
حسن فحص
إذا صحت الرواية الإسرائيلية والأرجح أنها أقرب إلى الحقيقة والواقع، فإننا أمام عملية نوعية تشبه كثيراً العملية التي قامت بها الأجهزة الأوكرانية ضد القاذفات الاستراتيجية الروسية في عمق الأراضي الروسية، إلا أنها تختلف عنها بأن العملية الإسرائيلية كانت مركبة بين النشاط الداخلي لشبكات تابعة لها إلى جانب الهجوم من الخارج باستخدام سلاحي المقاتلات الحربية والصواريخ على كل المساحة الجغرافية لإيران البالغة نحو مليون و600 ألف كيلومتر مربع.
أن تنجح تل أبيب بإنشاء قواعد لإطلاق الطائرات المسيرة داخل الأراضي الإيرانية يقدم تفسيراً منطقياً لنوعية الضربات التي تعرضت لها كثير من الأبنية في العاصمة الإيرانية طهران، وأدت إلى اغتيال عدد من القيادات العسكرية والعملية النووية داخل منازلهم، أي إن الجزء الأساس من الهجوم الإسرائيلي هو هجوم مركب انطلق من داخل الأراضي الإيرانية قامت به عناصر بشرية تعمل لمصلحة الأجهزة الإسرائيلية، امتلكت كامل حرية العمل في رصد الأماكن والمنازل، إضافة إلى حرية التحرك في نصب منصات إطلاق المسيرات وتوجيهها إلى أهدافها.
هذه العملية المركبة والمعقدة، وفي جزئية استهداف القيادات العسكرية والعملية، تعيد إلى المشهد عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران قبل نحو 10 أشهر، وتقدم تفسيراً منطقياً للأسلوب والآلية التي تمت بها هذه العملية، وترجح إمكان أن يكون الاستهداف عبر صاروخ موجه أو طائرة مسيرة انطلقت من مكان قريب من مقر إقامته التابع لحرس الثورة ويخضع لمستويات عالية من الحراسة والرقابة.
يبدو أن الهجوم الإسرائيلي استطاع تحييد غالبية القدرات العسكرية الإيرانية البشرية والتسليحية، إضافة إلى إلحاق أضرار كبيرة بالمنشآت النووية الرئيسة وتعطيلها إلى زمن طويل بالحد الأدنى، فضلاً عن إخراج القواعد الجوية والطيران المقاتل وقواعد الصواريخ ومصانعها، مما يكشف حجم الدقة الإسرائيلية في تحديد الأهداف ورصدها ونقاط ضعفها. وهذا يعني أن ساعات معدودة كانت كفيلة بإخراج كل القيادات العسكرية لحرس الثورة الإسلامية واليد الطولى للنظام من المشهد، وتحويل كل المواقف والتهديدات التي كانت تصدر عن هذه القيادات إلى مجرد "وهم" ينسحب أيضاً على "وهم" آخر يتعلق باستعراضات القوة والقدرة على التصدي لأي هجوم وإحباطه.
التخبط في التعامل مع هذه الأحداث والتطورات ظهر بصورة واضحة من خلال محاولة استيعابها في اللحظات الأولى، بالكشف عن تعيينات سريعة في قيادة الأركان المشتركة والقيادة العامة للحرس، ليعود بعد ساعات ليعلن المرشد الأعلى للنظام الذي يشغل أيضاً القائد الأعلى للقوات المسلحة عن تعيينات مختلفة، لتكون أول المؤشرات إلى محاولة النظام وما تبقى من قيادته العسكرية استيعاب تداعيات هذا الانهيار السريع في المنظومة الدفاعية والقتالية والقيادية للقوات المسلحة.
بعض التقديرات تذهب إلى أن أسباب هذا التخبط التي أطلق عليها تعيينات موقتة تعود إلى انعدام الوزن داخل القيادة العسكرية التي سارعت إلى هذه التكليفات، نتيجة إحساسها بوجود فراغ على رأس النظام الذي تعرض لمحاولة استهداف حسب رواية إسرائيلية تحدثت عن نجاته في اللحظات الأخيرة من صاروخ أصاب الموقع الذي كان موجوداً فيه.
مسارعة النظام لترميم الخسائر التي أصابت قيادته العسكرية تأتي في إطار الاستعداد والتحضير لخطوة تالية من المفترض أن تتمحور حول آليات الرد وحجمه وكيفيته، مما يسمح له بترتيب وتنظيم ما تبقى لديه من قدرات بشرية لقيادة مرحلة الرد، الذي لن يكون سريعاً بانتظار التعرف إلى كل الخسائر وتعويضها أو ملء الفراغ الذي أحدثته.
أسئلة كثيرة تثار حول طبيعة وحجم وحدود الرد الإيراني، وهل سيكون واسعاً لا يقتصر على استهداف الداخل الإسرائيلي، بل يتجاوزه لاستهداف بعض القواعد الأميركية في الإقليم، بخاصة أن إشارات صدرت عن بعض الجهات الإيرانية حملت واشنطن مسؤولية المشاركة بهذه الضربة والهجوم، على رغم نفي الأخيرة ذلك باستثناء أخذ العلم بها. وقد كان واضحاً موقف الخارجية الإيرانية في البيان الذي أصدرته تحميل واشنطن المسؤولية عن الآثار والتبعات الخطرة للمغامرة الإسرائيلية، وهي اتهامات تعززها المواقف التي صدرت عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب تعليقاً على الهجوم وتوعده النظام الإيراني بمزيد من الضربات.
النتيجة الأولية لهذه الضربة على المستوى السياسي ترتبط بالموقف الإيراني من استمرار المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة، ومصير الجولة السادسة التي كانت مقررة غداً الأحد، فعلى رغم محاولة الرئيس ترمب الاستثمار السريع في هذه الضربة ودفع النظام للجلوس إلى طاولة المفاوضات وعدم مغادرتها والتعاون من أجل التوصل إلى اتفاق، فإن الموقف الإيراني يبدو أنه ذهب إلى رفض انعقاد الجولة الجديدة، مما يعني أن قيادة النظام ومنظومة السلطة قد وصلت إلى قناعة بعدم جدوى الاستمرار في الحوار والتفاوض، نتيجة الخدعة الكبيرة التي تعرضت لها.
ويبدو أن التأخير في ردة الفعل الإيرانية مرتبط بخطط الرد وحجمه والمواقع التي سيستهدفها، وانتظار أن تتراجع حدة الاستباحة الإسرائيلية للأجواء الإيرانية وترصدها لأي تحركات قد تحصل في قواعد إطلاق الصواريخ للانقضاض عليها وتدميرها ومنعها من الفاعلية، بخاصة بعدما استطاعت تل أبيب تحييد معظم قواعد السلاح الجوي. وهل سيكون مقتصراً على الإسرائيلي بناءً على ما جاء في رسالة المرشد الأعلى إلى الشعب الإيراني وتأكيده بأن "العدو الصهيوني سيتلقى جزاء أعماله الإجرامية بشكل قاس وقوي"، أم سيتوسع باتجاهات مختلفة قد تتعدى القواعد الأميركية لتطاول مصادر الطاقة، بخاصة أن الاستهدافات الإسرائيلية ضربت عدداً من المنشآت النفطية والاقتصادية الإيرانية في الأقل في مدينة تبريز؟
من المستبعد أن تذهب القيادة الإيرانية إلى التفاوض تحت النار، وأن تجد نفسها محاصرة للقبول بالشروط التي قد تفرض عليها، لذا فهي معنية بالذهاب إلى الرد في اللحظة المناسبة من دون مماطلة، بغض النظر عن النتائج المحتملة لهذا الرد وتداعياته، بخاصة بعد إدراكها خطورة التردد الذي مارسته منذ استهداف عمقها الاستراتيجي، وبعد أن شاهدت بوضوح تراكم الخسائر التي لحقت بدرعها الإقليمية نتيجة العملية العسكرية التي استهدفت "حزب الله" في لبنان وسقوط النظام السوري، من دون أن تبادر إلى قراءة حقيقية للمشهد الذي كان يؤشر إلى أنها الهدف الأخير والنهائي لهذا المسار الذي بدأ مع طوفان الأقصى.
اندبندنت