
في كتابه: "المقاومة والحرية... غزة وسردية البطولة والإبادة"، الصادر عن دار (ميريت)، يقدم المفكر المصري الكبير نبيل عبد الفتاح رؤية وتحليلاً لواقع الحرب المشتعلة في غزة، وقضية فلسطين التي عادت إلى الواجهة بعد عملية "طوفان الأقصى" وردّ السيوف الحديدية، حسب تعبيره.
والكتاب سردية يرويها الأستاذ نبيل عبد الفتاح، عائداً بجذور المأساة التاريخية إلى عقود طويلة، حيث قضية فلسطين التي توارت خلف التحالفات الدولية والإقليمية في المنطقة، ولكنّها اليوم تعود لتُشكل بُعداً عالمياً مختلفاً، وتكشف الكثير من زيف النظام العالمي بشأن حقوق الإنسان. ومن خلال محاور كثيرة تناولها الكتاب عبر فصوله الـ (6)، نغوص مع تحليلات لتلك السردية، يبدأها الكتاب بجذور الحرب على قطاع غزة والضفة بعد "طوفان الأقصى". فبعد نشأة إسرائيل في المنطقة تعاقبت حروب ونزاعات مسلحة، وتكاثرت المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما عكس فشل أنظمة الحكم العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال، ونشوء خطابات إيديولوجية متعددة خلال مراحل المواجهة؛ منها الخطاب الإسلامي (عقائدي) الذي يصف الصراع كمواجهة بين عقيدتين أو ديانتين مختلفتين، وخطاب ليبرالي وماركسي، يصفه كمواجهة لفكرة الصهيونية السياسية. فأصبحت فلسطين مصدراً من مصادر نظام شرعي سياسي لدول المواجهة، ومشروعاً لوجودها، بل أصبحت جزءاً من أزمات هذه الأنظمة.
الحرب الكاشفة
ويأخذنا الكتاب إلى مستوى آخر من التحليل، حيث كشفت الحرب الإسرائيلية ضعف بنية ونوعية الإنتاج العلمي والمعرفي في الدول العربية، وبنية الاستبداد والطغيان المتجذرة في عدد من أنظمة الحكم العربية.
أمّا عن أشكال المقاومة الفلسطينية، فهي في رأي عبد الفتاح، ارتبطت بعدة مستويات، وكل مستوى ارتبط بمفهوم، فهناك المقاومة المرتبطة بمفهوم الدين والعقيدة، ومنها ما ارتبط بالثقافة والهوية، أو بالعِرق، وهناك المقاومة الوطنية التي لا ترى من أرض فلسطين إلّا وطناً جامعاً للأعراق والثقافات المتعددة. ويأخذنا المفكر المصري إلى قضية أخرى شائكة تتمحور حول المقاومة ومشكلة المعنى، أي فقدان المعنى في العصر الحديث، والتي بلغت أقصى مراحلها مع التحول نحو الأناسة والذكاء الاصطناعي، تمهيداً لما بعد الإنسانية، وهجمة الفيروسات المتحورة، وهنا تأتي مقاومة المستعمر جزءاً من تبلور المعنى في وعي الجماعات بذاتها وخصوصيتها الدينية، والثقافية والعرقية وتاريخها الشفاهي والمكتوب، فكان الفكر المقاوم والفعل المقاوم ينطوي على بعض الإجابات عن معنى الحياة الحرة والمستقلة.
ويرى عبد الفتاح أنّ القضية الفلسطينية تعبير عن سعي القوى الاستعمارية الغربية لاستمرار السيطرة على المنطقة العربية والشرق الأوسط واستغلال مواردها، وجبهة لصراعها ضدّ الكتلة الشرقية، والتكفير عن ذنبها، في ممارساتها القديمة تجاه اليهود.
من جهة أخرى أصبحت القضية الفلسطينية انعكاساً وواقعاً للعجز العربي على مختلف الأصعدة، وتحولت إلى مصدر من مصادر الصراع البيني في المنطقة العربية.
تناقض الغرب
على مستوى آخر من تناول نبيل عبد الفتاح لهذه السردية، كان الكشف عن الغرب المراوغ والمتناقض الذي كان واضحاً في قضية الحق الفلسطيني في أرضه، ودفاعه عنها، فكان مصطلح الإرهاب الغامض والفضفاض في الخطاب الغربي لوصف الجماعات الرديكالية، والأصولية الإسلامية في المنطقة، في حين أنّ بريطانيا وأمريكا قامتا بتوظيف هذه الجماعات سياسياً؛ لمواجهة حركات التحرر الوطنية والجناح اليساري والقومية العربية والأحزاب الشيوعية.
ومن خلفيات وبذور الأزمة وتحولاتها ومشكلة المعنى والمقاومة، وتناقضات الغرب، يضعنا الكتاب أمام الحروب اللغوية والخطابية بين الأطراف المتصارعة، فاللغة تنطوي أيضاً على مسارات متعددة لتتخذ موقعها في الحرب الدائرة، فهي الحرب المقدّسة لكلا الطرفين، (الله) بلغة العقيدة الإسلامية، و(يهوه أو إلوهيم) في اليهودية، و(يسوع) في المسيحية. وتتفرع الخطابات من الديني المقدّس إلى الخطاب العسكري والإعلامي المرتكز على المصطلحات القانونية، ويمتد إلى خطاب عسكري ميداني وإعلام مرئي.
بين أيدينا كتاب تضعنا فصوله أمام تلك الحرب الممتدة، وإفرازاتها، وتأثيرها في المنطقة والعالم، هذه القضايا والرؤية التي عبّر عنها نبيل عبد الفتاح تولّد الكثير من الأسئلة حول كيفية إعادة القراءة وإعمال التفكير فيما وصلت إليه المقاومة من حرب الإبادة، وأين نقف من تلك السردية؟ وكيف لنا أن ننتج خطاباً ولغة جديدة؟ وقد تكون من أهم أدوات الوصول إلى حل لقضية فلسطين، التي يراها المجتمع الغربي والأمريكي اليوم بعين أخرى مختلفة.
ربما من أبرز تلك الأسئلة: أين ما تغنّى به النظام العالمي من حقوق الإنسان؟ وأين هو ممّا يحصل اليوم في غزة؟ وهل يدرك الغرب وأمريكا تناقضهم الكبير الذي أصبح مضحكاً أمام العالم؟ بل ما مصيرهم مع سياساتهم التقليدية التي طال استخدامها منذ قرن في حروبهم على المنطقة؟ واستخدام الحركات المتطرفة لإنهاء أيّ حركات وطنية ودعوة إلى الحرية والاستقلال، لتنعتها بالإرهاب، وسياسات الدول الأوربية تجاه المسلمين المهاجرين إلى بلدانهم هرباً من جحيم الحرب، التي وصفها الأستاذ نبيل عبد الفتاح بالفاشلة، فسماحهم لهذه الأقليات المتطرفة بممارسة دعوتهم في المساجد والضواحي وإعادة تشكيل هوية القادمين من الشرق الأوسط، ممارسات الغرب بإهمالهم لها، وغضّ الطرف عنها، يعرّضها لأعمال العنف التي قامت بها بعض تلك الجماعات المتطرفة المخالفة لأنظمة وقوانين البلاد الأوروبية، لتصفها الأخيرة بأعمال الإرهابيين.
الكتاب في موضوعاته يفتح آفاقاً كثيرة للرؤية والتحليل، وهو من الكتب المهمّة التي طرحت لهذا العام عن دار (ميريت)، في عالم يموج بسردياته المتصادمة، وشعوب ترزح تحت وطأة أنظمة لا تفتأ تُشعل الحرائق كل حين.