حين يقول الكفرُ للفقر: خذني معك

حين يقول الكفرُ للفقر: خذني معك

حين يقول الكفرُ للفقر: خذني معك


03/04/2024

بينما يتقلّب زهاء ثلث سكان المنطقة العربيّة على جمر الفقر، تنشغل دوائر الإفتاء في تقليب دفاتر الماضي بحثاً عن إجابة سائلٍ حول "شرعيّة" مشاهدة الأفلام والمسلسلات التلفزيونيّة خلال شهر رمضان.

الفقه الإسلاميّ يختزن في مستودعاته فتاوى لكل واقعة حدثت أو ستحدث، اعتماداً على مبدأيْ الاجتهاد والقياس. ومن ضمن تلك الفتاوى ما اصطلح على تصنيفه في إطار فقه المقاصد الكليّة، الذي يعتبر أنّ "مقاصد الشريعة" تتوجّه إلى الكليّات الخمس المعروفة: الدِين، والنَفس، والعقل، والنسل، والمال، فيما يذهب فقهاء إلى ترسيم ما يسمّونه "المفاهيم التأسيسيّة" التي تستهدف تحقيق العدل والمساواة، وتحقيق الكفاية والأمن العام، وتفعيل القيم الاجتماعيّة، مثل الإخاء والتكافل والحريّة والكرامة.

ولعلّ في قوّة الأديان وحضورها الروحيّ الراسخ، وسلطتها الجازمة، وسطوتها الحاضّة على الامتثال، ما يوفّر أرضيّة تبني عليها الأديان معمار التكافل الإنسانيّ، بما يحفظ الدين، والنَفس، والمال، ويحفّز العقل على العطاء الإيجابيّ، ويصون النسل من الوقوع في مهاوي الحاجة والعوَز، وبالتالي التفكّك.

وإذ تُشهر الأرقام عصيانها، وترتفع معدّلات البطالة، وتزداد رقعة الفقر، فإنّ ذلك يستدعي، عنوةً، السؤال الذي يحيّر الإنسان المعاصر: هل تكون الأديان رافعة للخير؟

الأديان، عموماً، تقوم على القيم النبيلة التي ترفع من شأن التضحية والإيثار والتعاون والتعاضد والتكافل واقتسام كِسرة الخبز بين البشر 

النتائج التي أفضى بها، مؤخراً، "مؤشر هانكي للبؤس العالميّ" كشف أنّ دولاً عربية وإسلامية تحتل ما يقارب نصف الدول العشرين المصنّفة في إطار "الدول الأكثر بؤساً لعام 2023". ووضع المؤشر، الذي يصدره سنوياً أستاذ الاقتصاد التطبيقيّ في جامعة جونز هوبكنز الأمريكيّة، ستيف هانكي، قائمة بـ157 دولة حول العالم هي الأكثر بؤساً؛ استناداً على معدلات البطالة، والتضخّم، ومعدّل الإقراض، والتغيّر في نصيب الفرد من الناتج المحليّ الإجماليّ.

وتأتي هذه النتائج منسجمة مع مسح أجرته اللجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربي آسيا (الإسكوا)، أفاد بارتفاع مستويات الفقر في عام 2022 مقارنة بالسنوات الماضية ليصل عدد الفقراء إلى ما يقرب من 130 مليون شخص، أي ما يمثّل ثلث سكّان المنطقة، علماً بأنّ هذه المستويات يتوقّع أن تستمرّ في الارتفاع في عام 2024.

الأرقام لا تُسعف المتفائلين، فالأوضاع المعيشيّة للعرب (باستثناء الدول الخليجيّة) في تقهقر. أضف إلى ذلك بعض الدول الإسلاميّة الكبرى (إيران، تركيا، باكستان) التي تعاني البؤس أيضاً، وفق هانكي، رغم الجهود الحكوميّة (المعلَنة) عن خطط إنقاذيّة تنتشل الناس من قيعان الحاجة والفقر والمرض والجهل.

ويروي التاريخ أنّ محطات كثيرة رافقت آلام البشر ومكابداتهم، ووجدت في الجانب الخيريّ للأديان مُعيناً، على قاعدة إن لم تشأ أن تساعد أخاك لأنه أخوك، فساعده من أجل الثواب الإلهيّ، والوعد السرمديّ بالخلود الفردوسيّ.

بيْد أنّ هذه السطوة التي كانت الأديان تلوّح بصولجانها، قد تآكلت بفعل ضغط الحياة المعاصرة وكثرة تكاليفها، فضلاً عن غلبة النزعة الفرديّة التي تحضّ على الفرار بالجِلد، وتقديم المصالح الشخصيّة الأنانيّة على ما دونها، ما خلق الجُزر الذاتيّة المعزولة، ورفع طاقة التبرير لدى الكائن، الذي صار يحصّن نفسه بعبارات ومأثورات وأقوال يصبّ مجملها في خانة توفير القرش الأبيض لليوم الأسود، وأنه لا ينفع الإنسان في كهولته إلا ما ادّخره في سني عمره، حيث "ما حدا لحدا"!

وثمة من يجد لهذه الطائفة أعذاراً، من فرط الحوادث التي عانى منها أشخاص كثيرون مرّواً بتلك التجربة، فـ"الكَيّس الفَطِن مَن اتعظ بغيره"، ما يعني ألا يتوقّف تمدّد الجُزر المعزولة، ويبقى ذوو الحاجة، البالغين أكثر من ثلث سكّان المنطقة، يتقلّبون على جمر خط الفقر المدقع، الذي يعرّف، بحسب موقع البنك الدوليّ، بأنه العيش على أقلّ من 3.65 دولارات للشخص الواحد في اليوم، وفقاً لمعيار القوة الشرائيّة. 

كثيراً ما تُتهم السياسات الحكوميّة المحليّة في الدول الأكثر بؤساً بأنها لا تُحدث فرقاً واضحاً لمصلحة تخفيف عبء المعاناة عن الناس، ما يستدعي، ربما، الجهر بأنّ الفتْق قد اتّسع على الراتق، فهل تنجح الأديان فيما أخفقت فيه الحكومات؟

الأديان، عموماً، تقوم على القيم النبيلة التي ترفع من شأن التضحية والإيثار والتعاون والتعاضد والتكافل واقتسام كِسرة الخبز بين البشر في السرّاء والضرّاء. وفي عرف الأديان أنّ المنتسبين إليها يتعيّن أن يكونوا في حالة استرخاء معيشيّ؛ كي يؤدّوا الطاعات في سياق الشكر، لا في سياق طلب الغوث، فـ"المسلم القويّ خيرٌ من المسلم الضعيف"، فالأديان تشدّ أزرها بالشجعان، لا بالضعفاء اليائسين البائسين، فماذا فعلت الأديان كي لا تزداد رقعة المعذّبين في الأرض؟

وفي سياق محاولة الإجابة عن السؤال السابق، من المهم أن نراقب الرسالة التي يقدّمها خطباء المساجد يوم الجمعة، فهؤلاء الخطباء منهمكون، في جلّهم، بالقضايا التفصيليّة التي لا تقّدم نفعاً مباشراً للناس، مثل الانشغال بنواقض الوضوء، أو تحديد لباس المرأة، أو إقران الاختلاط بالفجور، أو الحديث عن الموت، وأنّ الدنيا دار ممر، وليست دار مستقر، أو استدعاء بطولات الماضي المجيد، أو الغرق في الدعاء للحاكم، إلى آخر المصفوفة المحفوظة عن ظهر قلب!

لكنّ تلك الخطب لا تضع للناس (في إطار مبرمج) خطة لبذل الخير، أو مساعدة المحتاجين. وحين نقول خطة عمل، يعني ألا نكتفي بالخطابة، وأن يعمل الخطاب الديني (وخطبة الجمعة أحد أذرعه) على تثوير النزعة الإيثاريّة لدى الناس، وجعل الدين منصّة للعمل الذي يتوخّى، في مقاصده الكليّة، منفعة قطاع عريض من البشر، الذين على الأديان أيضاً وأيضاً أن تحبّبهم بالحياة، وأن تحفزّهم على إعمارها، وأنّ توضّح لهم الهلاك المتربّص بهم إن هم تقاعسوا عن نصرة إخوانهم، أو نجدتهم، أو تقاسم الآلام معهم، والآلام إن جرى تقاسمها لا تغدو آلاماً.

يروى عن الصحابي الثائر أبي ذر الغفاري أنه قال: "إذا سافر الفقر إلى مكانٍ ما، قال الكفر خذني معك".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية