باريس في عيون المثقفين المصريين الأوائل

باريس في عيون المثقفين المصريين الأوائل


11/10/2021

في كتابه الصادر  العام 1933، بعنوان "باريس"؛ صوّر لنا الكاتب المصري، أحمد الصاوي محمد، صورة باريس في مخيال المثقفين والكتّاب المصريين والأجانب، ويحقّ لنا تناول شهادات بعضهم حول مدينة النور، وكيف صوّروها وجسّدوها في كلمات تعبر عن مركزية هذه المدينة في مخيالهم، ومركزية الثقافة الفرنسية لدى جلّ المثقفين المصريين.
تقليد محمد علي باشا
وفي البدء، نقول إنّ محمد علي أرسى، منذ مطلع العصر الحديث، تقليداً راسخاً؛ هو ضرورة الاتجاه نحو باريس دون غيرها، فكانت باريس قبلة المثقفين المصريين الذين خدموا بلدهم بما تعلموا فيها أثناء هجرتهم إليها؛ ففي خطاب محمد علي باشا إلى طلاب البعثة الأولى التي توجهت إلى باريس العام 1826 يقول: "ألاحظ عدم غيرتكم في تحصيل العلوم، وهذا الأمر قد غمّنا كثيراً، وعليكم أن تغيّروا هذه البطالة بشدّة الشغل والاجتهاد والغيرة، وأن تقبلوا على تحصيل العلوم والفنون، وإن أردتم أن تكسبوا رضاءنا فعليكم أن تجتهدوا في تحصيل العلوم والفنون، وأن لا تفوتوا دقيقة من غير تحصيل، وأن توافونا بما أنجزتموه كلّ شهر". 

في كتابه "باريس" الصادر العام 1933 يعرض أحمد الصاوي محمد صورة باريس في مخيال المثقفين المصريين والأجانب

ومنذ هذا التقليد، كانت باريس هي وجهة النخبة التي صنعت تاريخ مصر الحديث؛ حيث تعلّم وتخرّج في باريس العديد من رجال الدولة، والعلم والفنّ والأدب؛ ففيها تعلم الخديوي إسماعيل، والسلطان حسين كامل، وكثير من أمراء الأسرة المالكة، ومن الوزراء: كان علي باشا مبارك، ونوبار باشا، وفخري باشا، وحسين رشدي، وحسين سري باشا، وواصف غالي باشا.
ومن العلماء: كان رفاعة الطهطاوي، وعثمان ألب باشا، ومن الفلكيين: مختار باشا الفلكي، ومن الأطباء: الدكتور البقلي، أول من أجرى عملية على الكلى، ومحجوب باشا، ومن رجال القانون: فتحي باشا زغلول، وويصا واصف، وقاسم أمين، والشاعر أحمد شوقي، وطه حسين، وزكي مبارك، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وزكي طليمات، وجورج أبيض، ومن الفنانين: الأمير يوسف كمال، والنحّات محمود مختار ، وقائمة طويلة لا حصر لها، تكشف أنّ النخبة المصرية التي صنعت تاريخ مصر الحديث قد تخرجت في باريس، والسؤال الذى يتبادر للذهن: ماذا كانت تمثل في مخيال النخب المصرية؟ وكيف كان هؤلاء ينظرون إليها؟
ماذا قالوا عنها؟ 
يقول طه حسين عنها: "ليست باريس دور اللهو والمجون، ولا دور العمل المنتج والعناء الخصب، ليست باريس شيئاً من هذا، ولا كلّ هذا، وإنما باريس شيء فوق كل هذا، شيء أنتج كلّ هذا، وأنتج من قبل كلّ هذا شيئاً يخالفه، وسينتج من بعد كلّ هذا شيء يخالفه، إنّما باريس هذا الهواء الذي يتنفسه الناس في هذه البقعة من الأرض، فيبعث فيهم حياة مؤتلفة مختلفة، متفقة مفترقة، متقاربة متباينة في وقت واحد".

محمد علي أرسى منذ مطلع العصر الحديث تقليداً راسخاً بضرورة الاتجاه نحو باريس دون غيرها

وأشاد طلعت حرب، الاقتصادي المصري، بباريس، فيرى أنّها "مدينة اللهو ومدينة الجدّ والعلم؛ ففي باريس أشهر المسارح والملاهي، ومدينة العلم والعمل"، متابعاً: "ويخطئ من يتصوّر من الأجانب أنّ باريس بلد اللهو والخلاعة، فتنصرف عن مشاهدة مظاهر الجدّ من حياتهم، وعلى الطلبة المصريين أن يقتفوا آثار سلفهم من متخرجي جامعة باريس، وجدير بهم أن يستقوا العلم من مناهله الحقة، على يد أكبر أساتذة العالم، وأن يعودوا إلى بلادهم علماء حقاً، قادرين على خدمتها، والأخذ بيديها إلى طريق الفلاح والنجاح".
ويقول عنها منصور فهمي: "إنّ نفسية باريس هي النفس البشرية في جميع جهاتها من ميول رفيعة وميول وضيعة، إن جوّ باريس منه ما ينعش برّ البار، وفيه ما يقوي فجر الفاجر، فيه المعنى التام للحياة من ظلماء وضياء، من شرّ وخير، من جحيم ونعيم".

اقرأ أيضاً: غييوم أبولينير حنجرة باريس الصارخة
وتكلم زكي مبارك عن تعلمه في باريس فقال: "وحي الشباب في باريس أجمل وأشرف وأبلغ ما تنطق به هذه الكلمة، ليس في الدنيا كلّها بقعة تتفتح فيها أزاهير الشباب، وتندى أوراقه، وتتمايل أغصانه، ويتأرجح عبيره، كما يرى رواد حيّ الشباب".

مصطفى عبدالرازق: باريس لا وحشة فيها لأنّ المعاني والذكريات والآمال والماضي والحاضر كلها في باريس كائنات متحركة

ويقول إدجار جلاد عنها: "في مدينة باريس وحدها يتحرر الفكر الإنساني، ويتجرد عن الأشكال والصبغات التي تفرغها عليه الخصومات القومية، والعداوات الدينية، ونزعات الأثرة الشديدة، وهنا يشعر المرء أنه تسامى عن مستوى الخلافات، فلا شيء غير أفراد من البشر قد خلقوا من طينة واحدة، ولهم عقل واحد، تجمعهم غاية واحدة قد ملكت عليهم مشاعرهم وقامت عندهم مقام العبادة، هي الولع بالعلم والفنّ والآداب وخير الإنسانية، لقد بلغ التسامح والحرية في باريس أقصى حدودهما، فترى الصيني والمراكشي والأمريكي والزنجي يتزيا كلّ منهم بزيه الخاص، لكن لا أحد يدور بخلده أن يسأل ما دين هذا الرجل؟ أو ما اسم وطنه؟ أو من أية طبقة من الطبقات الاجتماعية يكون؟ ذلك أنّه ليس ثمة غير عالم واحد؛ هو عالم الفكر المجرد من القيود، فيه يلتقي الناس جميعاً، أصدقاء متآخين".

اقرأ أيضاً: هل تنجح باريس في تجفيف منابع تمويل الإرهاب الدولي؟
وخرجت كلمات الغزل من الشيخ مصطفي عبد الرازق تجاه باريس، إذ يقول: "قد تجد للوحدة استيحاشاً حتى في مسقط رأسك وبين قومك، أما باريس فلا وحشة فيها؛ لأنّ المعاني والذكريات والآمال والماضي والحاضر كلها في باريس كائنات متحركة تنهض في باريس، فباريس موجود حيّ، تنبعث الحياة من أرضه وسمائه، ورجاله ونسائه، باريس جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فيها للأرواح غذاء، وللأبدان غذاء، وفيها لكلّ داء في الحياة دواء، فيها كلّ ما ينزع إليه بني آدم من جدّ ولهو، ونشوة وصحو، ولذّة وطرب، وعلم وأدب، وحرية لا تقيدها قيود، وكلّ في دائرة النظام لا تحدّها حدود، باريس عاصمة الدنيا، ولو أنّ للآخرة عاصمة لكانت باريس، وهل غير باريس للحور والولدان، والجنات والنيران، والصراط والميزان، والفجار والصالحين، والملائكة والشياطين؟".
ويقول الأستاذ محمد لطفي جمعة: "باريس مدينة جميلة وذكية، وعالمة، وعفيفة وفاجرة، وصريحة وماكرة ولعوب، وذات جد ووقار، ومباحة وذات أسرار؛ بل هي سجل للحياة وقاموس للوجود، ومعرض لكلّ أنيق ودقيق، وجليل ودميم وحقير، ومثلها لدى عالم النفس والاجتماع كمثل طبقات الأرض التي تكونت في مدى ملايين الأعوام".
تلك هي شهادات مختصرة حول ما مثّلته باريس في أذهان المثقفين المصريين في عصر التنوير العربي، وهي غيض من فيض، عرض له الأستاذ، أحمد الصاوي محمد، في كتابه عنها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية