"زاد" وأخواتها... استمرار التغلغل السلفي في العقل المصري

"زاد" وأخواتها... استمرار التغلغل السلفي في العقل المصري

"زاد" وأخواتها... استمرار التغلغل السلفي في العقل المصري


04/05/2023

تشير بعض استطلاعات الرأي إلى وجود إقبال على التديّن في أوساط الشباب في المجتمعات العربية بشكل عام في الأعوام الأخيرة، هذا الإقبال يعمل التيار السلفي بتنوّعاته على استقباله واستغلاله من خلال العديد من الوسائل والآليات المستحدثة التي تتماشى مع المتغيرات الحادثة في المشهد السياسي ومع التطور التكنولوجي في الوقت ذاته، وقد صار التيار السلفي أكثر قدرة على استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في الوصول إلى الآلاف من الشباب، ولكن بشكل ممنهج وأكثر تنظيماً عن ذي قبل، وأصبحت المنصات السلفية التي تقدم العلم الشرعي ومعها عدد من المفاهيم والقضايا الفكرية من منظورها الخاص ووفق منظومتها الفكرية منتشرة بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، واستطاعت أن تجتذب الكثير من الشباب الراغب في التديّن من كل الوطن العربي ولا يجد سبيلاً أمامه بشكل كبير سوى هذه المنصات التي يُطلق عليها "أكاديميات"، وهي لا تعمل وفق الصورة النمطية، ولكنّها تعمل بشكل أكثر حداثة وتنظيماً.

ونسعى من خلال هذا التقرير للإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بهذا الأمر: ما الذي تقدمه هذه المنصات وكيف تعمل؟ وما الأثر المترتب على انتشارها وتوغّلها؟ وما مكمن الخطر في ذلك؟ وما موقف المؤسسات الدينية الرسمية من ذلك الفراغ الموجود في المجال الديني ويعمل التيار السلفي على ملئه بدرجة كبيرة؟ وهل هي قادرة على إيجاد البديل؟ وهل استفاد التيار السلفي من تجربة الإخوان في التربية واستلهم أسلوب الجماعة التي أرهقتها السياسة وقضى عليها العنف؟ ثم أخيراً ما دلالات ذلك النشاط السلفي وتلك الاستجابة له؟

هناك إقبال على التدين في أوساط الشباب في المجتمعات العربية بشكل عام في الأعوام الأخيرة

المنصات السلفية... فكر قديم في إطار جديد

إذا قمت بالبحث في وسائل التواصل الاجتماعي عن أماكن تقوم بتدريس العلوم الشرعية، فسوف تجد عدداً كبيراً منها، غالبيته يقوم عليه شخصيات سلفية، وربما يكون من الصعب حصر هذه الأكاديميات والمنصات السلفية بسبب كثرتها، لكنّنا في هذا التقرير اخترنا (8) منها، بعضها ربما يكون هو الأكثر شهرة وانتشاراً، وهي: أكاديمية زاد، أكاديمية البناء المنهجي، أكاديمية البناء الفكري، أكاديمية صناعة المحاور، أكاديمية الجيل الصاعد، أكاديمية أبجديات أون لاين، كورس نجم، أكاديمية الفرقان.

أكاديمية البناء المنهجي تعمل على إعداد متخصص في العلوم الشرعية، ويتم من خلالها تدريس عدد من العلوم منها الفقه وأصوله وعلوم القرآن بشكل متخصص في مستويات متدرجة

 بداية توجد بعض الأمور المشتركة التي تجمع بين هذه المنصات، منها أنّ الدراسة فيها لا تعتمد على الشكل التقليدي للعمل السلفي من دروس ومحاضرات، ولكن كل برنامج فيها له مدة زمنية محددة عبارة عن عدد من الأعوام، وكل عام مقسم إلى أكثر من فترة دراسية، وتتضمن مستويات دراسية كل منها مجموعة من المناهج والكتب يتم شرحها من خلال محاضرات يقصر استماعها على المشتركين فقط، كما توجد أساليب تعليمية أخرى وأنشطة واختبارات دورية ثم اختبار نهاية العام الدراسي وشهادات تخرج، الأمر الآخر أنّها تعتمد على التفاعل بين الشيوخ والدارسين، وتتعمد إقامة روابط اجتماعية بين الدراسين وبعضهم بعضاً، وبعض هذه الأكاديميات تتم الدراسة فيها بمقابل مادي وبعضها مجاني، الملاحظ أيضاً أنّ بعض هذه الأكاديميات تخضع لإشراف جهة واحدة، وتعتني كل أكاديمية منها بتقديم مضمون معيّن واستهداف شريحة مختلفة، بحيث تتكامل في النهاية فيما بينها، سواء من حيث نوعية الموضوعات أو من حيث درجة العمق بين البسيط والأكثر عمقاً، وبالتالي تستطيع أن تصل إلى قدر كبير ومتنوع من الأفراد، كما أنّه من بين هذه الأكاديميات من قام بتأسيسها مجموعة من الشيوخ السلفيين من دول الخليج خاصة السعودية والكويت، ويقومون بالتدريس فيها بمساعدة رموز سلفية مصرية، ومنها من قام بتأسيسها والتدريس فيها دعاة سلفيون مصريون فقط. ومن الممكن أن نعطي نبذة مختصرة عن طبيعة وأهداف كل منها، على النحو التالي:

بالنسبة إلى أكاديمية زاد، فإنّها تقوم بتدريس بعض العلوم الشرعية مثل؛ العقيدة والفقه والسيرة، وهي تستهدف جميع شرائح المجتمع، وتعمل على تقديم معلومات أساسية في هذه الموضوعات بشكل ميسر يناسب مستويات عمرية وتعليمية وثقافية بسيطة، وتتم من خلال (4) مستويات متدرجة في المعلومات التي يتم تقديمها في كل موضوع، وقد أسسها الداعية السعودي السلفي محمد صالح المنجد، أمّا أكاديمية البناء المنهجي، فتعمل على إعداد متخصص في العلوم الشرعية، ويتم من خلالها تدريس عدد من العلوم منها الفقه وأصوله وعلوم القرآن بشكل متخصص في مستويات متدرجة، وهذا هو مضمونه الأساسي، بجانب بعض القضايا الفكرية مثل فهم التيارات الفكرية الموجودة وبعض القضايا السياسية والاجتماعية الخاصة بالواقع، أمّا أكاديمية البناء الفكري، فهي تركز بشكل أساسي على تدريس موضوعات فكرية وليس العلوم الشرعية، وتركز على القضايا الخاصة بالهوية الإسلامية وما يضادها بما تصفه بـ "الهويات المنحرفة"، وتنقسم الدراسة فيها إلى (3) مستويات متدرجة من حيث العمق ونوعية الموضوعات، ومن بين الموضوعات التي تُدرس فيها ما يُسمّى "تثبيت الثوابت، وتعزيز اليقين"، كما يتم دراسة موضوع خاص بالاتجاهات الفكرية التي يصفها القائمون على الأكاديمية بأنّها مخالفة للإسلام مثل؛ العلمانية والنسوية والليبرالية والحداثة والمدارس الحداثية العربية، كما تُدرس مادة تُسمّى "نقد الشبهات" التي يتم توجيهها للإسلام ويقصد بها كل فكرة مخالفة للفكر السلفي، وتهدف هذه الأكاديمية إلى إعداد أفراد مؤثرين قادرين على أن يكونوا أدوات لنقل الأفكار التي يتم ترسيخها بداخلهم خلال الدراسة إلى غيرهم، سواء من خلال الكتابة أو الخطابة وإلقاء المحاضرات، ولذلك فإنّ القائمين عليها يستهدفون فئات معينة للدراسة فيها، كما يوضح الفيديو التعريفي الخاص بها، مثل المعلمين خاصة لطلاب المراحل الثانوية والجامعية والدعاة ودارسي العلوم الشرعية؛ لأنّهم قادرون على التعامل مع شرائح مختلفة والتأثير فيها ونقل أفكارهم إليهم بصورة طبيعية، وأكاديمية صناعة المحاور تشبه البناء الفكري لكنّها تدرس القضايا الفكرية هذه بشكل أكثر عمقاً، وتوجد أكاديمية أخرى وهي الجيل الصاعد، وتستهدف الشباب في مرحلة مبكرة من عمر (12 حتى 22) عاماً، وهي ليست مجرد برنامج تعليمي، ولكنّه برنامج تربوي بالأساس، ويقوم بتدريس بعض الموضوعات الإيمانية وغرس قيم معينة داخل عقول الشباب، ويعتمد على التفاعل بين الشيوخ والشباب وبين الشباب وبعضهم بعضاً، ويستهدف البرنامج إقامة روابط اجتماعية بين الشباب سواء من خلال الإنترنت عن طريق قناة تفاعلية على التليغرام، أو في أرض الواقع من خلال إقامة عدد من الفاعليات مثل الرحلات والمعسكرات التي تستهدف التعارف والتعايش وغرس القيم والأفكار الخاصة، أمّا "أبجديات أون لاين"، التي يشرف عليها الداعية السلفي المصري محمد الغليظ، فهي عبارة عن مدرسة تعليمية تربوية كما يصفها، يعطي خلالها الغليظ دروساً من خلال بث مباشر على الإنترنت للشباب الذين سجلوا أسماءهم وسددوا الرسوم المطلوبة حتى يتاح لهم الاستماع إلى المحاضرات والحصول على الكتب التي يدرسون فيها، وهي كتب تتضمن معلومات مبسطة في بعض العلوم الشرعية مثل العقيدة والحديث والفقه وعدد من المفاهيم مثل الحاكمية، كما يتضمن البرنامج الذي يطلق عليه الغليظ "دبلومة" بعض الاختبارات والواجبات العملية الأسبوعية التي على الطالب تنفيذها تحت إشراف ومتابعة الغليظ، كما تتضمن أنشطة تفاعلية بين الشباب والشيخ وبين الطلاب وبعضهم بعضاً من أجل توثيق التعارف وإقامة الروابط الاجتماعية، أيضاً يوجد بعض البرامج أو الدورات التي يقدمها الداعية السلفي أمير منير تستهدف الشباب بشكل أساسي وتتم بمقابل مادي، منها ما يطلق عليه "كورس نجم"، وهو برنامج أشبه بدورات التنمية البشرية لكن بصبغة دينية، ويهدف كما يعلن عنها منير إلى معالجة بعض العيوب في الشباب في سن صغيرة، وغرس بعض المهارات والقيم بداخلهم مثل الثقة بالنفس وتحمل المسؤولية، وأخيراً أكاديمية الفرقان، وهي مصرية سلفية تقوم بتدريس العلوم الشرعية بالطريقة نفسها في البرامج سالفة الذكر، من خلال المحاضرات والكتب والتفاعل والاختبارات والمتابعة.

 أكاديمية زاد تقوم بتدريس بعض العلوم الشرعية مثل العقيدة والفقه والسيرة

هل صار السلفيون شبه تنظيم؟

الملاحظ هنا أنّ كل هذه المنصات السلفية بدأت في العمل بعد 2013 وانسحاب الإخوان من العمل الدعوي والاجتماعي والتربوي، كما يلاحظ أنّها لا تعمل وفق النمط التقليدي الذي كان يعمل به التيار السلفي قبل 2013، فالنمط التقليدي كان يعتمد على الدروس والمحاضرات التي يتم اختيار موضوعاتها بشكل غير ممنهج ودون وجود نمط التنظيم الذي كانت تتميز به جماعة الإخوان، باستثناء تيار السلفية الجهادية الذي كان يعتمد أسلوب التنظيم، لكنّ النمط الجديد الذي يعمل من خلاله التيار السلفي بعد 2013 من خلال هذه المنصات يتميز بـ (3) أمور؛ الأوّل هو الحرص على وجود روابط اجتماعية وتعارف بين الأفراد المشاركين في تلك البرامج، والثاني وجود أساليب تربوية وأنشطة عملية بجانب المناهج والمحاضرات، والثالث وجود خطة ممنهجة لترسيخ الأفكار والقناعات من خلال هذه المناهج والأساليب، وهذا هو أسلوب عمل جماعة الإخوان نفسه قبل 2013، حيث كانت تستقطب الأفراد وتضمهم إلى التنظيم ثم تقوم بعملية تربوية باستخدام مناهج وأساليب متعددة تنتج في النهاية شخصية جماعية لها سمات محددة، وهنا كانت تكمن قوة الجماعة التي تُستمد من وجود تنظيم مُحكم يجمع بداخله عدداً كبيراً من الأفراد الذين تجمعهم رابطة قوية ويحملون الأفكار نفسها ونمط التفكير نفسه، ويدينون بالولاء والطاعة لمجموعة من القيادات تحركهم بسهولة، والتيار السلفي من خلال هذه المنصات والبرامج يعمل على إيجاد هذه الشخصية باستخدام الأساليب الممكنة من خلال الواقع الافتراضي، حيث تحول الظروف السياسية والأمنية دون ممارستها على أرض الواقع، وربما هذا يلفت انتباهنا إلى خسارة جماعة الإخوان لمساحة كبيرة كانت تشغلها وهي مساحة العمل الدعوي والخيري والاجتماعي، الذي كانت تكتسب به شعبية كبيرة وقدرة على التأثير، وقد خسرتها بنسبة كبيرة بسبب صراعات السياسة وخيارات العنف.

الحضور السلفي... آثار ودلالات

لا شك أنّ الحضور السلفي ليس بالأمر الجديد على المجتمع، فالتيار السلفي بتنوعاته حاضر ومؤثر بقوة في المجتمع المصري منذ سبعينات القرن الماضي، ورغم العديد من المتغيرات التي أعقبت سقوط الإخوان من الحكم ومحاولات الدولة لضبط المجال الديني؛ إلا أنّ هذا التيار استطاع أن يوجد لنفسه مسارات وأشكالاً جديدة يعمل من خلالها على نشر أفكاره واستمرار تأثيره، ويعلق الباحث أحمد زغلول شلاطة المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية على هذا الأمر في تصريح لـ "حفريات"، ويرى أنّ "التيار السلفي موجود منذ أعوام طويلة ويمارس أنشطته الدعوية وينتشر في المجتمع، فقد كان يمارس ذلك النشاط من خلال الدروس التي يعقدها في المساجد ومن خلال لقاءات الأفراد في بيوت المشايخ، لكن مع التغيرات التي حدثت بعد 2013 كان على هذا التيار أن يبحث عن منافذ بديلة يمارس فيها نشاطه ويستمر في مشروعه من خلالها، ولذلك استغل التطور التكنولوجي في وسائل الاتصال، وأقام تلك المنصات التي ينشر من خلالها أفكاره"، ويقدم الباحث لنا تفسيراً بخصوص الدوافع التي تدفع الشباب إلى الإقبال على تلك المنصات، فيقول: "هناك فراغ ديني لدى الشباب استطاع التيار السلفي استغلاله فأنشؤوا تلك المنصات حتى يحقق الشباب رغبتهم فيها، كما أنّ رغبة بعض الشباب في طلب العلم، وفي الوقت نفسه قناعتهم بعدم أهمية العلوم الاجتماعية حيث إنّهم متأثرون في ذلك بالخطاب السلفي الذي يعظّم من العلم الشرعي ويقلل من شأن العلوم الأخرى؛ جعل هؤلاء الشباب يلجؤون لطلب العلم الشرعي من خلال المنصات السلفية تلبية لرغبتهم تلك"، وبجانب ما نتحدث عنه من أسباب دينية ينطلق منها القائمون على تلك المنصات، يرى زغلول أنّ هناك سبباً آخر ربما يكون ذا أهمية في تقديم العلم الشرعي من خلال "أكاديميات" تفرض رسوماً دراسية، فيرى أنّه "من الأسباب الرئيسية التي تدفع رموز السلفيين لإنشاء تلك المنصات هو الرغبة في الربح المادي، لأنّ نسبة كبيرة منها تتم بمقابل مادي يدفعه الدارسون، وهذا يُعدّ مصدراً مهمّاً للدخل لهؤلاء الشيوخ".

