حرب غزّة في غياب السّياسة

حرب غزّة في غياب السّياسة

حرب غزّة في غياب السّياسة


03/01/2024

خيرالله خيرالله

غيّرت حرب غزّة العالم، لكنّها غيرت خصوصاً الشرق الأوسط والخليج والدور الإيراني الذي انتقل إلى مرحلة جديدة أكثر هجومية. حصل ذلك في ضوء القدرة التي أظهرتها "الجمهوريّة الإسلاميّة" على استغلال هذه الحرب إلى أبعد حدود من جهة، وعدد الأوراق التي تمتلكها في أنحاء مختلفة من المنطقة من جهة أخرى. باتت إيران تمتلك مفتاح توسيع الحرب. سمح لها ذلك بدخول مفاوضات مع "الشيطان الأكبر" الأميركي أملاً في تحقيق مكاسب معيّنة تشمل الاعتراف بدورها المهيمن في المنطقة.

كشفت حرب غزّة درجة تحكّم إيران بالعراق وثقل الميليشيات العراقية التابعة لـ"الحرس الثوري"، وهي ميليشيات مذهبيّة عاملة تحت لافتة "الحشد الشعبي". كشفت الحرب أيضاً مدى الانتشار العسكري والأمني لإيران في سوريا ومقدار سيطرتها على لبنان وقرار الحرب والسلم فيه. ترافق ذلك مع زوال كلّ وهم في شأن مدى فعالية أداة اسمها "جماعة أنصار الله" في اليمن. يتلطّى الحوثيون تحت هذه التسمية لتأكيد قدرتهم على تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، الممتد من باب المندب إلى قناة السويس. أثبت الحوثيون قدرة كبيرة على استخدام أسلحة متطورة، بما في ذلك صواريخ ومسيّرات وزوارق حربيّة.

لم يكن الهجوم الذي شنته "حماس" في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، وسمّته "طوفان الأقصى" مجرّد هجوم كشف نقاط الضعف في إسرائيل وعرّاها. كان ذلك الهجوم نقطة تحوّل كبيرة إلى درجة أن إسرائيل ما قبل ذلك اليوم ليست إسرائيل ما بعده. صحيح أنّ إسرائيل استطاعت تدمير غزّة إلى أبعد حدود مستخدمة وحشية غير معهودة في عالمنا، لكنّ الصحيح أيضاً أن الدولة العبريّة مقبلة على تغييرات كبيرة بعدما صار مستقبلها على كفّ عفريت وبعدما غابت السياسة عن كلّ تصرفاتها وحلّ مكانها العنف. ستظهر الأسابيع المقبلة حجم الكارثة الإنسانيّة التي حلّت بغزة على كلّ الصعد من دون أن يعني ذلك إيجاد مخرج سياسي في سياق تسوية تصبّ في مصلحة الاستقرار في منطقة ممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.

تغيّر العالم إلى درجة أنّ الحدث الأوكراني، بما يشكله من خطر على كلّ دولة أوروبيّة، لم يعد يشغل العالم كما كانت عليه الحال في الماضي القريب. نسيت أميركا أن مصير أوروبا كلّها صار على المحكّ. نسيت الخطر الذي تشكّله روسيا على دول مثل بولندا، على سبيل المثال لا الحصر. لم تعد من أولويّة للحرب الدائرة في القارة العجوز على الرغم من تجدّد المعارك بين روسيا وأوكرانيا وكلّ تلك الوحشية التي يحاول فلاديمير بوتين من خلالها إظهار أن روسيا ما زالت قوّة عظمى.

بين ليلة وضحاها، عادت قضيّة فلسطين إلى الواجهة. مع عودتها إلى الواجهة اختارت إسرائيل إزالة غزّة من الوجود وتشريد أهلها، رافضة الاعتراف بأنّ الحاجة إلى السياسة قبل أي شيء آخر. فوق ذلك كلّه، ثمة خطر يتمثل في احتمال لجوء إسرائيل إلى توسيع الحرب إلى الضفّة الغربيّة. هذا ما تنبّه إليه العرب الواعون، في مقدّمهم دولة الإمارات العربيّة المتحدة والأردن. كذلك، لا يمكن الاستخفاف بممارسات إيران، عبر جنوب لبنان، وهي ممارسات يمكن أن تستغلها حكومة نتنياهو إلى أبعد حدود في ظلّ جو داخلي ضاغط. هذا الجو الضاغط ناجم عن نزوح عشرات آلاف الإسرائيليين من مناطق قريبة من الحدود اللبنانيّة.

بعد أيّام، تدخل حرب غزّة شهرها الرابع. ليس في إسرائيل من يريد استيعاب أن العنف لا يحلّ أي مشكلة على الرغم من كلّ المسؤولية التي تتحملها "حماس" التي لم تتحسّب لنتائج "طوفان الأقصى" وللكارثة التي حلت بغزّة. بكلام أوضح، هناك حاجة للعودة إلى السياسة بعد وقف النار سريعاً، خصوصاً أنّ بنيامين نتنياهو يبدو مصراً على متابعة الحرب. تدفعه إلى ذلك أسباب شخصيّة أوّلاً نظراً إلى أن وقف الحرب سيعني مباشرة فتح دفاتره ومحاسبته...

يظلّ أخطر ما في الأمر ذلك الغياب الأميركي الذي تعبّر عنه إدارة حائرة. زادت حيرة إدارة جو بايدن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسيّة ومع استمرار إيران في ممارسة لعبتها المفضلة، وهي لعبة الابتزاز مستفيدة من الوحشية الإسرائيلية...

لا حلّ إلّا بالسياسة، لا لشيء سوى لأن العنف لن يؤدي إلى تصفية القضيّة الفلسطينية مهما ستفعل إسرائيل في الضفّة الغربيّة بعد كلّ الذي فعلته في قطاع غزّة.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية