دوافع الكتابة وطقوسها الماكرة

دوافع الكتابة وطقوسها الماكرة


23/04/2019

كل من خَبِرَ الكتابة أو صاحَبَ الكتّاب، يعلم حقّ العلم، أنّ كل ما أُهرِق من أحبار وما دُبِّج من أوراق، بخصوص محرّكات الإبداع أو بخصوص مراسم الكتابة، ليس إلا ضرباً من الخيال الذي قد يتجاوز أحياناً خيال الشعراء والرسامين والروائيين!

اقرأ أيضاً: لماذا أخفق الفيلسوف العربي؟

ولعل أدق ما يمكن إطلاقه من تعميمات على هذا الصعيد، يتمثل في عبارة تتكوّن من كلمتين وهي (عدم الثبات!)؛ فالحرمان – بأنواعه- الذي استفاض فلاسفة وعلماء نفس ونقّاد في تحميله وزر قدح زناد المبدعين، ينفيه تمكن بعض المبدعين الموسرين المترفين من التفوّق على أندادهم الفقراء المتقشفين، حتى في تصوير الحرمان نفسه. والدّعة التي أطنب فلاسفة وعلماء نفس ونقّاد آخرون في تأكيد ضرورتها للمبدع، ينفيها اقتدار بعض المبدعين المشرّدين على منافسة أقرانهم من المبدعين المكتفين، حتى في تصوير أحوال الدّعة نفسها. وبناء على ما تقدم، يمكنك أن تقيس ما قيل ويقال أو سيقال عن الإلهام والموهبة والعبقرية.

طقوس الكتابة مؤلمة ومثيرة ولا إرادية في آن واحد، مثل طقوس المخاض تماماً ولن يتمثلها إلا من جرّبها

ما الذي يحرّك إبداع المبدع المحروم أو المكتفي؟ وما الذي يحدث بعد ذلك؟ ولماذا ينفق المبدع شهوراً وهو يفكّر ويخطط لاجتراح عمل ما ثم يخفق في تنزيل الفكرة من حيز الممكن إلى حيز الواقع؟ ولماذا ينجح في إخراج عمل آخر من حيز العدم إلى حيز الوجود، رغم أنه لم يستغرق منه وقتاً طويلاً ولم يخطط له؟ ولماذا تحلّق الفكرة المباغتة وتهوي الفكرة المنمقة المدروسة؟ ولماذا يجلس خلف مكتبه محدّقاً في رزمة الأوراق البيضاء الأنيقة دون جدوى ولماذا يهطل عليه وابل من الأفكار فيما هو لا يملك أن يكتب إلا على قصاصات مجعّدة التقطها من هنا وهناك؟ إنها أسئلة ستظل تقض مضاجع المفكّرين والنقاد بوجه عام، كما ستظل تقلق راحة المبدعين بوجه خاص، لأن أكثر ما يرعبهم هو التساؤل عن مدى قدرتهم على الاحتفاظ بتلك الشرارة التي أوقدت أوار أعمالهم الأولى!

اقرأ أيضاً: المثقفون "الزعران" في الأدب العربي

وأما بخصوص طقوس الكتابة فحدّث ولا حرج؛ لأن واقع حال المبدعين أبعد ما يكون عن الصور النمطية المثالية التي استفاضت الروايات والمسرحيات والأفلام والمسلسلات بترسيخها في أذهان الناس، وأعني بها مثلاً صورة ذلك الكاتب الأنيق الذي يستيقظ صباحاً فيتناول وجبة إفطاره ويحتسي قهوته ويدخن بهدوء فيما هو يتصفّح بعض الجرائد، ثم يدلف بكل أناقته إلى غرفة مكتبه الوثير، ويشرع في الكتابة، وربما رفع رأسه قليلاً ليتأمل ويركّز أنظاره في نقطة غير مرئية! أو صورة ذلك الكاتب الذي يسير بمحاذاة شاطئ البحر شابكاً يديه خلف ظهره، فيما تنطلق نفثات غليونه المزروع في زاوية فمه بثبات واطمئنان!

اقرأ أيضاً: أبو زيد الهلالي بوصفه ملهماً لابن خلدون!

أقول: هاتان الصورتان أبعد ما تكونان عن واقع حال الكتّاب لحظة الكتابة؛ لأن معظمهم لا يطيقون الكتابة في مكاتبهم أو غرف مكتباتهم، وربما فضّل بعضهم الكتابة على طاولة المطبخ، أو وهو متمدّد على الأريكة، أو وسط صخب روّاد مقهى من الدرجة الثالثة، أو وهو منبطح ببطنه على أرضية غرفة المعيشة، أو وهو غارق بين ملفات الوظيفة! وفي كل الأحوال فهو أبعد ما يكون عن ذلك الهدوء الرومانسي أو تلك الأناقة المتخيلة أو ذلك الانتظام الموهوم؛ لأنه قد يمضي أياماً دون أن يستحم أو دون أن يحلق ذقنه أو دون أن يستبدل ملابسه أو دون أن يأكل أو ينام بانتظام، ولأنه قد يدخن كثيراً أو لا يدخن على الإطلاق، ولأنه قد يحتسي عشرات الفناجين من القهوة أو لا يحتسي شيئاً، ولأنه قد يكون سعيداً جداً أو مكتئباً ومحبطاً ومنطوياً، ولأنه قد يكون عطوفاً شفّافاً أو غاضباً وعدوانياً.

اقرأ أيضاً: صلابة الحداثيين العرب ورخاوة من بعدهم

ومن باب الترويح عن القرّاء الأعزاء، فلا بأس في أن نُلمّ بِطَرَف من طرائف طقوس المثقفين العرب الهواة في هذا الزمن، لأن عدداً منهم قد توهّموا مخطئين، أن التزيي ببعض الأزياء، أو الظهور على نحو ما، أو ملازمة بعض العادات، قد يجعل منهم كتّاباً مرهوبي الجانب، فأطلقوا شعورهم أو لحاهم، وتعمّدوا ارتداء الأسمال البالية، وربما تقصّد بعضهم مجافاة الاستحمام والاعتناء بنظافتهم الشخصية حتى يحوزوا قصب الالتحاق بالكتّاب البوهيميين. لكن ثالثة الأثافي تتمثل في معاقرة القهوة والإكثار من الحديث عنها وإقحامها في المكتوب والمحكي، كما لو أنّ الإمعان في شربها هو الحد الفاصل بين المثقف وغير المثقف أو الكاتب وغير الكاتب. ولعل هذا الاستطراد لن يكتمل، إلا بالتنويه إلى حقيقتين: أن بوهيمي الغرب قد فعلوا كل ما فعلوا، تعبيراً عن احتجاجهم على الواقع الرأسمالي المتوحش، وأنّ المستفيد الأكبر في الوطن العربي، جرّاء الإقبال على شرب القهوة، هم تجّارها وموزعوها وبائعوها؛ وأما الإبداع في الكتابة العربية، فلم يكد يظفر جرّاء هذا الهوس، إلا بأقل القليل من الإبداع!

واقع حال المبدعين أبعد ما يكون عن الصور النمطية المثالية التي استفاضت الروايات والأفلام والمسلسلات بترسيخها في أذهان الناس

طقوس الكتابة مؤلمة ومثيرة ولا إرادية في آن واحد، مثل طقوس المخاض تماماً. ولا يمكن أن يتمثّلها إلا من خاضها أو جرّبها؛ لأنها تحتضن فعلاً استثنائياً بكل المقاييس، يجمع بين الرغبة في تفريغ مشاعر الغضب والألم من جهة، والرغبة في تجاوز الواقع عبر ابتكار معادل إبداعي له من جهة ثانية، والرغبة في الهدم والبناء من جهة ثالثة، والرغبة في الخلود من جهة رابعة. إنه فعل تقف كل التفسيرات عاجزة عن تقديم فهم جامع مانع لكنهه؛ هل هو وليد الإلهام المتّصل بالعالم العلوي، أم هو وليد الموهبة المنبثقة عن الطفرة الجينية، أم هو وليد المراس المشدود للجَلَد والمثابرة؟ هل هو نتاج البداهة والبساطة أم نتاج الصنعة والتنميق؟ هل هو ابن الفوضى أم ابن النظام؟ وأياً كان كنهه فهو الفعل الوحيد الذي يمتزج فيه الألم بالفرح، والغضب بالحلم، والحرية بالمسؤولية، والاندفاع بالتردّد، والحبّ بالكره، والحياة بالموت، والعدم بالوجود، والحقيقة بالوهم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية