
محمد أبوالفضل
تعمل قيادات جماعة الإخوان في مصر، وغيرها من الدول العربية، بالقاعدة التي يدرّسها أساتذة الإعلام في كلياتهم النظرية، وهي أن تُذكر سلبًا في وسائل الإعلام خير من ألا تذكر أبدًا، ففي هذه الحالة لن تُنسى أو يتم تجاهلك فترة طويلة، وتظل محل أخذ ورد، وشد وجذب، ولو وجهت إلى الجماعة انتقادات واتهامات، ومهما كانت قسوتها فهذا يعني أنها لا تزال على قيد الحياة وربما في بؤرتها السياسية، وهو المُراد من جدل دار قبل أيام في القاهرة بشأن بيان أشار إلى اعتزال الإخوان العمل السياسي، ثم جاء نفي له وما حواه من مضامين، بما يؤكد القاعدة السابقة.
حرّك البيان والنفي والنقاش والتداعيات، سلبًا أو إيجابًا، المياه الراكدة في نهر الجماعة الآسن، والذي لم يعد كثيرون في مصر يهتمون به أو ينشغلون بما يعتمل في مجراه السياسي، وماذا يفعل قياديو الإخوان في تركيا وقطر وماليزيا والبوسنة وغيرها، وإلى أي مدى وصلت الخلافات والتجاذبات بينهم، وكيف انشطرت الأجنحة، ومن أصبحت له الغلبة السياسية، ومن يسيطر على الشق المالي، ومن يدير الجناح المسلح؟
تغيب هذه الأسئلة عن ذهن المواطن العادي، خاصة الشباب الذين لم تستطع الجماعة أن تصل إليهم وهي في أوج قوتها وتجند شريحة منهم، فنشأوا على تجاهلها لعدم معرفتهم بها، بالتالي لا يتابعون ضجيجًا يطفو من وقت إلى آخر، ويجذب إليه القطاع الذي لا يزال أصحابه يهتمون ويريدون التعرف على المحطة التي رست فيها قلاع الجماعة.
علاوة على أن الإعلام الصاخب التابع للتنظيم أو الذي يدور في فلكه فقد بريقه لدى من كانوا يتابعونه داخل مصر جريًا وراء البحث عن قصة مسلية أو حكاية تسد فراغًا إعلاميًا، حيث مضى على نشاطه الصاخب في الخارج أكثر من عشر سنوات ولم تصدق توقعاته في الثورة أو العودة إلى السلطة أو حتى انتظار مظاهرة محدودة مؤيدة للجماعة في أحد ميادين القاهرة، قد تفجر بركانًا من الغضب ضد نظام أجاد فنون التعامل معها، وقوّض أجنحتها وقطع الكثير من جذورها في المجتمع المصري.
بحث إعلاميو الجماعة عن ثغرة أو فقاعة يجذبون بها الجمهور المصري إليهم وأخفقوا، وحاولوا توصيل رسائل إلى أجهزة الدولة بالغفران وتم تجاهلهم، وقام تابعون للإخوان بعمليات إرهابية وجرى القبض عليهم أو تصفيتهم ومن هربوا تشظوا في المنافي، وتلاشى تأثيرهم في الشارع المصري، وبات الحديث عنهم عورة أو سُبة يتمنى الكثير من المنتسبين إلى الجماعة إزالتها، لأنها تذكّرهم بخيال ليس له علاقة بواقع جديد تشكلت ملامحه النهائية، ولم يعد للإخوان فيه حضور أو اهتمام بما يدور داخل الجماعة أو متابعة لمواقفها وأين وصلت سفينتها، فكان من المهم البحث عن قضية تعيد إليهم بصيصًا من الضوء، عسى أن يتذكرهم الناس.
تعتقد قيادات الإخوان أن الأزمات الاقتصادية المتراكمة في مصر فرصة لإعادة الاعتبار إليها، ثم اكتشفت أن هذه الحالة لم تُوجد غضبًا عارمًا ضد النظام المصري ولم تخلق تعاطفًا معها، أو حتى حنينًا دينيًا لعقيدتها، فالسلطة تحاول تخفيف الأعباء وتجاوز ما نجم عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وإن ظهرت معالم ضيق من سياساتها، لم تصب في صالح التنظيم أو تؤدي إلى اشتياق لأيامه الصعبة.
تقدم قيادات الجماعة رسائلها لجس نبض النظام المصري وتبدو كأنها تقدم تنازلات كبيرة وهي لا تملك عناصر قوة مادية أو معنوية تمكنها من الحصول على وزن سياسي يجعلها رقمًا مهمًا أو على هامش المعادلة السياسية، وهو ما استشعرته تقديرات الأجهزة الأمنية، ودفعها إلى عدم التجاوب مع رسائل الإخوان الجادة والمزيفة، فأغلب المصريين أغلقوا صفحة الجماعة وغير شغوفين بمعرفة تطوراتها، بما فيها رسائل التوبة والاستغفار والكُفر بما آمنت به كوادرها، الأمر الذي أوجد أزمة مضاعفة داخل تنظيم اعتاد على المراوغة والمناورة والانتهازية.
أشد ما يقلق الإخوان الآن هو سد الكثير من الأبواب والنوافذ أمامها، فالداخل لا يتقبل منح فرصة جديدة يخوضها مع الجماعة لتخدعه مرة أخرى بالتقية الدينية والبراغماتية الاجتماعية والانتهازية السياسية، وكل أساليب الخشونة والليونة فشلت في تمكينها من التسلل إلى الشارع، وأخفقت في أن تخلق لها مكانًا تحت الشمس في مصر، ما جعل النظام المصري صارمًا في رفض التعامل أساسًا مع رسائل جس النبض أو الاستتابة السياسية، لأنها تأتي من مهزوم ينحني مؤقتًا للعواصف.
كما أن الأرض بما رحبت ضاقت على الجماعة وعناصرها في غالبية الدول التي ساندتها، وبدأ الدعم التركي يتراجع، والمؤازرة القطرية تتوارى، وجاء نشوب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وبالًا على القوى الإسلامية، والإخوانية تحديدًا، فالعملية التي قامت بها حركة حماس الفلسطينية في السابع من أكتوبر – تشرين الأول الماضي، والمعروفة بطوفان الأقصى خلّفت وراءها إرثًا أمنيًا وسياسيًا مخيفًا، يجعل من ربيع الجماعة الغربي ينتهي، ويواجه من يبدي تعاطفًا معها بزعم أنها فصيل “معتدل” أو رأس حربة في مواجهة المتشددين لومًا لا ينتهي، ما قاد إلى الرهان على الداخل في مصر، على أمل تليين موقف السلطة في القاهرة، والسعي نحو فتح صفحة بلا عداء مع الإخوان.
تقطعت السبل، وانهارت خطط الجماعة، مع أول رد فعل حاسم من الدولة المصرية، لكن المتاجرين بالإخوان والمستفيدين من التنظيم والمتواطئين معه ينفخون في رسائل التوبة من حين إلى آخر، وفي كل مرة يأتيهم الرفض جاهزًا، ومع ذلك قد تظهر رسالة قريبًا تتضمن المحتوى نفسه، لكن بصيغة مختلفة وأشخاص آخرين، تتجاوب معها فئة قليلة، وتتوقف عندها أعداد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ما يعني أن سردية -أو قاعدة- التواجد في الإعلام، ظالمًا أو مظلومًا، جانيًا أو مجنيًا عليه، سوف تتضاءل أهميتها في المدى المنظور، لأن هناك انشغالات أكثر حيوية من الإخوان وحيلهم.
لا أعلم كيف ستستعد الجماعة عندما ينضب معينها، وينتهي التفاعل النسبي مع ضجيجها، خاصة أن شريحة كبيرة ممن انخرطوا في صفوفها ارتدت على أفكارها، وصارت تلعن اليوم الذي تم تجنيدها في صفوفها ودفعت ثمنًا باهظًا ليجني آخرون مكاسب خاصة بهم، وينشغل أفراد هذه الشريحة -بشكل فردي- بالبحث عن توبة أو ملاذ آمن لهم، لأن التمسك بالجماعة في أحلك ظروفها أصبح وبالًا عليهم، وهؤلاء يواجهون تحديات كبيرة للتأقلم مع بيئة عرفت تاريخهم وخباياهم، وتخشى مكونات هذه البيئة أن تكون الرغبة في الخروج من التنظيم تحمل أهدافًا خفية.
العرب