أجرى الحوار: سامح فايز
قال القاصّ والكاتب التونسي، ساسي حمام: إنّ المؤسّسات العربية لا تعبّر عن نبض الشارع، ولا عن المسحوقين، ولا تحقق طموح الإنسان العربي، مضيفاً في حوار مع "حفريات"، أنّ المثقف؛ عربيّاً وتاريخيّاً، "لم يخرج من عباءة السلطة، ومَن خرج قُتل أو تم عُذّب".
يوجد في تونس كتّاب يملكون عشرات الكتب لكن هناك شعراء كبار ولا يملكون إلّا ديواناً واحداً بسبب تعقيدات عملية النشر
وعبّر حمام عن التحامه مع "الربيع العربي"، مهما قيل فيه، ومهما سيقال؛ لأنّه يرى أنّ "البحث عن العدالة والتوق إلى الحرية، من النفس الإنسانية"، موضحاً أنّ السبب وراء استقالته من اتحاد الكتّاب؛ أنّه "لا يعبّر عن مظالم الشعب وهمومه"، برأيه.
وأشار حمام إلى أنّ رغبة بعض التونسيين لتقوية إيمانهم، بعد غياب الحصص الدينية بالمدارس أثناء حكم بن علي، دفعتهم للارتماء في أحضان الفضائيات الدينية دون أن يعرفوا توجهاتها وأهدافها.
وساسي حمام؛ قاصّ ومترجم تونسيّ، عمل في وزارة التّربية والتّعليم، صدرت له من المجموعات القصصيّة: "لاهثون معي"، و"قطع غيار"، وقد انتخب لأربع دورات عضواً في هيئة المديرة لاتّحاد الكتّاب التّونسيين، كما كان رئيساً لفرع ولاية نابل لاتّحاد الكتّاب التّونسيين، لسبع دورات، وهو عضو نادي القصّة "أبو القاسم الشّابيّ"، وقد حصل على جائزة الدّولة التشجيعية في القصة القصيرة عام 1982، ووسام الاستحقاق التربوي عام 1999، ووسام الاستحقاق الثقافي عام 2006.
وهنا نصّ الحوار:
تحديات الكتابة والنشر
أنت مقلّ في النشر، فعلى مدار أربعين عاماً نشرت مجموعتين قصصية، ما أسباب ذلك؟
أنا شديد مع نفسي في الواقع، لا أنشر إلا القصة التي أرضى عنها تمام الرضا، وإذا نشرت مجموعتين قصصيّتيْن طيلة أربعين عاماً، فهذا لا يعني أني لا أنشر شيئاً، فأنا دائم النشر في المجلات والصحف العربية التونسية، لكن لا أجمع ما نشرته من ترجمات، ومن قصص، في مجموعات؛ بسبب صعوبات النشر، واشتراط أن تدفع، فلا تنشر كتاباً إلا وتدفع ثمن الطباعة وتكاليفها، وأنا ليس في استطاعتي أن أدفع كي أنشر، ومن ثم أقوم بالتوزيع، وأدعو الناس لقراءة كتابي وشرائه، فأنا أكتب على منصات مختلفة، فمن قرأ يقرأ، ومن لا يريد أن يقرأ، فلا أذهب إليه.
في بعض الدول العربية؛ ثمّة تعقيدات في نشر المجموعات القصصية، بحجة أنها لا تباع، لكنّ فنون الكتابة الأخرى سهلة النشر. هل يختلف المشهد في تونس؟
في تونس الشيء نفسه، سواء كانت رواية، أو قصة قصيرة، أو ديوان شعر، كانت هناك دور وطنية للنشر فأغلقت، الشركة التونسية للتوزيع، والدار التونسية للنشر، أُغلقت هاتان الداران، فبقيت الدار العربية للكتاب، التي نشرتُ فيها مجموعتين، هي التي بقيت تراعي الكاتب، وحقّ الكاتب، ولا تأخذ منه نقوداً، أما الدور الأخرى الصغيرة، فلا بدّ من أن يدفع الكاتب، وأنا لست مستعداً لأدفع، وليس من مبادئي أن أدفع لأنشر.
لكن، في كلّ العالم النشر على حساب الكاتب، شكل من أشكال العقود المتعارف عليها، فهل ترى أنّ الدفع مقابل النشر من الممكن أن يقلّل من قيمة الكاتب؟
لا، أبداً، لا يقلّل من قيمة الكاتب، وعندنا في تونس يوجد كتّاب يملكون عشرات الكتب، لكن هناك شعراء كبار، ولا يملكون إلّا ديواناً واحداً؛ بسبب تعقيدات عملية النشر تلك.
في مصر ظهرت دراسة قبل عشرين عاماً، تحدثت عن إقبال زمن الرواية، وتراجع فنون الكتابة الأخرى، هل ترى أنّ تلك الرؤية لا تزال موجودة وأنّ القصة محتجبة نوعاً ما؟
هذا الشعار رفعه الناقد المصري، جابر عصفور، وهو أنّنا نعيش الآن زمن الرواية، وذلك غير صحيح؛ فالمساحة الثقافية والأدبية تتسع لكلّ شيء، للرواية والقصة القصيرة، والدليل أنّنا الآن نرى الساحة الأدبية تمور بالمجاميع القصصية، والروايات، وخاصة الشعر، الذي يعيش طفرة كبيرة.
لكنّ القصة القصيرة التي ظهرت مع الصحافة، تكاد تموت بسببها، الصحافة لم تعد تنشر قصصاً قصيرة، أو قصصاً في مسلسلات، قصص نجيب محفوظ، مثلاً، كانت تنشر في مسلسلات في المجلات، الآن تعزف الجرائد عن الثقافة، وكلّ ما هو ثقافي، ولا تنشر قصصاً.
هل هي مشكلة خاصة بتونس، أم الأزمة على مستوى المنطقة العربية؟
هذا ليس بعداً عربياً أو تونسياً فقط؛ إذ لم يعد العالم مهتماً كثيراً بالمسائل الثقافية، وبنشر القصة، حتى أنّه، في فرنسا مثلاً، يندر جداً أن تجد قصة قصيرة في جريدة، العصر الآن متجه نحو الرقمنة والكمبيوتر، العالم أصبح كبيراً جداً، ومتسع جداً، والآن كل جزء من العالم يعرف عنا كلّ شيء، ونعرف عنهم كلّ شيء.
بعض كتّاب القصة أو الشعر، بسبب عدم الاهتمام بنشر كتبهم، توجهوا إلى كتابة الرواية، وبعض تلك التجارب حققت نجاحاً، هل فكرت في كتابة الرواية؟
فكرت، لكن أجد نفسي في القصة القصيرة، والآن أفكر في كتابة رواية، وبدأت بالفعل ثم عزفت عنها، فلا أجد نفسي إلا في القصة القصيرة.
الجوائز الأدبية وأهميتها
اقرأ أيضاً: هل انتهى زمن الرواية؟
انتشار الجوائز الأدبية في الوطن العربي، وأنت عضو في إحداها، دفع البعض للتساؤل حول ما إن كانت الجائزة تصنع كاتباً؟
هناك أنواع من الجوائز، منها الجائزة التي تعطى على مجمل الأعمال، وهذه لا تخلق كاتباً؛ لأنه بالفعل خُلق وكبر واشتهر، ومنها جوائز فعلاً قد تخلق كتاباً، أو لنقل إنها تشجع على الإنتاج.
لكن، رغم أهمية الجوائز الأدبية، فكثيراً ما تهاجم وتتهم بالمحاباة والمجاملة، هل تتفق مع تلك الرؤية؟
قد تجد هذا في بعض الجوائز، لكن ليس في جميعها، فنحن مثلاً في جائزة أبو القاسم الشابي، نتبع طرقاً صارمة جداً في الاختيار.
اقرأ أيضاً: الحداثة وما بعدها في الرواية العربية المعاصرة
أولاً، هيئة جائزة أبو القاسم الشابي مطلعة على الإنتاج الثقافي في المنطقة العربية كاملة، ثم إنّ الهيئة المديرة للجائزة لا تتدخل أبداً في عمل لجان القراءات، فكلّ محكّم يأخذ كتباً ويقرؤها، فلا بدّ من أن يأتي بتقرير عن كلّ كتاب قرأه، وإذا اختار كتاباً، فلا بدّ من أن يذكر سبب اختياره لهذا الكتاب، ثم بعد ذلك تجتمع اللجان وتتبادل الكتب، وكلّ واحد يقرأ تقريره، ثم بعد ذلك يجتمعون على واحد أو اثنين فقط.