 الحضور السلفي ليس بالأمر الجديد على المجتمع

أمّا عن مكمن الخطر هنا والمتمثل في آثار هذا الحضور السلفي على المجتمع وعلى وعي الأفراد سواء بشكل مباشر على الدارسين في هذه المنصات أو بشكل غير مباشر حين يتحول هؤلاء الدارسون إلى وسائط لنقل الأفكار التي اكتسبوها إلى غيرهم، فإنّه يتمثل فيما يتسم به الفكر السلفي من عيوب تساهم في إفراز العديد من الأزمات وتصيب العقول بالانغلاق والتعصب والمجتمعات بالجمود، وحول هذا الأمر يوضح الدكتور عبد الباسط هيكل أستاذ علوم العربية وآدابها بجامعة الأزهر في تصريح لـ "حفريات" أنّ أزمة هذا الفكر السلفي وخطورته تأتي من خلال عدة أوجه؛ أوّلها اعتقاده بامتلاك الحق المطلق، فيقول: "الفكر السلفي لا يرى نفسه فكراً ولا شكلاً من أشكال التدين المتعددة، بل يرى نفسه الحق والدين وما عداه باطل، وهذه مقدمة كل عنف، فقد أشاع الفكر السلفي ما أصبح جزءاً من ثقافتنا، أنّ خلاصَ الأمّة في وحدتها الفكرية مطالبين بالإجماع والاتفاق على صيغة فكرية واجتماعية وسياسية وثقافية واحدة بحجة "وحدة الأمّة"، فشأنهم شأن من أراد أن يحلّ مشكلة المرور، فبدلاً من أن يبنى مجتمعاً مدنياً راقياً يحترم اختلاف الطرق، وتعدد اتجاهات السير، ولا يتعدّى على الطريق المخالف، قرّر أنّ الحلّ هو أن يسيرَ المُشاة والسيارات كلّهم في اتجاه واحد؛ فالتسطيح وغياب النظرة المعمقة من أخطر ما تسبب فيه خطاب الجماعات الإسلاموية التي أنتجت تصورات حول الوحدة الفكرية"، ويرى هيكل أنّ ثاني هذه الأوجه هو الفهم الظاهري للنصوص، فيقول: "على مستوى ممارسة التدين المجتمعي، الفكر السلفي من أكثر صور التّدين انتشاراً، وأقدرها على مزاحمة التديّن الصوفيّ، إلا أنّه تدين أعور ينظر بعين واحدة فيقدّم مفهوماً أحادياً للسنّة، وموقفا تراثياً واحداً في طريقة الاستدلال بها، فهو صوّر كلّ ما نُقل عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بأنّه شرْعٌ، واجب، أو مندوب، واستند - كخصمه التدين الصوفي - إلى الأحاديث الآحاد في تقديم مسائل العقيدة، متجاهلين أنّ اليقين سمة أصيلة للعقيدة لا يثبت إلا بالعقل ثم النقل المتواتر الذي رواه الكافة عن الكافة بلا خلاف، ويتمسّك الفكر السلفي بظاهر الأخبار مدعياً "النصيّة القطعية" المستوجبة للوجوب أو التحريم، فمثل هذا الخطاب هو الأقدر على استمالة العامة بزعم أنّ النّاطق بالحكم والحاسم للاختلاف في المسألة السياسية أو الاجتماعية هو صوت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقيناً دون اعتبار لاحتمالية الدلالة التي تحملها بعض الأخبار، ودون النظر في أثر السياق الداخلي والخارجي في تحديد المدلول"، ويعطي هيكل مثالين متناقضين يمثلان نتاجاً لهذا الفهم الظاهري للنصوص ويوضحان عيوبه: "بهذه الظاهرية توجّه الخطاب السلفي المنقسم على نفسه إلى قراءة الأخبار المسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قراءة نفعية بدافع من واقعه بكلّ ما يحمله هذا الواقع من تخلّف، ممّا أدى إلى سيادة حالة من السلبية تارة، وحالة من العنف تارة أخرى، فحرّمت "السلفية المدخلية" إبداء النصيحة للحاكم في العلن، ورأت في إتيان ذلك ما يتناقض مع أصول عقيدة أهل السنّة والجماعة، مستدعية من سنن الترمذي أن سَلَمَةُ بْنُ يَزِيد الْجُعْفِي سأل رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَنا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَنا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا.. قَالَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ"، وعلى النقيض منها كفّرت "السلفية الجهادية" الأنظمة الحاكمة متبعةً المنهجية السلفية نفسها في الاستدلال، ودخلت في حرب مفتوحة مع العالم مستدعية من السنن أنّ النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا إنّ الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب"، "بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي"، "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا "لا إله إلا الله"، "لقد جئتكم بالذبح"، وبهذا فقد أهدر كلا الطرفين تعددية مفاهيم السنّة، وتنوّعِ المواقف التراثية إزاءها، وساعد في ذلك جمود الخطاب الديني، وقصور البحث في الإسلاميات، فلم نستفد من تنوّع الموقف التراثي من السنّة في إعادة تصنيف وتبويب السنّة وفق رؤية مدرسة الرأي، التي تُميّز بين سنّة الوحي، التي هي بيان نبويّ لمراد الله، وسنّة العادات الخاضعة لسياق الوجود الاجتماعي والزمني له، صلى الله عليه وسلم".

