عن الفكر الحر، وعن حرية التعبير. بينما كان موقف جلّ المثقفين، للأسف، متماهياً مع رجال الدين والسلطة السياسية. ولا تنفصل قراءة تلك المواقف عن مناخ الإرهاب الذي عملت المؤسسات الدينية على بثه في الفضاء السوداني، خاصة هيئة علماء السودان، التي كانت تصدر البيانات وتهدد المثقفين وتطالبهم بألّا يدعموا محمود محمد طه. وقد فصّلنا كل ذلك في كتبنا آنفة الذكر. وممّا يؤسف له أنّ الأكاديميا السودانية ظلت حتى تاريخ اليوم تُقصي محمود محمد طه ومشروعه عن دوائر البحث العلمي.  

الفهم الجديد للإسلام الذي طرحه محمود محمد طه هو ثورة إنسانية، أحدثت انقلاباً في الفهم السائد والمألوف للإسلام، وهزّت عروش رجال الدين ووضعت المؤسسات الدينية ومشايخها أمام تحدٍّ فكري لم يألفوه من قبل

وبالطبع هناك قطاع من المثقفين لا ينقصه الكسل العقلي، الذي هو أحد أهم أسباب العداء للجديد. كما تأثر بعض المثقفين بسردية الكسل العقلي وتناسل الجهل، التي نسجها، بلا حق وبلا ورع علمي أو وازع أخلاقي، رجال الدين. وهي سردية تقوم على التكفير والالحاد.

وعلى الرغم من كل هذا، فهناك الآن اهتمام كبير وانشغال واسع بفكر محمود محمد طه. لقد بدأت الجامعات في تونس، والمغرب، والجزائر، وليبيا، والأردن، والعراق، ولبنان، وغيرها، بتنظيم المؤتمرات وإقامة المحاضرات وإعداد دراسات الدكتوراه والماجستير عن فكر محمود محمد طه. كما صدر الكثير عن الكتب، وما تزال تتدفق. الأمر الذي يجعلنا نشهد بناء سردية جديدة قوامها العلم والأخلاق والمسؤولية.

اعتنى الفكر الجمهوري بالحريات الفردية والكرامة، ونافح عنهما تحت شعار (الحرية لنا ولسوانا)، وقد قال الأستاذ محمود محمد طه: إنّ الله لم يجعل حتى النبي، عليه السلام، وصياً على الحرّية الفردية، وعضد ذلك بالآية الكريمة "فذكّر إنّما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر"، أليست فكرة مثل هذه مخيفة لكونها تضرب عمق إيديولوجيات المدراس الفقهية والإسلام السياسي على حدٍّ سواء؟ اشرح لنا أكثر في هذا الخصوص.

نعم، إنّ الفهم الجديد للإسلام الذي طرحه محمود محمد طه هو ثورة إنسانية، أحدثت انقلاباً في الفهم السائد والمألوف للإسلام، وهزّت عروش رجال الدين الإسلامي، ووضعت المؤسسات الدينية ومشايخها أمام تحدٍّ فكري، لم يألفوه من قبل، غير أنّ تطور الحياة، ومع مرور كل يوم جديد، كشف لهم عن صحة ما جاء به طه، فأصبح كثير منهم ومن المفكرين المسلمين، وبناءً على رصد دقيق منّا، يتبنّى أفكار طه دون أن يذكره أو ينسبها إليه. كذلك اتسم المشروع بالغرابة، والغرابة، كما يقول طه، من لوازم البعث الإسلامي.

محمود محمد طه

بالنسبة إلى موضوع الحرية، فهي عند محمود محمد طه إحدى الحقوق الأساسية: حق الحياة وحق الحرية وما يتفرع عنهما. ويتفرع عن حق الحرية حرية العقيدة وحرية الرأي وحرية التفكير وحرية المعرفة... إلخ، ويتفرع عن هذه الفروع فروع كثيرة غرضها كرامة حياة بني آدم. والحرية، عنده، حق مقدس، ويقول: "الحرية هي روح الحياة". وغاية الحياة، عنده، إنجاب الفرد السعيد، وهي غاية الحكومة الصالحة... ولا تتوفر السعادة للفرد، كما يقول، إلّا إذا حقق فرديته التي ينماز بها عن سائر أفراد القطيع. ولكي يحقق كل فرد فرديته لا بدّ من الحرية. والفردية، عنده، هي جوهر الأمر كله، وهي التي عليها مدار التكليف، ومدار التشريف، وموازين الحساب، ويتساوى في ذلك الرجال والنساء، يقول الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)، ويقول: (فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ * وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ)، ويقول: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ). هذه المساواة بين الناس، بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة، هي أصل الإسلام.

ويرى طه أنّ الحرية حق يقابله واجب... هذا الواجب هو حسن التصرف في الحرية، لذلك يقول: "الحرية مسؤولية"، ولا حدود للحرية، إلّا حيث يعجز الحّر عن التزام واجبها، فتصبح محدودة بطاقته على الالتزام.

أمّا الآيتان اللتان أشرت إليهما، وهما قول الله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)، هما، عند طه، آيتا الديمقراطية. يقول طه: ومن كرامة الإنسان عند الله ّأن الحرية الفردية لم يجعل عليها وصياً، حتى ولو كان هذا الوصي هو النبي، على رفعة خلقه وكمال سجاياه. كما أنّ آية الشورى التي يعتبرها علماء المسلمين آية ديمقراطية، فهي، عند طه، غير ديمقراطية،  وإنّما هي آية حكم الفرد الرشيد الذي جعل وصياً على القصر، وأمر بترشيدهم حتى يكونوا أهلاً للديمقراطية، بنهوضهم إلى مستوى حسن التصرف في الحرية الفردية.

اقرأ أيضاً: عبد الله الفكي البشير لـ"حفريات": ليس للإخوان وفكرهم مستقبل في السودان (1)



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية