زكريا محمد: آخر رشقة لون في لوحة الرسّام

زكريا محمد: آخر رشقة لون في لوحة الرسّام

زكريا محمد: آخر رشقة لون في لوحة الرسّام


03/08/2023

تتلخّص صحبتي مع الراحل زكريا محمد، وما أثقل كلمة (الراحل)، في حدث متصل بالانشقاق. ولعل هذه المفردة (الانشقاق) تطبع حياة الشاعر والروائيّ والباحث الألمعيّ زكريا محمد (وهذا اسمه الحركيّ).

ظل زكريا منشقّاً بكل المعاني، عن اسمه، عن ثقافته الفلسطينيّة التي تغذّت على أدب المقاومة، وبقي منشقّاً في غمرة ذلك عن اللغة: عن نحوها وصرفها وزخرفها وبديعها واستعاراتها. وبدا كما لو أنه يبتكر لغة جديدة؛ متقشّفة، محايدة (بالمعنى الإيجابي)، خاطفة، تتوخّى الهدف بلا عراقيل أو التفافات أو زينة. تتخلّى عن الصفات، وظلال الصور، لغة عارية من المحسنّات، بلا تزاويق، ولا أحمر شفاه، ولا ظلال خضراء أو زرقاء أو ورديّة تحت العينين، أو فوق الوجنتين.

ورغم ذلك كله كانت لغة زكريا جميلة وآسرة، ولا يمكن التخلّص من سطوتها، رغم أنها لا تشبه سواها، على الأقل في المشهد الفلسطينيّ الذي اقتضت ضرورات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيليّ أن يتحوّل الشعر (وهذا ليس رأيي) إلى سلاح رادع، حيث تحقّق هذا الهدف في الأشعار والأغاني، فالتهب الوجدان، ومضى الشهداء إلى نومهم وهم ينشدون.

ظل زكريا محمد منشقّاً بكل المعاني، عن اسمه، عن ثقافته الفلسطينيّة التي تغذّت على أدب المقاومة، وبقي منشقّاً عن اللغة: عن نحوها وصرفها وزخرفها وبديعها واستعاراتها

لم يأبه زكريا محمد بذلك كله، لا لأنه ضد المقاومة، وهو الذي أمضى حياته في صفوفها، بل اختار أن يصفّي لغته من الهدير. وكان هذا القرار صعباً، إذ حرمه "الشعبيّة" و"الجماهيريّة"، كما حرمه المنبر، لأنّ الخفوت التي تتشكّل من طينته لغتُه لا يتواءم مع جمهور قادم في جلّه ليصفّق عند المنحنى الثوريّ في الجملة الشعريّة. الثوريّة في شعر زكريا كانت داخليّة عميقة يمكن ملاحظتها من البناء اللغويّ الذي يُشيّد معماره في أرض بور.

هذا هو طبع المنشقّين الكبار في التاريخ. وقد كان زكريا كذلك منذ أصدر مجموعته الشعريّة الأولى وسمّاها "قصائد أخيرة"!

ولعل (وهذا يحتاج إلى استقصاء) اختيار زكريا أن ينشق (سياسياً) عن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، مع تيار ياسر عبد ربه "الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني" (فدا) 1990 يفسّر رغبته الدائمة بالانشقاق. لكنّ تلك الحادثة لها ظلال شخصيّة لعلاقتي بزكريا.

بعد انشقاق عبد ربه، اختار زكريا أن يُصدر مجلة أدبية رفيعة المستوى، ودعا إلى الكتابة فيها عدداً من الكتاب والأدباء والصحفيين، وكنت منهم. لكنّ المشكلة أنني كنت مراسل مجلة "الحرية" الناطقة بلسان الجبهة الديمقراطية بزعامة نايف حواتمة، وكان يرأس تحريرها داوود تلحمي. كما أنني كنت محرّراً ثقافيّاً في صحيفة "الأهالي" الأسبوعيّة التابعة لحزب الشعب الديمقراطيّ الأردنيّ "حشد". تغاضى زكريا عن ذلك، ومكثت أكتب فترة لا بأس فيها، حتى اكتشف أمري الرفيق الراحل سالم النحاس، فغضب وقال لي: كيف تكتب في مجلة المنشقّين، يا رفيق؟

لم يقنع "أبو يعرب" بتبريراتي بأنني أكتب في الأدب وليس لذلك صلة بالمواقف السياسيّة، فأبلغت زكريا بما جرى، فعرض عليّ أن أكتب باسم مستعار، لكنّني لم أستسغ الفكرة، فانقطعت صلتي بمجلته التي ظللت أتابعها، كما أتابع ما يكتبه زكريا، حتى إنني فُتنت بلغته وثقافته، ورغبته العميقة المجبولة بالشغف بالابتعاد عن الأضواء. إن كان ثمة ضوء سيأتي، فليلمع في العتمة!

زكريا يشبه نصه. وإن صح أنه مات بنوبة قلبيّة، فقد وصل التماهي بين النص ومآلات الشخص حدّاً لا انفصال فيه، فكان الموت آخرَ رشقة لون في لوحة الرسّام.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية