
منير أديب
من يظن أن تنظيم "داعش" قد انتهى فهو واهن، وقد يعطي فرصة جديدة لعودة دولة التنظيم التي سقطت قبل ثلاث سنوات. صحيح أنه لم يعد هناك وجود لدولة التنظيم هذه، وهو لا يعني بطبيعة الحال غياب التنظيم نفسه، فهناك فرق شاسع بين دولة التنظيم والتنظيم ذاته، وبالتالي من يُسوّق لغيابه يُعطي فرصة لعودة مملكة التنظيم الزائلة، فما زالت تحذيراتنا وقراءاتنا لوضع التنظيم ودولته التي يسعى لإقامتها محل الرصد وفق المعطيات المتاحة وفهم التنظيم الذي أمضينا في قراءة كل ما صدر عنه وله حتى بات يتابع بعض ما نكتبه ليفهم أو يتوقع رد الفعل عليه، الذي غالباً لا يخرج عن سياقات التحليل والتحذير التي أطرحها مع كوكبة من المتخصصين، وحتى يستطيع أن يفهم نفسه بنفسه، وهو ما سوف نفصل القول فيه لاحقاً.
التنظيم يُتابع كثيراً مما يُكتب عنه حتى يفهم نفسه وقد يتوقع ردود الأفعال في مواجهته؛ فالتسجيلات المرئية التي خرجت منه فضلًا عن بياناته وردود أفعاله تكشف جزءاً مما طرحناه، وسوف نوضحه في قراءة مقبلة لعقل التنظيم الأمني والعسكري. ما نود الإشارة إليه هنا أن التقليل من خطر التنظيم قد يُعيد دولته من جديد، فليس من المصلحة التقليل أو التضخيم من خطر "داعش"، ولكن قراءته على واقعه وتلمس مواطن الخطر ومن ثم الإشارة إليها، فذلك مفيد للقضاء عليه.
كتابات كثيرة أشارت إلى انهيار دولة التنظيم على خلفية مقتل زعيمة عبد الله قرداش، والمكنى بـ"أبو إبراهيم الهاشمي القرشي"، هذه الكتابات انحازت لهوى كتّابها فأخذت القارئ معها في سياق غير واقعي. هذا النوع من الكتابات خطره لا يقل عن خطر التنظيم، فهي تسمح له بالتمدد من طريق التقليل من خطره وإدعاء عدم وجوده وربما اختفاؤه... هذا هو عين الخطر الحقيقي، وهنا تبدو أهمية الباحث والمتخصص في قراءة ما لا يستطيع غيره أن يقرأه وبالتالي التحذير منه.
مات أول خليفة للتنظيم في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2019، وقتها أشار بعض التحليلات إلى غياب التنظيم نهائياً، حتى أن بعض مراكز الدراسات التي دشنت لفهم ومعرفة التنظيم وتوفير بعض التحليلات التي تساعد رجال الأمن في القرار قد أغلقت، وربما ساعد في ذلك سقوط دولة التنظيم قبلها في آذار (مارس) من العام 2019، وما هي إلا أيام قليلة حتى اختار التنظيم زعيماً جديداً لم تنجح القوات الأميركية في قتلة إلا بعد ثلاث سنوات رغم وجوده في منطقة مكشوفة عسكرياً في شمال غرب سوريا وتسيطر عليها "هيئة تحرير الشام"، وهذا يعني خذلان عسكري وضعف في أجهزة الإستخبارات الأميركية أو دعونا نقول إنه قد يكون تفوق "مرحلي" يتمتع به التنظيم حتى بعد سقوط دولته!
قُتل خليفة الخليفة المقتول في غارة أميركية، فخرجت بعض الكتابات لتعلن وفاة التنظيم مع وفاة زعيمة، عبد الله قرداش، حتى تقع في الأخطاء القديمة نفسها؛ مع العلم أن العملية الأميركية التي استهدفت الهاشمي سبقتها عمليات نوعية للتنظيم في شمال شرق سوريا، والتي نجح التنظيم من خلالها في اقتحام سجن الصناعة بحي غويران في الحسكة السورية والسيطرة عليه قرابة عشرة أيام كاملة، فضلاً عن اقتحام منطقة عسكرية محصنة في منطقة ديالى العراقية وذبح أحد عشر ضابطاً عراقياً، بما يعني أن التنظيم ما زال قوياً، وهو ما يجب أن تُحذر منه مراكز الدراسات والأبحاث وما يجب أن يكتب فيه المختصون الذين يمتلكون أدواتهم في قراءة التنظيمات المتطرفة عابرة الحدود والقارات.
ومن واقع ما رصدناه سالفاً فإننا نتوقع خطر التنظيم القادم من ليبيا نظراً لغياب الأمن بمستوى يسمح بعودة التنظيم من جديد، فضلًا عن الفوضى السياسية التي ما زالت تعيشها الدولة الأفريقية والتي لم تنجح حتى الآن في عبور المرحلة الإنتقالية، ويُضاف مع هذا حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، وبالتالي بات الجيش الوطني الليبي مغلول اليدين في مواجهة تحركات التنظيم على الأراضي الليبية، وتساوت المكونات الليبية مع التنظيم الأكثر تطرفاً في فكرة وصول السلاح إليها أو وصولها إلى السلاح، وهو زاد التنظيم قوة وحضوراً في الداخل الليبي. صحيح أنه تراجع أمام ضربات الجيش الوطني الليبي، لكنه تراجع تكتيكي لا يعني الهزيمة.
باتت ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي الأكثر أماناً لعناصر التنظيم، فليبيا هي مدخله إلى القارة السمراء التي تعاني من ضعف مؤسسات الدولة وتشاركها ليبيا في ذلك، ولعل المشهد في ليبيا يؤشر إلى غياب هذه المؤسسات، وهو غياب يصب في صالح التنظيم الذي يحاول أن يُزيل أثار الهزيمة العسكرية والنفسية عنه، في محاولة للصعود والنهوض ولكن من خلال ليبيا بعد أن سقطت دولته في منطقة الشرق الأوسط.
تحركات "داعش" في ليبيا جعلته يصل إلى نيجيريا، بل ويمتد إلى الكثير من دول الساحل والصحراء، هناك بات التنظيم يتمتع بحرية أكبر وبات نفوذه أقوى مما كان في السابق وهو ما يُنذر بالخطر الشديد، وهنا يتعامل بطريقة أشبه بتوسيع نفوذه. قد يكون مركز ثقله في أفريقيا وهناك يُعلن قيام الإمارة الجديدة مع الإحتفاظ بوجود آخر في منطقة الشرق الأوسط من خلال خلاياه النشطة والخاملة، فخريطة "داعش" ما زال التنظيم يضع حدودها وفق قوته الأمنية والعسكرية التي يتحرك بها.
خليفة "داعش" القادم غالباً سوف يكون عراقياً لأسباب ترتبط بأن العراقيين هم من يسيطرون على التنظيم وهناك سبب آخر قد يكون أهم وهو شرعي وفق المحددات الفقهية للتنظيم، وهو أحد شروط الخلافة التي لا بد أن تتوافر في الخليفة بحيث يكون قرشياً أي من قريش، وهو ما يراه التنظيم في قياداته العراقية والتركمانية، وسوف يختار على أساسه الخليفة القادم، ولك أن تتخيل خليفة من العراق بدولة التنظيم في ليبيا، وإشارة الى أنه يسعى لإقامة دولته فيها، فلذلك مغزى مرتبط بالصراع السياسي والذي قد يمتد لفترة ليست بالقصيرة، وإذا بات هناك مستجد أو طارئ سوف ينتقل حلم التنظيم إلى دولة أفريقية أخرى لا تتقارب أوضاعها السياسية مع ليبيا وهي كثيرة.
الصحراء الليبية هي الملاذ الآمن للتنظيم، يتحرك فيه بأريحية شديدة، ولعله يُعيد ترتيب صفوفه وتقوية وجوده العسكري، ولا توجد دولة في ليبيا يمكنها أن تفرغ قوتها وطاقتها لمواجهة التنظيم ولا تحركاته في صحراء ليبيا الشاسعة وهو ما يزيد من احتمالات قيام دولة "داعش" أو الإعلان عنها في ليبيا، ما يتطلب من الفرقاء أن يجتمعوا على كلمة وأن يتحدوا على هدف وأن يتحركوا في اتجاهه، فلا وقت للمراوغة ولا مكان للصراع ولتكن العبرة في العراق الذي شهد وما زال صراعات بين المكونين السني والشيعي وهو ما أنتج أو سمح بقيام "داعش" أو على التنظيم المتطرف استغلالة لقيام دولته.
ليبيا باتت وجهة "داعش" الجديدة وملاذه الآمن مع الخليفة القادم، وبات على الليبيين أن يدركوا هذا الخطر القادم إليهم من المجهول. ليبيا مهيئة بضعفها وانكسارها وهزيمتها في الداخل لتمدد "داعش"... لا نتمنى ذلك للدولة الكبيرة جغرافياً، والكبيرة بمقدراتها وبرجالها أيضاً، ولكن التحذير من الآتي وصعوبة المستقبل تحتم علينا قول الحقيقة من دون مواربة أو خجل حتى يمكن تغيير واقعها، فلم يعد في الوقت متسع.
استراتيجية الخليفة القادم لـ"داعش" سوف تتجه نحو أفريقيا، وسوف يبحث الزعيم الجديد عن مواطن قوة التنظيم معظماً إياها، كما سوف يبحث عن ملاذات التنظيم الآمنه وسط الخوف والرعب إلى حيث يستطيع أن يقيم دولته، بحسب إدراكه، ومن العظمة أن نقرأ ذلك وأن نقف أمام تمدده قبل أن ينجح في الإعلان عنه، ثم نعاود كرة إنشاء تحالف ونستمر في مواجهة قد لا تنتهي قبل خمس سنوات، وقد تنتهي على ما لا يمكن أن يرضى به العالم... استراتيجية التنظيم تبدو أكثر وضوحاً قبل اختيار خليفة "داعش" وبعد اختياره أيضاً.
عن "النهار" العربي