البعض يقول إنّ الجوائز أفسدت الحياة الأدبية، وهناك شواهد أن بعض الأدباء يكتبون طبقاً لمعايير جوائز معينة، حتى يضمنوا الحصول عليها؟
بالفعل، بعض الجوائز أفسدت كثيراً، حتى أن بعضها قد يدعو الفائز بها إلى تغيير ما كتبه، لكن هذه الجوائز ليست مخصصة لتشجيع الكتاب، أو لخلق كتّاب، أو إشهار كاتب، لكنها وجدت لإعطاء قيمة ودور لباعثها، وليس للمتحصل عليها.
المؤسسات الثقافية وهموم الشارع
هل لقناعاتك في مواجهة الظلم، دور في قرار الاستقالة من اتحاد الكتّاب التونسيين؟
استقلت من اتحاد الكتّاب؛ لأنه لا يعبّر عن مظالم الشعب، وكأنه منعزل، وأنا شخصياً ألتحم مع الربيع العربي، مهما قيل فيه، ومهما سيقال؛ لأنّ البحث عن العدالة والتوق إلى الحرية، من النفس الإنسانية، كما أنني كنت أدعو له في اتحاد الكتّاب، وقد بقيت في الاتحاد أكثر من خمس دورات، ثم رئيس فرع للاتحاد لـ6 دورات، وذلك بالانتخاب الحرّ، وليس التعيين.
لماذا أغلب المؤسسات الثقافية في العالم العربي غير قادرة عن التعبير عن نبض المثقف؟
غالبية المؤسسات الثقافية العربية لا تعبّر عن نبض الشارع، ولا عن المسحوقين، ولا تعبر عن طموح الإنسان العربي، دون استثناء، وذلك لأنّ تلك المؤسسات، في بداياتها، كوّنت على النمط الروسي؛ لتكون عيوناً على الكتّاب، وليس لفائدتهم، ولحصرها في أماكن معينة لحراستها.
في تعريف المثقف؛ يقال إنّ عليه أن يكون على يسار السلطة، معبراً عن نبض الشارع، فكيف تحوّل إلى النقيض؟
عربيّاً وتاريخيّاً؛ المثقف لم يخرج من عباءة السلطة، والذين خرجوا إما قتلوا أو تم تعذيبهم، وفي الحاضر، ستجد أن أمثالهم قليلون؛ لأنّ أغلب المثقفين كانوا موظفين عند السلطة، ولديهم مؤسسات، ومكاتب، فكيف يمكن لموظف أن يخرج عن السلطة التي وظفته؟ كما أنّ استقالة المثقف هذه الأيام لافتة للانتباه، ربما بسبب الضغوطات الاقتصادية، أو بسبب عدم وضوح الرؤية لديه، أو بسبب هذه التفاعلات السياسية.
الثقافة في مواجهة العنف والتطرف
اقرأ أيضاً: الرواية يمكنها أن تصلح ما أفسدته السياسة
هل يمكن أن نعد ضعف دور المثقف على المستوى العربي سبباً في صعود نزعات العنف والتطرف، بعجزه عن مواجهتها مواجهة فعالة؟
ليس المثقف، إنّما الثقافة بصفة عامة، أقصد الثقافة الحقيقية؛ إذ أصبح لها عدة مفاهيم، هناك من يقول لك ثقافة المهرجانات، ولكنها ثقافة لا تبقى، وتذهب في حينها، أما الثقافة الحقيقية فهي ثقافة الكتاب وسلطته، بينما الكتب الآن غير مقروءة، ومهمَّشة، كما أن الدولة لا تشجّع الكتاب ولا الكاتب.
هناك العديد من الإحصاءات شبه الرسمية، تشير إلى ارتفاع معدلات القراءة عربياً؟
قرأتها، ولكنني لا أعرف من أين أخذوا هذه العينات، بينما أنت تعرف الآن أنّ الكتاب لا يطبع منه، في أحسن الحالات، إلا ألف نسخة، وفي القاهرة 500 نسخة، في العاصمة التي يسكنها 16 مليون!
هل ترى أنّ المثقف هو سبب الضعف، أم المؤسسة الثقافية هي السبب؟
السبب الدولة، هناك وضع عام يقول إنّ الأمة العربية يجب عليها ألّا تنهض، يجب عليها أن تبقى متخلفة، وأن تبقى ضعيفة، وأن تبقى فقيرة، وذلك من مصلحة رأس المال العالمي، وهي الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ومن لفّ لفّهما؛ لأنّه في نهوض هذه الأمة، وفي تعليمها، خطر عليهم، ورأينا سابقاً كيف كانت الثقافة مزدهرة في الأربعينيات والخمسينيات، وكيف كانت الثورات على الاستعمار.
لكنّ العديد من المؤسسات الثقافة العربية، تظهر دعماً كبيراً للثقافة؛ بإقامة المعارض والمؤتمرات الثقافية؟
هذه كلّها تظاهرات للرياء، أما في الحقيقة، من ينتفع بهذه المعارض؟ هل سمعت أنّ معرض الكتاب في القاهرة خرج للمحافظات الأخرى، نفس الكلام في تونس، ينتفع منه قليل فقط.
هل ترى أن هذا التراجع قد يكون سبباً لضعف دور المثقف في مواجهة التطرف؟
أكيد، هناك مثقفون قادرون على المواجهة، لكنّ التأثير قليل؛ بسبب كثرة الزخم، شمعة لا يمكن أن تضيء الظلام، لكنّها أمل، هناك الكثير من المثقفين الذين وقفوا ضدّ التطرف والظلامية.
لكن، على الجانب الآخر، تنتشر أفكار التطرف سريعاً؟
تنتشر سريعاً في أية شريحة من شرائح المجتمع، تنتشر سريعاً عند الفقراء، والمجرمين كذلك؛ لأنهم أثّروا على هؤلاء في المدارس أو السجون.
وكيف نواجه ذلك التمدّد في أفكار التشدد الديني؟
دعم الثقافة الحقيقية، والمثقف الحقيقي، وهي الثقافة التنويرية والثقافة التي تفتح الأبواب والمجالات أمام المتلقي.
اقرأ أيضاً: رواية "رغوة سوداء": لاجئون أفارقة في جحيم "الفردوس الإسرائيلي"
بعد مرور أعوام على ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"، هل تراه حقق المراد منه؟
أحدّثك عن تونس؛ حققنا الكثير، خاصة الإنجاز اللافت للانتباه والعظيم، وهو حرية التعبير والصحافة، هذه الحرية ألقت بصداها على المجتمع كله، من ناحية كشف الفساد، أو التجمعات الإرهابية وغيرها، كما حققنا انتصارات على مستوى مواجهة التطرف، رغم أحداث التفجيرات الأخيرة، لكنّها كانت دليلاً على أنهم ما يزالون موجودين، أما في الواقع؛ فهم قليلون جداً، والمجتمع التونسي لم يعترف بهم، ولم يجدوا مكاناً لهم بين الشعب التونسي.
رغم التوجه العلماني للدولة التونسية، إلا أنّ عدد شبابها المشتركين في داعش كبير؟
هذه المشكلة لها تفسير تاريخي؛ ففي عهد بن علي، رفعوا شعار تجفيف المنابع، منه أنّ الدين لم يعد يدرَّس في المدارس، قديماً كان في المدارس حصص دينية، وحصص تاريخية، والطالب عندما يخرج يكون متشبعاً بتاريخ تونس، مع مجابهة للتطرف، ما حدث أضعف الإيمان عند بعض التونسين، فتوجهوا ناحية الفضائيات الدينية، وهم لا يعرفون مذهبها، ولا يعرفون ما ترنو إليه، فارتموا بين أحضان هذه الفضائيات، أعرف أنّ بعض الأشخاص كانوا يدفعون نقوداً كثيرة للحديث مع يوسف القرضاوي عبر برامجه في وسائل الإعلام القطرية؛ حيث تشبعوا بهذه الأفكار، ولما قامت الثورة، أخذ الحكم الإخوان المسلمون، ظنّوا أنّهم في أرض يمكن أن يُدخلوها مجدداً للإسلام الذي يريدون، فكانت هذه الجماعات التي دخلت داعش، ثم شيء آخر؛ هو أنهم كانوا يدفعون أموالاً طائلة لمن يسافر إلى سوريا أو العراق، أو من يقوم بعمليات، بعشرات الملايين كانوا يدفعون، فهو طمع في المادة وفي الجنّة.