هيكل: لا يتوقف الفكر السلفي عن الخلط بين تاريخ الإسلام (الوحي) الذي بدأ وانتهى بحركة جبريل، عليه السلام، بين السماء والأرض، وتاريخ المسلمين الذي هو أحداث وتجارب بشرية تاريخية غير مقدّسة

ويوضح الدكتور عبد الباسط الوجه الثالث لأزمة الفكر السلفي المتمثل في خلطه بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، فيقول: "لا يتوقف الفكر السلفي عن الخلط بين تاريخ الإسلام (الوحي) الذي بدأ وانتهى بحركة جبريل، عليه السلام، بين السماء والأرض، وتاريخ المسلمين الذي هو أحداث وتجارب بشرية تاريخية غير مقدّسة، فإطلاق تاريخ الإسلام على تاريخ المسلمين أكسبه مثالية وقداسة زائفة تستعلي به على الدرس النقدي، والسياقات والملابسات التي صنعت أحداثه".

عبدالباسط هيكل: الوجه الرابع لأزمة الفكر السلفي يتمثل في الانغلاق والجمود الفكري

وأخيراً يرى هيكل أنّ الوجه الرابع لأزمة الفكر السلفي يتمثل في الانغلاق والجمود الفكري فيقول: "من مشكلات الفكر السلفي أنّهم يصدرون عن يقين كبير في أنّهم يُحيطون بالعلم الشرعي، ظنّاً منهم أنّ إجازات شيوخهم كافية لمنحهم قدرةً، دونَ غيرهم، على فهم القرآن الكريم وتراث علماء المسلمين، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالاشمئزاز من كل منهج جديدٍ لا يعرفونه، ويتّهمون كلّ مختلف عنهم، ويتصدّون له بعنف شديد، خوفاً من أن يُزعزع ثقتهم بعلمهم ونظرتهم للعالم، فلديهم عقل متأكّد من كل شيء؛ لذا فهم خاملون لا يبحثون عن شيء جديد، لا يهزّهم ولا يُحرّكهم الإخفاق الحضاري الذي نعيشه منذ مئات الأعوام، ولا المشكلات الاجتماعية التي تُحيط بنا، متجاهلين أنّ كل المشاكل الناجمة عن أسلوب ومستوى معيّن من التفكير لا يُمكن أن تُحلّ ما دُمنا مُصرّين على اعتماد الأسلوب نفسه في التفكير".

وهذا الحضور السلفي والاستجابة له يعطينا دلالة بوجود إقبال بدرجة ما على التدين، لكنّها تتخذ مسارات ربما تكون سبباً في تعميق أزمة المجتمع في المستقبل، وهذا يجعلنا نطرح سؤالاً هو: ما البديل؟

 المؤسسات الدينية الرسمية هل تملأ الفراغ؟

يمثل الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء فواعل رئيسية داخل المجال الديني، وهم يمثلون المؤسسة الرسمية، ومنذ 2013 هناك محاولات لملء الفراغ الذي أعقب الغياب المؤقت للتيار الإسلامي الحركي عن المشهد، وعملوا خلال ذلك على إيجاد البديل الدعوي والعلمي والثقافي من خلال عدد من البرامج، حيث يقدّم الأزهر عدداً من الأروقة مثل؛ رواق القرآن ورواق التجويد والقراءات ورواق العلوم الشرعية، وهي برامج تتيح للجميع الاشتراك فيها لتعلم التجويد أو دراسة العلوم الشرعية المختلفة ودراستها بشكل علمي منظم، كما تقوم دار الإفتاء بتقديم فرصة لدراسة العلوم الشرعية للراغبين من خلال "منصة هداية"، وكذلك تقوم الأوقاف بممارسة الدور الدعوي من خلال الخطب والدروس والمحاضرات؛ إلا أنّه في الواقع لم تستطع المؤسسة الرسمية أن تملأ ذلك الفراغ بدرجة كبيرة، ولا أن توفر البديل الذي يحل محل التيار السلفي والإسلامي الحركي بشكل عام، ويعود ذلك إلى عدة أسباب؛ أوّلها أنّ خطاب الحركات الإسلامية والتيارات السلفية طيلة الأعوام الماضية عن المؤسسة الرسمية خلق حالة من عدم الثقة لدى شريحة من المتأثرين بهذا الخطاب، إمّا بسبب اتهامه لها بقربها من الأنظمة الحاكمة وتبنّي من ثم آراء فقهية في العديد من القضايا مخالفة لصحيح الإسلام إرضاءً للأنظمة، وإمّا بسبب اختلاف التيارات السلفية مع عقيدة الأزهر الأشعرية، ومن ثم اتهامها له بأنّه بعيد عن منهج السنّة والجماعة؛ وقد تسبب ذلك الإرث في تفضيل العديد من الأفراد في تلقي المعرفة الدينية من التيار السلفي الذي يرونه معبّراً عن الدين الصحيح، وفي هذا السياق يوضح الباحث أحمد زغلول شلاطة أنّ "الأزهر قام بتدشين الأروقة بعد 2013 لمواجهة الفراغ الديني الذي تسبب فيه غياب التنظيمات الإسلامية على إثر سقوط الإخوان من الحكم، وما تبعه من تداعيات مثل إغلاق بعض القنوات الفضائية السلفية، وإحكام الرقابة على المساجد لعدم استغلالها من جانب تيار الإسلام السياسي، لكن لم تمثل هذه الأروقة البديل الكافي نظراً لوجود خلافات بين التيار السلفي وأنصاره وبين الأزهر، سواء على مستوى المواقف السياسية أو على مستوى العقيدة الأشعرية أو على مستوى الآراء الفقهية في عدد من القضايا"، ويوضح الدكتور عبد الباسط هيكل سببين آخرين لعدم قدرة المؤسسة الرسمية على ملء الفراغ؛ الأوّل يتمثل في النمطية والأداء الروتيني، فيقول: "المؤسسات الدينية الرسمية تتعامل مع القضايا الفكرية بشكل وظيفي، نمطي، فهي كمؤسسات عمل حكومي فيها من يُؤدي عمله بشكل رتيب مقابل أجر، فرغم ما أتيح لهذه المؤسسات من إمكانيات ودعم من الدولة، ورغم ما نجحت فيه من إقصاء للفكر السلفي عن الكثير من المساجد والزوايا؛ إلا أنّها غير قادرة على أن تكون البديل، فليس عندها حركية التيار السلفي ولا ذاتيته الحركية، فتلك المؤسسات جزء من جهاز حكومي مثل وزارة الثقافة والشباب، فجميعها لديه قصور في التواصل مع الجماهير"، والسبب الثاني يتمثل في الجمود، ويقول: "المؤسسات الدينية فيها من ينظر إلى مؤسسته بوصفها الحصن والملاذ الذي يحمي الإسلام والمسلمين، ويعيش من منظور الماضي التاريخي الذي يُمجده ويحرس التراث ولا يشتبك معه نقدياً وفكرياً، وهؤلاء لا يختلفون عن الفكر السلفي سوى أنّ كلاً منهما يريد أن يكون هو الوصيّ، فالمؤسسات الدينية للدولة المصرية ترفض الفكر السلفي القائم على امتلاك حقيقية الإسلام وكونه المتحدث حصرياً باسم الإسلام الصحيح، وهي في الوقت نفسه تريد تكرار الأمر نفسه، لكن دون تكفير للمخالف".

يمثل الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء فواعل رئيسية داخل المجال الديني

وعن رؤيته حول العوامل التي تساهم في قيام المؤسسة الرسمية بهذا الدور، يضيف الدكتور عبد الباسط: "الحل يكمن في استرداد الباحث المفكر، وهذا لا يكون بالتّلقين الذي تقوم عليه المؤسسات الدينية، ويعزّز بداخل كل منّا تعصباً لفهمه وتديّنه، فمهما كان السؤال المطروح معقداً، ويحتاج إلى تفكير، فلدينا إجابات جاهزة سريعة نتجاوز بها حدود المعرفة البشرية التي تُحتّم عليه المزيد من التواضع والتّأني في إصدار الأحكام، والمزيد من اليقظة والتحليل لكلّ ما يقعُ داخل بيئتنا المعرفية، فمخاصمة الفكر والتنكّر لنتائجه هما المسؤولان عن كلّ أنماط الاستبعاد والإقصاء والتكفير التي تتطور عن الفكر السلفي، فالبحث العلمي في الإسلاميات يستلزم كثيراً من الجرأة والشجاعة في طرح الأسئلة وجرأة أشدّ وشجاعة أعظم في البحث عن الإجابات الدقيقة لهذه الأسئلة، فيُمكننا القول إنّه لا بديل عن السباحة عكس التيّار السلفي، الذي يُسيطر على الاتجاه الفكري الديني العام الذي ينفر من المغامرة خوفاً من الوقوع في الخطأ؛ ظناً منهم أنّ الخطأ وسيلة للهلاك! بينما الخطأ هو الوسيلة الوحيدة إلى الصواب، فكلّ يقين يقع بين شكين، شكّ يعقبه يقين، ويقين يعتريه شكّ، فمعركة بناء الوعي تكمن في إصلاح الفكر الديني والإجابة عن أسئلة الإصلاح الفكري المؤجلة، وتكرار تلك الإجابات حتى تصبح من مفردات الثقافة الشائعة، فالتأسيس لتأويلية جديدة هو الضمانة الحقيقية من الفكر السلفي. التفكير في ذاته ليس جريمة، ونشْر الاجتهاد الذي هو ثمرة التفكير بلغة جسورة غير مراوغة واجب على المفكر".

مواضيع ذات صلة:

تكريم أم سيطرة... لماذا يرفض السلفيون عمل المرأة؟

معارك التيار السلفي المدخلي لا تنتهي.. هذه أبرزها

كيف وظفت السلفية الحركية مفهوم الأمّة العابر للحدود؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية