رسائل سحر طه في المستشفى.. ما لا تعرفه عن الموسيقية العراقية

رسائل سحر طه في المستشفى.. ما لا تعرفه عن الموسيقية العراقية


03/09/2018

بعد وفاتها في 17 آب (أغسطس) الماضي، بقليل، نشرت جملة "اذكرونا بخير" على صفحتها في "فيسبوك".

تُرى من الذي يقدر على ذكر الموسيقية والناقدة الفنية والصحافية، سحر طه، إلا والخير والثناء على الموهبة والجدية، يرافق سيرتها المهنية والإنسانية؟

كانت سحر طه من الرقّة لدرجة أنّها لم تكشف حتى تفاصيل آلامها مع السرطان

فالمغنية العراقية، المقيمة منذ أكثر من 30 عاماً في لبنان، كانت من الرقّة بدرجة أنّها لم تكشف حتى تفاصيل آلامها مع السرطان الذي انتصرت عليه مرتين: 2003 و2006 وهزمها أخيراً في مستشفى هنري فورد بأمريكا.

تلك بالتأكيد رسائل أشواق، قد نتعرف إليها ذات يوم، للمكان الأول الذي كابدت الحنين إليه، وحلمها الذي نهض فيه وتبدّد طوال رحلة العراق الدموية منذ أن غادرته إلى لبنان صحبةَ زوجها/ زميلها في الجامعة المستنصرية ببغداد.

اقرأ أيضاً: "فئران أمي حصة": مرافعة إنسانية ضد الكراهية

فسحر برعت في أداء الموروث الغنائي البغدادي إلى جانب الموروث الغنائي العربي واللبناني، غير أنّها لم تعتبر ذلك تكريساً لصورة المغنية المحترفة، ولم ترَ أنّ الغناء سيكون الشكل الوحيد لتأثيرها في تظاهرات موسيقية عربية عدة شاركت فيها؛ فهي تكتب النقد الموسيقي، ولها آراء مهمة في توسيع دائرة الثقافة الموسيقية تنشرها في صحيفة "المستقبل" اللبنانية، ومنابر إعلامية عربية أخرى.

هزمها المرض في مستشفى هنري فورد بأمريكا

وعن الفكرة في تحوّلها من البحث والنقد إلى الغناء، قالت لكاتب السطور في حديث على هامش مهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة 2002، "لم أتحوّل، بل العكس هو الصحيح، فأنا درست الموسيقى والغناء قبل أن أبدأ الكتابة في النقد والبحث الموسيقي، ونتيجة دراستي وممارستي الطويلة منذ العام 1986 للغناء كبر لديّ الحس النقدي، كذلك أنا ابنة شاعر ونشأت في جو أدبي وفني، ومنذ طفولتي كانت الكلمة جزءاً أساسياً من تكويني، لذا جاء النقد متمّماً ومكمّلاً للغناء".

برعت المغنية العراقية المقيمة منذ 30 عاماً بلبنان بأداء الموروث الغنائي البغدادي إلى جانب العربي واللبناني

ولكن تحصيلها الدراسي لم يكن له علاقة بالموسيقى والغناء! فدراستها الأولى في بغداد هي إدارة الأعمال، ولم تكن حسب رغبتها إنما "استجابة لرغبة الأهل، بينما آمالي ظلت في دائرة الموسيقى، وكنت أحلم أن أكون عازفة على آلة الأوكورديون، لكن لم تكن لي الجرأة حين وصلت مرحلة دراستي الجامعية أن أطلب من الأهل الدخول إلى المعهد الموسيقي، كما لم يكن في العائلة أحد له علاقة بالموسيقى والغناء، وفي المجتمع العراقي لم تكن النظرة إلى المغني أو المغنية نظرة حصيفة"، بل هي نظرة تقارب "العيب" و "الحرام".

اقرأ أيضاً: وداعاً ياسر المصري

بعد انتقالها مع زوجي اللبناني، سعيد طه، الذي كان يدرس معها في الجامعة المستنصرية ببغداد، إلى بيروت العام 1980، لم تستطع مقاومة الرغبة في الدخول إلى المعهد الموسيقي الوطني بلبنان ودراسة العود والغناء فيه، وعملت موجات الحرب الأهلية اللبنانية على توقّف الدروس النظامية، وإلى جانب ذلك انغمست في واجباتها العائلية ما دفعها إلى الاستعانة بموسيقيين لبنانيين كبار لإكمال دراستها معهم، كالراحل سعيد سلام عازف العود الشهير، ودراسة "تركيز الصوت" على يد الموسيقية بديعة حدّاد، ابنة الراحل وديع صبرا صاحب النشيد الوطني اللبناني.

درست الموسيقى والغناء قبل أن تبدأ الكتابة في النقد والبحث الموسيقي

أصدق مع ذاتي

أثناء الدراسة وفي العام 1984، بدأت بتأسيس فرقة موسيقية تراثية مع الفنان نبيه الخطيب، وكانت معنيةً بالتراث الغنائي العربي "الموشحات والأدوار"، وفي إطلالة للفرقة العام 1986 قدمت 24 عملاً لسيد درويش ضمّت أبرز ملامح إنتاجه الموسيقي الذي اُعتبر أولى خطوات التحديث في الموسيقى العربية.

اقرأ أيضاً: 5 محطات في حياة عبد الصبور

تبعت ذلك أمسيات عدة للفرقة أهمها، إحياء حفل افتتاح مكتب الخطوط الجوية الأردنية "عالية" في بيروت بحضور الملك الراحل الحسين بن طلال 1986.

وبسبب ظروف الحرب توقّفت أعمال الفرقة، لتؤسس أخرى جديدة "فرقة التراث اللبناني"، وتبدأ التنقيب عن الأعمال الموروثة في القرى اللبنانية، كي تصل إلى تقديم الألحان الأصلية على المسرح، وبعد اختيارٍ ومران وعلاقة مع كل من الأنواع الغنائية مصرياً ولبنانياً وجدت ذاتها في اللون العراقي فذلك "أصدق مع ذاتي ومع الجمهور".

أثناء الدراسة بدأت بتأسيس فرقة موسيقية تراثية مع الفنان نبيه الخطيب وذلك في العام 1984

سألتها ذات يوم "ما الرسالة التي كنت بصدد نقلها بعد إصدارك أسطوانة "بغداديات"، أهي رسالة حنين شخصية للعراق، أم هي تعبير عن وجدان عراقي في الغربة؟ أم تعريف بفن تكاد تخفت معالمه؟ لتجيبني "هي كل الذي ذكرته في السؤال؛ هي حنين شخصي لديّ ولدى كل عراقي، والأسطوانة فيها محافظة على الأصل الغنائي ودون إضافات تشوّه الأصل، وأنا حين أنقل بأمانة لا أزايد على أولئك الذي أبدعوا الألحان فلست أفضل منهم، وأرى أنّ تسمع الأجيال الجديدة، هذه الألحان كما كانت مع آلاتها الموسيقية القديمة "الجوزة" و"السنطور" أفضل من تقديمها بأشكال جديدة تفقد الأصل عناصره المهمة، كما إنني قصدت إظهار الغناء الموروث كي لا يذهب أدراج الرياح، حتى وإن كانت محاولتي تأتي عبر صوتي المتواضع، فأنا أعرف صوتي متواضعاً قياساً بأصوات المغنيات الكبيرات، سليمة مراد، لميعة توفيق، زهور حسين، زكية جورج وغيرهن".

كانت معنيةً بالتراث الغنائي العربي "الموشحات والأدوار"

موروث رقّت له المدينة العراقية

في أسطوانة "بغداديات"، مختارات من موروث الغناء العراقي، كانت أشبه بالتحية إلى أنغام كوّنت الذاكرة الروحية لأجيال عدة من العراقيين، فيما كان الجانب الموسيقي حاضراً بطريقة مدروسة عبر اشتراك العازف على العود، عمر منير بشير، إلى جانب فرقة موسيقية تشكّل آلاتها حجر الزاوية في حفلات المقام العراقي، والتي تُعرف اصطلاحاً بـ "الجالغي البغدادي".

بسبب ظروف الحرب الأهلية اللبنانية توقّفت أعمال فرقتها الأولى لتؤسس أخرى جديدة هي "فرقة التراث اللبناني"

ولئن كانت سحر طه تعرف الأنغام من خلال دراسة عميقة، وتنظر إلى الأصوات بمراجعة نقدية سليمة؛ فهي بالتأكيد لم تكن تقصد تقديم نفسها بصفتها صوتاً كبيراً يؤدي الغناء بطريقة تقارب الإتقان، وإنما كانت تقصد استعادة أنغام تندرج في إطار الذاكرة الروحية، وتوجيهه نحو جمهرة متلقين يتعرضون إلى ما يشبه الاقتلاع من تأثيرات الذاكرة تلك، وبالتأكيد هو جمهور عراقيين توزّعوا على مناطق واسعة من العالم، وجمهور عربي ما يزال ينظر للموروث الغنائي العراقي باحترام وتقدير لافتين، إضافة إلى أنّ هذا النمط من الغناء يأتي في وقت تكاد الأشكال المعاصرة في الغناء تملؤه ضجيجاً وصخباً، فينسحب معها التأثير الروحي الصافي لصالح هياج حسي واستعراضي.

اختارت سحر طه أداء أغنيات إيقاعية رشيقة من الغناء العراقي، وتحديداً ذلك اللون الذي شاع في المدن؛ لذا جاءت ضمن إيقاع الجورجينا مثل "سلم علي" و"عمي يا بياع الورد" اللتين غناهما حضيري أبو عزيز (أقرب الأصوات الريفية إلى روحية الغناء البغدادي) و"يا ام العيون السود" و"ميحانة ميحانة" و"قل لي يا حلو" لناظم الغزالي الذي أدخل على المقام العراقي شكلاً من أداء الغناء الخفيف المحبّب، و"يلي نسيتونا" من أداء أصلي للراحل محمد القبانجي، فيما كان المزاج مختلفاً بعض الشيء لجهة الطبيعة الموسيقية والنفسية حين غنّت "مرينا بكم حمد" التي كتبها الشاعر مظفر النّوّاب وغناها ياس خضر أوائل سبعينيات القرن الماضي، فهي حفلت بمزاج ريفي الجذور مع لحن لم يكن بعيداً عن الموروث الشعبي الحسيني الكربلائي في فجائعيته.

اقرأ أيضاً: ردّ الشاعرة الفلسطينية دارين على حكم  الاحتلال بحبسها

"بغداديات"، أسطوانة تذكّر بموروث روحي حميم تكاد النيران تأتي عليه من كل جانب، وفضيلة سحر طه كبيرة هنا، في تقديمه بصورة تحفظ ذكراه وتأثيره وقيمه الجمالية، وتلك نسجت رسائل الحنين التي دوّنتها رفقةَ الألم والمكابدة بمستشفى هنري فورد في ديترويت الأمريكية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية