حل حزب حركة النهضة الإخوانية: مناورة أم ضرورة أم خيار؟

حل حزب حركة النهضة: مناورة أم ضرورة أم خيار؟

حل حزب حركة النهضة الإخوانية: مناورة أم ضرورة أم خيار؟


25/05/2025

مختار الدبابي

أثار القرار التاريخي لحزب العمال الكردستاني بحل نفسه كحركة مسلحة تفاعلا كبيرا بين النشطاء السياسيين في تونس، وجرى حديث واسع عن أن الخطوة توفر فرصة للأحزاب التونسية لمراجعة وضعها واتخاذ قرارات جريئة قد يكون من بينها حل نفسها والتفكير في آليات أكثر جدوى سياسيا وتنظيما خاصة أن الأجسام الحالية لم يعد لها من وجود.

وتوجهت الأنظار إلى حركة النهضة الإسلامية إن كانت قادرة على الاستفادة من هذه الفرصة، وجرى جدل بين نشطاء إسلاميين من النهضة ومن محيطها حول مسألة الحل وإن كانت ستمثل مخرجا مشرّفا لحركة خسرت ثقلها التاريخي والسياسي والديني بعد تجربة الحكم في السنوات التي تلت ثورة 2011.

والجدل هنا من داخل الإسلاميين، وليس ممّن يطالبون بحل الحركة انطلاقا ممّا يصفونه بتجاوزات قانونية وسياسية قامت بها خلال فترة حكمها كتلك التي جاءت في تقرير محكمة المحاسبات، أو في الاتهامات التي توجه لأبرز قادتها في قضايا تتعلق بالإرهاب أو التسفير.

بعض الجدل فكري وسياسي وليس قانونيا. لا يتأسس على نظرية المؤامرة أو الكره والعداء المسبق، وهو ما يعطيه مصداقية في فهم آلية تفكير الإسلاميين وتقييمهم لتجربة الحزب ما قبل 2011 وما بعدها، في فترة المعارضة والصدام مع السلطة وفي فترة الحكم. البعض الآخر من هذا الجدل ينبني على نظرية المؤامرة في وجود شق من جمهور حزب النهضة يعتقد بأن الحديث عن التقييم يعني آليا الاصطفاف مع السلطة وحزامها السياسي اليساري، الذي يعادي النهضة، ويسعى لتحميلها مسؤولية فشل الانتقال الديمقراطي ما بعد 2011.

ما يهمنا هو الجدل الداخلي وخلفياته، وهل هو جدل فكري أم ردود فعل على الأزمة بالهروب منها وخلق واقع جديد يقفز عليها، لكنه يظل مرتهنا إليها باستمرار. بعض الحديث عن حل حزب النهضة تتحكم فيه الأزمة الداخلية التي شهدها الحزب بعد 2011 وسيطرة تيار رئيس الحركة راشد الغنوشي وفرض شروطه وآلياته في القيادة مهمشا الديمقراطية الداخلية، التي تقول الحركة لعقود إنها تدير خلافاتها عبرها كآلية ثابتة.

تأتي معظم الردود ممّن غادروا الحركة استقالة أو انسحابا أو يأسا من فرص تغييرها من الداخل لتحولها إلى منطقة عسكرية مغلقة خاصة بفريق قيادي بعضه بلا تاريخ والبعض الآخر ممّن غادروا إلى الخارج في محنة 1991 والصراع مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وفريق ثالث شعار “الله ينصر من أصبح”، وهو شعار كان يردده التونسيون في فترة حكم البايات العثمانيين وحين كانت تتم صراعات وتصفيات واعتقالات داخل الطبقة المستفيدة من السلطة. المثل يضع الناس على الحياد في الصراع وانضمامهم للمنتصر بما يعكسه من انتهازية وغياب الموقف.

اليائسون من تغيير حركة النهضة في وجود راشد الغنوشي، قبل فترة توقيفه الحالية ودخوله السجن في عهد الرئيس قيس سعيد، يطالبون الآن بحلها، أي هدّ المعبد على من فيه، وهو موقف ناجم عن ردة فعل وليس مقاربة فكرية أو سياسية تناقش جدوى بقاء الحزب بصورته الحالية لدى التونسيين. ويصف الموالون لرئيس لحركة ممّن بقي من قادتها خارج السجن حلّها في هذا الوقت بأنه هروب من المسؤولية.

لكن الفئة المقابلة ترى أن الحل لا علاقة له بوضع الحركة حاليا ولا بموقف السلطة، فتلك عوامل ثانوية، معتبرة أن المشكلة أبعد من ذلك، وأن الاسم الحالي استنفد كل مدلولاته وبات مرتبطا بالفشل وبالتقلبات السياسية والفكرية المتذبذبة للحركة. فالاسم هذا تحت مظلته تم تبني الموقف ونقيضه من مديح بن علي إلى مواجهته، من إقرار رؤية فكرية تقول إن الحركة أصولية تؤمن بتطبيق الشريعة إلى حركة “لايت” كل ما تطلبه هو إرساء الديمقراطية، ونقلت مواقفها من النقيض إلى النقيض دون مسوغات أو مراجعات فكرية وفقهية في المواقف من تطبيق الشريعة ومن مدونة الأسرة (مجلة الأحوال الشخصية وخاصة مسألة المساواة في الميراث) ومن الحريات الفردية (وخاصة فتوى أو تخريجة تتعامل مع المثلية على أنها حرية شخصية).

يفضي تحليل مواقف حركة النهضة منذ نهاية الثمانينات إلى الآن إلى وجود مجموعات حركة في حركات واحدة. لو أن الأمر يتعلق بجبهة سياسية أو التقاء سياسي ظرفي يمكن التعامل مع هذه الخلافات على أنها ظاهرة صحة، لكن في حزب وذي مرجعية إسلامية من الصعب الاطمئنان إلى فكرة هذا التعدد المفاهيمي، وهو تعدد يمس الأصول ولا يتعلق بمواقف تكتيكية أو باجتهادات في مسائل تتعلق بالفروع.

في الاشتباك الأول من هذا الصراع المفاهيمي إبان فترة الجماعة الإسلامية (تسمية وافدة قد تكون تثمينا لتجربة باكستان وأبوالأعلى المودودي مؤسس فكرة الحاكمية) خرجت مجموعة اليسار الإسلامي، وما يعرف بمجموعة 15/21، وما ساعد على ذلك هو ضعف الانضباط التنظيمي الذي أخذ بعده الحدّي لتسطير فكرة الانتماء على ما سواها.

أسرار التنظيم والتكتم على قيادته وخططه السياسية ومطاردة الموقف السياسي والتحالفات التكتيكية الظرفية وخطاب المظلومية كلها عناصر همشت طرح الأسئلة عن هوية الحركة، وأرضيتها الفكرية، لتجد بداخلها في النقاشات الثانوية والثنائية من يؤمن بمقولات سيد قطب، ومن يتبنى خطاب حسن حنفي في استمرار لليسار الإسلامي، ومن يقترب بالدفاع عن “العدالة الاجتماعية” في الإسلام من الماركسية، ومن يناقش بأفكار الفلسفة وعلم الاجتماع وفق اختصاصه في العلوم الإنسانية.

لو أن الظروف السياسية والأمنية سمحت للإسلاميين أن يستمروا في حواراتهم الداخلية لوجدنا الآن أحزابا إسلامية كثيرة وبأحجام صغيرة بخلفيات زيتونية (التيار الذي يحتكم إلى إرثا جامع الزيتونة) وأخرى إخوانية ويسارية وتكتلات مناطقية.

والفكرة من هذا كله أن الجلباب (الجبة التونسية) الفضفاض لحركة النهضة لم يعد يتحمل تاريخيا اختزال هذه التناقضات، التي ستظهر مع الوقت في ظل سجن قياداتها البارزة بعد 25 يوليو 2021، سيجد المنتمون خاصة من الصف الثاني والثالث والأنصار خريجو الجامعات الفرصة لطرح التساؤلات التي منعهم منها اللهاث اليومي وراء السياسة وأنشطة القيادات والسعي وراء التكتلات الظرفية المتقلبة والصراع مع اليسار والقوى والمجموعات الوسطية المتقلبة.

في الأزمات وخلال الصدام مع الآليات الصلبة للدولة كما حدث في مواجهة 1987 و1991، يتحرك الإسلاميون في ردة فعل تلقائية لإحياء الهوية الدينية للنهضة كحركة أصولية تمزج بين الانتماء الزيتوني والإخواني، ويتضخم البعد الدعوي وتظهر موجة الانتقادات لإستراتيجية الحركة القائمة على تضخيم البعد السياسي وتهميش الأبعاد الأخرى المختلفة بدءا من الجانب الدعوى إلى العمل الاجتماعي والخيري والثقافي والبحثي (في الأزمات يتذكر الإسلاميون أنهم على هامش الثقافة والفكر كقيمة وتأثير مؤسساتي في مقابل سيطرة خصومهم اليساريين).

البعض من الإسلاميين يعتقد أنه مثلما تم إنهاء تجربة حركة “الاتجاه الإسلامي” لعدم ملاءمتها للواقع في مناخ تونسي تتحكم فيه تقاليد العلمانية وضمن مناورة الاستجابة لقانون الأحزاب وقيم الدولة الوطنية، يجب حل حركة النهضة لاستيفاء كل شروط بقائها، ليس فقط لفشلها خلال مراحل الصدام مع أجهزة الدولة الصلبة وإخفاقها في قيادة الانتقال الديمقراطي وتهاوي سيطرتها لدى الناس، ولكن الأهم أن الاسم (النهضة) لا يعبّر بأيّ حال عن المضمون، وربما كان اختياره اعتباطيا أو محكوما بالمزايدة، أو استدعاء لجمعية نهضة العلماء في إندونيسيا.

النهضة مقاربة فكرية ثقافية تحتاج إلى أدوات ومناخ لا يقدر على القيام به حزب سياسي. يمكن أن تكون اسما لمركز دراسات أو جمعية ثقافية، لكن ربط المصطلح بحزب سياسي لا يستقيم.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية