خريطة إنتاج واستيراد القمح في العالم... لماذا معظم الدول تأكل مما لا تزرع؟

خريطة إنتاج واستيراد القمح في العالم... لماذا معظم الدول تأكل مما لا تزرع؟


03/04/2022

كشفت الحرب الروسية- الأوكرانية الأخيرة عن حجم التهديد الذي تمثله طبيعة توزّع إنتاج محاصيل القمح بالنسبة إلى الاستقرار الغذائي والأمن الغذائي العالمي؛ إذ تستأثر الدولتان وحدهما بنحو (30%) من إجمالي صادرات القمح في العالم. ودفع الشعور بهشاشة سلسلة التوريد العالمية لهذه السلعة الاستراتيجية إلى التساؤل عن أسباب وجود هذا التركّز في الصادرات للقمح وعدم توزّع معدلات الإنتاج بشكل أكثر انتشاراً.

الولايات المتحدة الأمريكية: صادرات القمح كأداة دبلوماسية

بدأت زراعة القمح على نطاق واسع في الولايات المتحدة الأمريكية في المناطق الشمالية من الساحل الشرقي، وذلك حوالي منتصف القرن الـ19، ومن ثم بدأت بالاتساع نحو الجنوب والغرب، وخاصة في فترة ما بعد الحرب الأهلية الأمريكية، وذلك بالتزامن مع تطوّر وسائل النقل اللازمة لشحن المحاصيل إلى الموانئ في الشرق، وبالتحديد مع بناء شبكات سكك الحديد.

اقرأ أيضاً: لا حياة لمن لا ينتج قمحاً

وسرعان ما تطوّرت عمليات الإنتاج والحصاد مع إدخال وسائل الزراعة الحديثة، وخاصة مع استخدام الجرارات وآلات الحصاد والطحن الآلية التي وفّرت الوقت وضاعفت من مساحات الحقول وكميات الإنتاج. وزاد حجم الإنتاج من حوالي (6.8) ملايين طن خلال الفترة من 1869-1871 إلى أكثر من (20.4) مليون طن خلال الفترة من 1919-1921، مع تسجيل إنتاج للقمح بأكثر من الاستهلاك المحلي، حيث كان الإنتاج يصل إلى (2.5) ضعف الاستهلاك.

حصاد القمح باستخدام الآليات الحديثة.. في حقول شمال غرب الولايات المتحدة

وقد تأثر الإنتاج في بعض المواسم بالأوبئة والآفات، ففي عام 1950 تسبب مرض "صدأ ساق القمح" بتقليل حجم المحصول بمقدار (10%)، وهو ما أمكن التغلب عليه مع تطور تقنيات المكافحة واتباع الإرشادات الموصى بها.

ومع تقدم النقل البحري عبر المحيط الأطلسي زادت إمكانيات ربط مناطق الإنتاج في الولايات المتحدة بأسواق الاستهلاك الكبيرة في آسيا وأوروبا وأفريقيا، وهو ما شجّع على زيادة مساحة حقول القمح وزيادة حجم صادرات القمح الأمريكية إلى الخارج.

تُشكّل صادرات القمح الأمريكية جزءاً من السياسات الدبلوماسية والاقتصادية للدولة

ومع مطلع القرن الحالي في عام 2002 تمّ تصدير (50%) من محصول القمح الأمريكي، بينما ذهب النصف الثاني لتلبية احتياجات الاستهلاك المحليّ. في حين بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح ما يعادل (252-265) مليون دونم. وفي عام 2013 بدأت شركات صناعة الغذاء الأمريكية باستخدام القمح المعدّل وراثياً، وقد تم تعديل الحبوب بوساطة شركة "مونسانتو"، لتصبح مقاومة لتأثيرات المبيدات.

اقرأ أيضاً: سوريا تتهم تركيا وميليشياتها بنهب محصول القمح في الرقة... تفاصيل

وباتت صادرات القمح الأمريكية تُشكّل جزءاً من السياسات الدبلوماسية والاقتصادية للدولة، فتارةً تستغلها للمقايضة بسلع استراتيجية وخاصّة موارد الطاقة، وقد تستخدمها في إطار التهديد بفرض عقوبات، وتارةً أخرى تُقدّمها على شكل مساعدات بغرض استمالة الدول وخاصة النامية؛ فمثلاً تم توجيه نحو نصف الكميات المُخَصّصة للمساعدات للهند، وهو ما استتبع نقداً لهذه السياسة انطلاقاً من اعتبار أنّها تثني البلدان النامية عن تطوير الزراعة والإنتاج الخاصة بها، وتتسبب في إفلاس أعداد كبيرة من المزارعين المحليين.

روسيا: من الاستيراد... إلى المرتبة الأولى بين المصدّرين

حتى نهاية القرن الـ20 كانت روسيا تعتمد على الاستيراد في تأمين احتياجاتها من القمح، وفي بداية القرن الـ21، ومع اكتمال عملية خصخصة مساحات كبيرة من الأراضي، وضخّ استثمارات كبيرة في البنية التحتية للموانئ، وظهور الحيازات الزراعية الشاسعة، ساعد كُلّ ذلك روسيا على أن تصبح مُنتجاً رئيسياً للحبوب عامّة والقمح خاصّة.

اقرأ أيضاً: بعد حظر قمح أوكرانيا.. دولتان عربيتان تترقبان كارثة

ومع تطوير الموانئ زادت القدرة والطاقة بخصوص التخزين والشحن، وبالتالي التصدير. وفي عام 2001 صدّرت روسيا نحو (696) ألف طن من القمح. وبعد فرض العقوبات على روسيا عام 2014 - إثر قيامها بضمّ شبه جزيرة القرم - من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، قامت روسيا بفرض عقوبات مضادة، منعت بموجبها استيراد المنتجات الغذائية من أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما دعم المنتجين المحليين، ومنهم منتجو الحبوب.

باللون الأخضر... مناطق تركّز إنتاج محاصيل القمح في روسيا معظمها في المناطق الجنوبية

وبعد ذلك بفترة وجيزة، أصبحت روسيا البلد الأكبر من حيث المساحات المزروعة بمحاصيل القمح، وفي عام 2017 أصبحت المصدّر الأول للقمح في العالم، متجاوزةً الولايات المتحدة وكندا لأول مرة. وحينها أعلن الرئيس بوتين في مؤتمر صحفي: "نحن رقم واحد، لقد هزمنا الولايات المتحدة وكندا". وفي عام 2018 وصل إجمالي الصادرات إلى (18.5) مليون طن، وذلك بعد أن حققت روسيا دخولاً واسعاً لأسواق آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.

اقرأ أيضاً: من أكبر الدول المصدرة للقمح.. أزمة روسيا وأوكرانيا تهدد إمدادات الغذاء عالمياً

وجاء هذا التحوّل الروسي نحو مضاعفة كميات القمح المنتجة بدوافع عدّة؛ أهمها الخشية من تراجع عائدات صادرات الطاقة، وخاصّة مع انخفاض أسعار النفط في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، وتزايد التوجه نحو مصادر الطاقة الخضراء، وبالتالي كان التوجه الروسي نحو إيجاد بدائل أخرى تكون بمثابة صادرات استراتيجية تدعم اقتصاد البلاد.

في عام 2017 أصبحت روسيا المصدّر الأول للقمح في العالم، متجاوزةً الولايات المتحدة وكندا لأول مرّة

ومع هذا التطوّر، أصبحت الصادرات الروسية تمثّل أداة دبلوماسية- اقتصادية في علاقات روسيا مع الدول الأخرى. ففي عام 2015 حظرت روسيا نسبة من الصادرات إلى تركيا في إطار حزمة إجراءات عقب إسقاط القوات التركية طائرة مقاتلة روسية، واستؤنفت الصادرات بعد عامين، وأصبحت تركيا أكبر مستورد للقمح الروسي في عام 2019، وذلك بعد أن وافقت على نقل الغاز الروسي إلى أوروبا.

واليوم تحتلّ روسيا الصدارة في قائمة الدول المصدّرة للنفط، بحجم صادرات سنوية يقترب من (38) مليون طن، وفقاً لإحصاءات العام 2020، وبفارق كبير عن الولايات المتحدة التي تصّدر نحو (26) مليون طن.

آسيا: أكبر المستهلكين وأكبر المنتجين

تُعتبر الصين أكبر منتج للقمح في العالم، بإجمالي يصل إلى (134) مليون طن في العام، إلّا أنّ كُلّ هذا الإنتاج يذهب إلى الاستهلاك المحلي، ولا تُصدّر الصين منه أيّ كميات. ويُعتبر القمح ثاني أكثر محصول حبوب انتشاراً في الصين، بعد الأرز، ويُزرع في معظم أنحاء البلاد، ولكن بشكل خاصّ في سهل شمال الصين، ووديان نهر "وي"، وفي مقاطعات "جيانغسو"، و"هوبي"، و"سيشوان". وبالرغم من ذلك، فإنّ الصين تُعتبر دولة مستوردة للقمح، بإجمالي يصل إلى (8.2) ملايين طن، وهو رقم يكون عرضة للزيادة في حالات مواسم الجفاف. وتُعتبر الصين رابع أكبر مستورد للقمح في العالم (بعد أندونيسيا، وتركيا، ومصر) بإجمالي واردات يصل إلى (8.2) ملايين طن سنوياً، وتستورد الصين القمح من دول عدّة أهمّها روسيا وكازاخستان.

من عمليات الحصاد في حقول القمح بشمال كازاخستان والتي تحتلّ المرتبة التاسعة بين أكبر مصدري القمح

أمّا الهند، فتنتج نحو (108) ملايين طن، ما يجعلها ثاني أكبر منتج للقمح في العالم (وفقاً لإحصاءات العام 2020). وغالبية الإنتاج تذهب إلى الاستهلاك المحلي، وهو ما يجعلها تغيب عن قائمة أكبر المصدّرين في العالم.

وعند استقلال الهند عام 1947، كان إنتاج القمح بحدود الـ (6.46) ملايين طن فقط، وهي كميات لم تكن كافية لإطعام الهنود، فكانت الهند حينها دولة مستوردة للقمح. وكانت تستورد بالدرجة الأولى من  الولايات المتحدة الأمريكية، ومعظم الواردات كانت على شكل مساعدات. ولكن مع تكرار حدوث موجات الجفاف والمجاعات خلال أعوام الخمسينات والستينات، اتجهت الهند إلى وضع خطط لزيادة إنتاجية المحاصيل، بحيث يتم تطويره ليكون ملائماً للظروف البيئية السائدة في الهند.

 خلال فترة "الثورة الخضراء"، أواخر الستينات، أصبحت الهند معتمدة على نفسها في توفير القمح

وقد عرفت فترة أواخر الستينات من القرن الماضي بالهند بـ "الثورة الخضراء"، وخلال هذه الفترة تم تطوير أنماط قمح مقاومة للأوبئة، بما فيها "صدأ ساق القمح"، وأصبحت الهند معتمدة على نفسها في توفير القمح. وفي القرن الحالي، استمر نمو إنتاج القمح في الهند، فزاد إنتاج القمح بشكل كبير من (75.81) مليون طن في موسم 2006-2007 إلى (94.88) مليون طن في موسم 2011-2012. واليوم تُعتبر الهند مصدّراً مهمّاً لبعض الدول العربية، مثل؛ مصر والإمارات العربية المتحدة.

اقرأ أيضاً: منظمة "تيكا".. حين تحمّل تركيا مشروعها بأكياس القمح والأرز

أمّا باكستان، فتُعتبر سابع أكبر منتج للقمح في العالم، بإجمالي إنتاج وصل في العام 2020 إلى (26) مليون طن. وكانت باكستان قد نجحت خلال عقد التسعينات من القرن الماضي في تحقيق الاكتفاء الذاتي بإنتاج القمح، مع التمّكن من تصدير كميات بين فترة وأخرى. وهو ما مثّل إنجازاً مهمّاً في حينه؛ إذ إنّه حدث في ظل تزايد سكاني بمعدل (3) ملايين نسمة سنوياً، واعتماد معظم المزارعين على أساليب الزراعة التقليدية.

اقرأ أيضاً: بعد مخاوف من تأثير الحرب الروسية الأوكرانية... هذا ما قالته مصر عن وارداتها من القمح

إلّا أنّ باكستان لم تستطع المحافظة على الاكتفاء الذاتي، وتحوّلت من جديد نحو الاستيراد، وإن بنسبة طفيفة من إجمالي احتياجاتها. وفي عام 2020، حصدت باكستان (25.7) مليون طن من القمح، وهو ما يتناسب تقريباً مع استهلاكها السنوي. وبذلك فإنّ باكستان باتت تقترب من تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي من جديد، وهو ما نصّت عليه رؤية "باكستان 2025".

شحن القمح في الموانئ الأرجنتينية من أجل تصديرها... وتُعتبر البرازيل المستورد الأوّل للقمح الأرجنتيني

وتحتلّ كازاخستان المرتبة التاسعة بين أكبر مصدري القمح، بإجمالي إنتاج يصل إلى (14) مليون طن، وحجم صادرات يَصِلْ إلى (5.1) ملايين طن. وينظر منتجو القمح في كازاخستان إلى الصين كسوق استراتيجية بالنسبة إليهم؛ إذ تُعتبر المستورد الأهم للقمح الكازاخي. ووفقاً لتقارير البنك الدولي، فإنّ القمح أكبر سلعة تنتجها كازاخستان من حيث القيمة، من غير صادرات الطاقة. وتوصي التقارير بمساعدة كازاخستان على زيادة إنتاجها من القمح لتحقيق طموحاتها في تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط والغاز.

أمريكا الجنوبية: دولة بين قائمة أكبر المصدرين

في أمريكا الجنوبية، تُعتبر الأرجنتين الدولة الأبرز في إنتاج وتصدير القمح؛ إذ تُصدّر الأرجنتين نحو (10.2) ملايين طن، وتحتلّ بذلك المرتبة السابعة بين أكبر الدول المصدّرة للقمح في العالم، وفقاً لإحصاءات منظمة "الفاو" للعام 2020.

وتبرز الأرجنتين كلاعب رئيسي في سوق القمح في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة مع ضيق الكميات المعروضة للتصدير من كندا والولايات المتحدة، وهو ما تسبب في ارتفاع الطلب على القمح الأرجنتيني خلال الأعوام الأخيرة.

اقرأ أيضاً: توقف القمح الأوكراني يضع العالم العربي على طريق ثورات الخبز

وتُعتبر دولة الجوار، وخاصّة البرازيل، من أهمّ الدول المستوردة للقمح الأرجنتيني. وتعتمد البرازيل بشكل رئيسي في كفايتها من القمح على الأرجنتين، إذ تصدر الأرجنتين نحو (45%) من إنتاجها إلى البرازيل، والبرازيل هي سادس أكبر مستورد للقمح في العالم، بإجمالي كميات تصل إلى (6.16) ملايين طن سنويّاً.

وفقاً للإحصائيات، فإنّ (5) منتجين فقط ينتجون أكثر من نصف القمح العالمي، وهم: الصين، والهند، وروسيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. ومع إضافة منتجين آخرين، كأستراليا وكندا، وأوكرانيا، فإنّ النسبة تصل إلى أكثر من (80%). وهو ما يعني أنّ واقع إنتاج وتصدير هذه السلعة الاستراتيجية يتسّم بطابع احتكاري إلى حدّ بعيد. ويعود ذلك لأسباب عديدة؛ أهمها امتلاك الدول المنتجة المساحات الممتدة من السهول الخصبة الصالحة لزراعة القمح، والمناخ الملائم، إضافة إلى توفّر سياسات الدعم للمنتجين، مع توفر مساحات شاسعة وكثافة سكانية في بعض الحالات، كما في كندا وأستراليا وكازاخستان، وفي حالات أخرى توفر أسواق استهلاك محليّة كبيرة تزيد من جدوى عملية الإنتاج، كما في الصين والهند وباكستان، في حين ترتفع كلفة الإنتاج وتقلّ الجدوى وتغيب سياسات الدعم في الدول المستوردة، بحيث تكون النتيجة هي أنّ معظم الدول في عالم اليوم تعتمد على استيراد هذه السلعة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية