رجل القش الذي أوقف الجيش الروسي في أوكرانيا

رجل القش الذي أوقف الجيش الروسي في أوكرانيا

رجل القش الذي أوقف الجيش الروسي في أوكرانيا


21/12/2022

يشير مصطلح رجل القش، إلى تصور مفاهيمي مغلوط، حول حجة جرى تشويه أصلها، قبل أن يتمّ التعامل مع النسخة المزيفة كحقيقة. ويُعد رجل القش شكلاً من أشكال المغالطة الجدلية التي يسعى صاحبها إلى تفنيد حجة ما، أو تحقيق انتصار خاطف، في معركة تبدو وهمية، ذلك أنّ الموضوع الحقيقي لم يتم تناوله أو دحضه؛ بل استُبدل بآخر زائف. ويقال إنّ الشخص الذي ينخرط في هذه المغالطة، "يهاجم رجل القش".

وتخلق حجة رجل القش وهماً، بأنك هزمت الخصم؛ من خلال الاستبدال السري للواقع الحقيقي، بآخر خيالي، وتؤدي تكتيكات رجل القش في نهاية الأمر إلى تشتيت الانتباه عن الحقيقة، والانصراف عن تحقيق الأهداف المرجوة إلى أخرى لا تمت للواقع بصلة.

التعامل واقع عسكري مزيف

بعد ما يقرب من 10 أشهر من غزوها لأوكرانيا، تكبدت روسيا خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وتعثر جيشها ضدّ عدو كان يبدو قبل الحرب، أضعف بكثير مما ظهر عليه في الواقع.

وبحسب أنطون ترويانوفسكي، رئيس مكتب صحيفة "التايمز" في موسكو، اعتقد الروس عند بداية الغزو، أنّ جيشهم سوف يحتل أوكرانيا بسرعة، وهو ما لم يحدث، حيث سارت الحرب بشكل سيئ للغاية بالنسبة للروس، وهو أمر يرجعه ترويانوفسكي إلى عناد بوتين وعزلته الخاصّة، واعتقاده أنّه يعرف ما هو الأفضل. بالإضافة إلى أنّ الجيش الروسي لم يكن مستعداً من ناحية الجاهزية التكتيكية، واعتمد الجنرالات على خرائط تعود إلى الحقبة السوفياتية، ما أدى إلى تخلي الجنود عن مواقعهم، فتعرضوا لكمائن قاتلة، ومع طول خطوط الإمداد، لم يكن هناك ما يكفي من الطعام لإطعام الجنود، الذين استخدموا هواتفهم الخلوية للاتصال بذويهم، ما أدّى إلى تعقبهم وكشف مواقعهم.

تخلق حجة رجل القش وهماً، بأنك هزمت الخصم؛ من خلال الاستبدال السري للواقع الحقيقي، بآخر خيالي

أفرط القادة الروس في الاستهانة بقدرات الجيش الأوكراني، حيث أظهرت نسخ تمّ الحصول عليها لبعض خطط الغزو، كانت تمتلكها بعض الوحدات العسكرية الروسية، أنّهم كانوا يتوقعون السيطرة على كييف في غضون ساعات، ولم يعتقد القادة الروس أنّهم بحاجة إلى أيّ تعزيزات، ولم يتوقع بوتين أن يتحد الغرب خلف أوكرانيا بالطريقة التي فعلها. وكل هذا زاد من ضخامة رجل القش، الذي ظن الروس أنّهم قادرون على تدميره بسهوله في أوكرانيا.

أظهرت التفجيرات الأخيرة التي استهدفت قاعدة ساكي الجوية، في شبه جزيرة القرم، وهي منشأة تبعد 225 كيلومتراً عن خط المواجهة، وجود ثغرات متعددة بالمنطقة التي أعلن الروس أنّها محمية بنظام دفاعهم الجوي. حيث أطلق الروس الفرضية وصدقوها كالعادة، قبل أن ينفجر رجل القش في وجوههم من جديد.

ويمكن رصد الكيفية التي هيمنت من خلالها فرضية رجل القش، على عقلية القيادة الروسية، ففي البداية ظن بوتين أنّه قادر على غزو أوكرانيا بـ 150.000 جندي فقط، في حين حشدت أوكرانيا نحو 250.000 جندي، ما يتناقض بشدة مع نسبة قوات الهجوم إلى قوات الدفاع المطلوبة تقليدياً لحملة ناجحة، لكن بوتين قرر شن الحرب، على أساس افتراض استسلام الأوكرانيين دون قتال. ومن الواضح أنّ البيانات التي استند إليها بوتين كانت معيبة للغاية.

هرم الأولويات المقلوب

أحد الأسباب الرئيسية لاعتماد موسكو على استراتيجية رجل القش، هي أنّ القيادة العسكرية تعطي الأولوية للأهداف السياسية، وتتجاهل المعطيات العسكرية. فعلى سبيل المثال: أصبح الاستيلاء على سيفيرودونتسك هدفاً سياسياً، لمجرد أنّها كانت آخر مدينة ذات عدد كبير من السكان في منطقة لوهانسك، فأرادت موسكو الاستيلاء على المدينة؛ كدليل على سيطرتها على المنطقة بأكملها. ومع ذلك، كانت للعملية قيمة استراتيجية محدودة، وأدت إلى إضعاف مواقع الجيش الروسي على الجبهات الأخرى. وفي المقابل، قام الجيش الأوكراني بإجلاء المدنيين من سيفيرودونتسك؛ لجذب عدد كبير من القوات الروسية، التي أجبرت على القتال في منطقة لم تتمكن فيها من استخدام قوات المدفعية الكاملة.

التعبئة قوبلت باحتجاجات كبيرة في جمهورية داغستان الروسية، ذات الأغلبية المسلمة، وغيرها من الجمهوريات العرقية

وفي معركة واحدة جرت في بيلوهوريفكا في أيّار (مايو) الماضي، فقدت روسيا ما يقرب من 1000 جندي، وحوالي 100 قطعة من المعدات، بسبب الإصرار السياسي على عبور نهر سيفيرسكي دونتس.

خلل في المنظومة اللوجيستية

اعتمد الجيش الروسي على تكتيك القصف المدفعي المكثف، وفي بداية الغزو الشامل، دخل الجيش الروسي إلى أوكرانيا في طوابير زائرة، بدلاً من الدخول بتشكيلات قتالية، ظناً أنّهم لن يواجهوا مقاومة، ما تسبّب في تكبدهم خسائر فادحة في الأيام القليلة الأولى من الحرب، ما أجبرهم على الانسحاب من مناطق كييف وتشرنيهيف وسومي.

ردّ الجيش الروسي على هذه الإخفاقات، بالعودة إلى التكتيكات القائمة على شن غارات مدفعية مكثفة على المواقع الأوكرانية، الأمر الذي مهّد الطريق لشن هجمات بواسطة المشاة والعربات المدرعة، ما أدى إلى تحقيق مكاسب إقليمية، خاصّة في شرق أوكرانيا.

لكن الوضع تغير، بعد أن زودت الولايات المتحدة أوكرانيا بـمنصات إطلاق صواريخ متحركة من طراز (M142 HIMARS) استخدمتها القوات المسلحة الأوكرانية لتدمير أكثر من 50 مخزن ذخيرة روسي في غضون أسابيع قليلة. وقد أدى ذلك إلى إعاقة تسليم الذخيرة لوحدات المدفعية الروسية، مما قلل من شدة القصف في عدة مناطق، وأبطأ التقدم الروسي في شرق أوكرانيا.

وبحسب تقرير موثق صادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، يعاني الجيش الروسي منذ بداية الحملة، من خلل كبير في الخدمات اللوجستية، لدرجة أنّ العديد من الوحدات لم تتمكن ببساطة من الوصول إلى وجهاتها. هناك العديد من الأسباب وراء هذه الفوضى، لعل أبرزها عمليات القوات الأوكرانية التى استهدفت تعطيل الخدمات اللوجستية الروسية، وهو ما لم يتوقعه كبار الجنرالات الروس الذين خططوا للحملة.

لقد أدى تمركز قوات الجيش الروسي في شرق أوكرانيا، إلى تقليص طول الجبهة التي كان يقاتل عليها، مع تقليص خطوط الإمداد لروسيا، واحتلال لوهانسك ودونيتسك. ولكن أدى استخدام أوكرانيا لاحقاً لنظام الصواريخ المتحركة والأنظمة الأخرى، إلى تعطيل الخدمات اللوجستية لروسيا مرة أخرى.

السقوط في الوحل الجليدي

في تعليقه على تقرير لجنة التحقيق البريطانية، فيما يتعلق بغزو العراق، والتي كشفت كذب ادعاءات امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وهي الادعاءات التي بنى عليها رئيس الوزراء السابق توني بلير، قراره بالمشاركة في الغزو، قال بلير إنّ "هذه الأمة التى أردنا أن نحرر أبناءها من أشرار صدام حسين، تحولت إلى ضحية للانقسامات الطائفية، وبسبب كل هذا فأنا أعبّر عن حزنى وأسفى واعتذارى". متهرباً من الإجابة عن السؤال المركزي حول أسطورة أسلحة الدمار الشامل العراقية، والكيفية التي اتخذ بها قرار الغزو.

بالمثل، تتهرب القيادة الروسية من التعليق على الخسائر الهائلة في الأرواح، التي مُني بها الجيش الروسي في أوكرانيا، وبدلاً من ذلك يتم اللجوء إلى تكتيك رجل القش، بداعي أنّ الاتحاد السوفياتي فقد أكثر من 27 مليون شخص في الحرب العالمية الثانية، وعليه فإنّ الشعب الروسي مستعد دوماً لتقديم المزيد من التضحيات.

يدرك بوتين أنّ الأمور لم تسر كما هو مخطط لها، لكنّ آلة الدعاية في البلاد، ساعدته على إقناع العديد من الروس، بأنّ الحرب لا تسير بشكل كارثي، وأنّ الغرب هو الذي أجبر روسيا على القتال. بالإضافة إلى ذلك، يركز بوتين على الترويج لفكرة أنّ العقوبات الاقتصادية لم تخرج الاقتصاد الروسي عن مساره، بالطريقة التي كان الغرب يأملها.

مع الوقت أصبح من السهل رصد تكتيك رجل القش، والذي أظهر كيف وضعت موسكو سيناريوهات مغايرة للواقع، وباتت تتعامل معها بوصفها الحقيقة الوحيدة والنهائية، بينما الواقع يقول شيئاً آخر. مثال: ادعى الرئيس بوتين، أنّ الجنود الروس الذين يقاتلون في أوكرانيا، ذهبوا إلى القتال مدفوعين بشعور جارف من الحماسة الوطنية، مع التزامهم بواجب الدفاع عن روسيا.

والحقيقة أنّ التعبئة الجزئية التي قام بها الجيش الروسي، استهدفت بالأساس أبناء المناطق الفقيرة والنائية في روسيا، والتي تضم أقليات عرقية كبيرة، كما أنّ التعبئة قوبلت باحتجاجات كبيرة في جمهورية داغستان الروسية، ذات الأغلبية المسلمة، وغيرها من الجمهوريات العرقية، وفرّ ما لا يقل عن 200 ألف مواطن روسي من البلاد، منذ الإعلان عن التعبئة الجزئية.

يقدر البنتاغون أنّ ما يصل إلى 80 ألف جندي روسي قتلوا أو جرحوا في الحرب

من جهة أخرى، وفي سياق تكتيكات رجل القش، زعم الجيش الشيشاني أنّ الجيش الروسي يتقدم بشكل منهجي، بالتزامن مع العمليات الهجومية الجارية على طول خط المواجهة بأكمله في أوكرانيا، والحقيقة أنّه حتى اليوم لم تُلاحظ أيّ تغييرات كبيرة في السيطرة على الأراضي، منذ أكملت القوات الروسية انسحابها من الضفة الشمالية لنهر دنيبرو، في منطقة خيرسون، قبل أسابيع مضت. كما أظهرت القوات الروسية قدرة محدودة على التكيف طوال الصراع، وهي تواصل استخدام نهج التضحية بخسائر عالية في شن هجمات متكررة على الدفاعات الأوكرانية؛ على أمل تحقيق مكاسب، لكنها فشلت في اختراق الدفاعات الأوكرانية في الأسابيع الفائتة.

كما تزعم موسكو أنّ العقوبات الغربية على روسيا، هي التي تسببت في حدوث أزمة اقتصادية عالمية، والحقيقة هي أنّ الغزو الروسي لأوكرانيا، وليس العقوبات الغربية، هو العامل الوحيد الذي دفع الاقتصاد العالمي نحو الانكماش، جراء تعطيل سلاسل التوريد العالمية والتجارة الدولية بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة في جميع أنحاء العالم. وتقدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أنّ الغزو الروسي قد يكلف الاقتصاد العالمي نحو 2.8 تريليون دولار من الناتج الاقتصادي المفقود، بحلول نهاية عام 2023.

تعامل القادة الروس مع واقع عسكري مزيف، فاستدرجهم رجل القش الذي صنعوه إلى كمين محكم، ما تسبب في خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، حيث يقدر البنتاغون أنّ ما يصل إلى 80 ألف جندي روسي قتلوا أو جرحوا في الحرب. وهذا أكثر مما خسره السوفيت في عشر سنوات من القتال في أفغانستان. كما ضحت روسيا بكمية هائلة من المعدات، بما في ذلك أكثر من 1700 دبابة (ما يعادل 65 في المائة من مخزونها قبل الحرب)، بالإضافة إلى 4000 مركبة مدرعة، ونحو 200 طائرة.

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية