لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد!
وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى...
ودمعة سدى!
أمل دنقل – كلمات سبارتاكوس الأخيرة
شرارة الربيع العربي، التي انطلقت في مطلع عام 2011، شحذت همم الشعوب التي أصبح أملها في التغيير ممكناً، وبدأت عقولها تتحرّك باتجاه المحظور، الذي لم تجرأ على مجرد التفكير به قبل ذلك التاريخ، فأنظمة تخطّى عمرها الربع قرن، ولا تزال متمسكة بكراسي الحكم، وتبدّد أحلام الشباب.
اندلعت الشرارة الأولى من تونس، شرارة ألهمت الجميع، وظهر الحلم كأنّه قاب قوسين أو أدنى، وهرب زين العابدين بن علي. وما هي إلّا أيام، حتى سرت عدوى الحرية إلى مصر؛ حيث استفحل الظلم، وتحمّل الشعب ما لا يطيق من نظام سياسي استعبد الشعب، وفاقم الصراع الطبقي، وحصر ثروات البلاد في أيدي حفنة من رجال المال والأعمال، يلقون فتات الحياة للشعب كي يقوى على خدمة الأسياد من الأثرياء لا غير، صحيح أنّ مبارك لم يذهب إلى حيث ذهب ابن علي، لكنّه ذهب.
الشباب صار أكثر نقمةً على نجوم الخطاب الإسلامي وأصحاب المصالح، الذين كانوا نجوماً قبل الثورة
انتفضت ليبيا، التي عانت أكثر من أربعين عاماً من حكم طاغية مصاب بجنون العظمة، بدّد ثرواتها في صفقات السلاح، ولم يهتم سوى ببناء ميليشيات لحمايته من الرعيّة التي نهبها لعقود زمنية، قتل القذافي، بعد انتقال عدوى الحرية إلى اليمن التي تمزقت إرباً، بين رئيس يأتي، وآخر يرحل، وشعب ينتظر بلا طائل.
ثم جاءت سوريا التي ثار شعبها ضد الظلم والطغيان وتفرد الحكم، ونشداناً للكرامة. فهل لا يزال الشباب العربي يرى ما جرى ربيعاً، أم تسبّب تحول دفة السياسة والانقلاب على الشباب في خلق نظرة أخرى لديهم يشوبها الألم والإحباط؟!
هرمنا من أجل هذه اللحظة:
كلمات تردّد صداها على شاشات التلفاز، لذلك الرجل التونسي، وهو يعبّر عن فرحته برحيل ابن علي، فقد تحققت آمال الشعب التونسي التوّاق للحرية، وبدأت القوى السياسية في استجماع قواها، مرة أُخرى، لبناء الدولة الحديثة، بعد ثورة قدّم فيها الشباب دماءهم، إلّا أنّ الرياح لا تأتي دوماً بما تشتهي السفن، فإخوان تونس ينتهزون الفرصة، وهاهم يتصدّرون الساحة السياسية، ليثبتوا أقدامهم، ويستحوذوا على الحكم، وتتحقق أهدافهم، وهو أمر محبط لمن قادوا الثورة، بعد أن حلموا ببناء دولة مدنية، لا مكانة فيها لجماعات دينية تعتلي المناصب السياسية.
شرارة الربيع العربي شحذت همم الشعوب الراغبة في التغيير فبدأت تتحرّك باتجاه المحظور فكانت الثورات انتفاضة عقلية
يقول الناشط التونسي عزيز عمامي لـ "حفريات": بعد رحيل ابن علي، استجمعت القوى المدنية عافيتها، وبدأت تلتحم بالشعب، لبناء تونس الجديدة، دولة مدنية بلا ديكتاتوريات، لا سياسية ولا دينية ولا عسكرية، لكنّ إخوان تونس ليسوا سوى بضعة مرتزقة، يقفزون فوق نجاحات الآخرين لينسبوها لأنفسهم، لقد ثرنا من أجل الحرية، في عهد ابن علي، الذي تجذّر على يده الفساد في تونس، وأصبح أصحاب المؤهلات العليا من رواد المقاهي، التي أصبحت مأوى لهم بعد انقطاع السبل إلى الوظائف التي تضمن لهم حياة كريمة، والتي دفعت العديد من الشباب للهرب، إمّا إلى البحر المتوسط يبحثون عن مستقبل أفضل فتستقبلهم يد الله، وتريحهم بالموت، أو إلى الجماعات المتطرفة، وهو ما رآه العالم، من الإرهابيين التونسيين الذين ينتشرون في كلّ أنحاء الكوكب، وما هم إلّا صنيعة نظام ديكتاتوري فجٍّ، دمّر أحلام الشباب، ودفعهم دفعاً إلى العنف، أمّا عن الثورة؛ فهي مطلب شعبي وعملية مستمرة، ولا زال المدّ الثوري يعمل على فرز الفاسدين، ولقد اكتسب التونسيون حرية، يعضّون عليها بالنواجذ، ومهما فعلت الأنظمة، فلن تسلبنا الحرية التي توسعّت أفقها أمام الشباب بعد الثورة".
الهجرة ملاذنا الآمن من قسوة الوطن
(ع. أ) شاب مصري شارك في ثورة يناير، وقاد الجموع في ميدان التحرير على مدار الأعوام التي اشتعلت فيها الاحتجاجات الثورية، حتى عام 2013، وإسقاط حكم الإخوان المسلمين، ثم هرب إلى كندا، بعد أن حُكم عليه بالسجن في بدايات عام 2014، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية، في بداية حديثه لـ "حفريات"، قال: "شكراً ثورة يناير، على الوعي والألم، فهما أهم مكتسبات الثورة التي لم تكتمل بعد، وهي في طريقها نحو الاكتمال، لكن أمامنا مسيرة طويلة، فنحن شعب يحمل إرث العبودية منذ قرون من الزمان، لا ننتظر أن ينتهي هذا كلّه لحظة، ولقد حققنا مكتسبات من الثورة لا تقدّر بثمن، بالطبع لم يتغيّر النظام، لكنّ الإنسان المصري تغيّر، وصار الشعب أكثر وعياً، يمتلك القدرة على تمييز المزيّفين من المناضلين الحقيقيين، ونستطيع أن نرى ذلك بسهولة؛ فالشباب صار أكثر نقمة على الأوضاع، وعلى نجوم الخطاب الإسلامي وأصحاب المصالح، الذين كانوا نجوماً قبل الثورة، إلّا أنّ الشعب استطاع أن يلفظهم، وكلّ هذا بفضل الثورة، وإن لم يكن العالم قادراً على استشعار نتائج حقيقية بمقاييس سياسية، فالنتائج لا زالت حبيسة العقل المصري، الذي زاده الوعي ألماً، لكنّه أصبَح واعياً لأمور، لم يكن على دراية بها من قبل، ولولا الثورة، لغرقنا أكثر في ظلمات الجهل، أكثر ممّا نحن غرقى الآن".
ليبيا ممزقة بين مطرقة الإرهاب وسندان التخلف
يقول زياد مطر، وهو طالب يدرس العلوم السياسية بجامعة القاهرة، بعد أن قدم إليها من طرابلس، التي أصابها ما أصابها من الاضطرابات التي وقعت عام 2011، فرّ هارباً ليجد في مصر ملاذاً آمناً لاستكمال حلمه الدراسي، الذي جعلته الحرب بعيد المنال: "ربما أصابتنا الثورة بالألم، إلّا أنّنا سعينا إليها للتخلّص من ديكتاتور، أصابنا وبلادنا بالهلاك، وأمّا من يعتقدون أنّ الثورة هي سبب ما وقعت فيه ليبيا، من حضور خاص للجماعات الإرهابية، ليس هذا سوى شمّاعات يقدّمها العقل الباطن، ليجدّد مبرراً لما يحدث، والسبب الحقيقي يكمن خلف ما فعله نظام مصاب بالجنون الفعلي، والبارانويا الحادة، التي جعلت المجتمع الليبي منغلقاً، ضيّق الأفق، لا يقرأ إلّا الكتاب الأخضر، ولايستمع سوى لأوامر الطاغية، كانت هذه نتيجة طبيعية؛ أن ينفجر المجتمع، برعاية أمريكا وأوروبا، التي تريد السيطرة على النفط الذي حُرم أهله من خيراته، فتوزّعت بين الديكتاتور، والإمبريالية العالمية التي قضت على حلمنا بالحرية والاستقلال. ولولا الثورة لما توسّع أفقي لما أنا عليه الآن، ولكنت شاباً عادياً يسير بين القطيع، يسمع ما يُملى عليه من أوامر، وينغمس في هذا الإنغلاق والمجتمع المتخلف".
يوماً ما سأشتم رائحة الياسمين
بين أطباق الشاورما التي يصنعها السوريون ببراعة مطلقة، ورائحة الكبة الشامية التي يعشقها المصريون، يقضي فادي أيامه في القاهرة، بعد أن فرّ هارباً من لبنان، بعد أن رحل عن الشام هارباً من وطأة الحرب. يحب فادي أن يسرد قصته على مسامع أصدقائه المصريين، ليحكي عن سوريا وأهلها، كيف أصبحت وكيف كانت، لكن حين سألناه عما تغيّر فيه بعد تجربة الحرب، والثورات العربية التي شهدتها مصر وتونس، قال لـ"حفريات": "لديّ الأمل أن أعود يوماً إلى الشام، أصنع أطواق الياسمين من حديقتي للأطفال الصغار، وأشرب المتّة، فالاغتراب عن الوطن شيء قاسٍ، لا يعلمه إلّا من خاضه، لكنّ قسوة الحياة دفعتني للبحث عن منفذ آخر، واكتشاف أفق جديد للحياة.
يتابع: لم يكن متاحاً لي من قبل، فما حدث كان أشبه بخبطة على الرأس أيقظت أجزاء في عقلي، لم تكن تعمل من قبل، الحراك المجتمعي والتفكير في أمور الناس، والاطلاع على خبايا السياسة والحُكّام، التي صارت في متناول المواطن العادي، بعد أن كانت سرّاً حربياً، ولّد لدي رغبة أكبر في المعرفة، وشعرت كما لو كانت حياتي السابقة غيبوبة، وها أنا قد استفقت، بالطبع الحياة مؤلمة، لكنّ الشعور بوخز الحياة هو ما يسعى إليه الإنسان، ليهرب من الموت، ومن يفعل غير ذلك لم يُصاب بمسّ الثورة، فالثورة أشبه بانتفاضة عقلية، تعيد هيكلة كلّ ما وجدنا أنفسنا عليه، واعتبرناه أمراً مفروغاً منه، لكن لا أتمنى شيء الآن أكثر من عودتي، ولو يوماً واحداً، لأزرع الياسمين".