ثقافة اللاعنف.. عالم يتسع للجميع

ثقافة اللاعنف.. عالم يتسع للجميع

ثقافة اللاعنف.. عالم يتسع للجميع


04/02/2024

إنّ عدم فهمنا للإمكانات التي يتيحها اللاعنف، يجعلنا ككائناتٍ بشريّة نراوح في حلقةٍ مفرغة، تستمرّ في جعل العنف قاعدةً نبني عليها أساسات وجودنا في العالم، ولكنّها رغم ذلك أساسات قلقة من عدم الاطمئنان إلى أين يذهب العالم وأين نذهب معه!

نحن نستطيع تعريف العنف وتشخيصه بدقةٍ متناهية، ولكن هل مكّننا هذا من تحديد طبيعة اللاعنف ومعرفته بوضوح؟ قد تكون الإجابة أخطر ممّا نتصور، وقد تكشف أنّ من وضع قواعد السلام الذي تنشده البشرية جمعاء هو العنف نفسه. هناك تهديد دائمٌ ومستمر يُقلّص السلام إلى هدنةٍ بين حربين، لهذا فإنّ التفكير بسلامٍ يَنتج عن اللاعنف أمرٌ بغاية الأهمية، الوقت ينفد من بين أيدينا جميعاً، وحتى هذه اللحظة لم نفّكر جديّاً بمردود اللاعنف على الوجود.

 نستطيع تعريف العنف وتشخيصه بدقة متناهية ولكن هل مكّننا هذا من تحديد طبيعة اللاعنف ومعرفته بوضوح؟

من لا يعرف من أين يبدأ العنف، ستصعب عليه معرفة إلى ماذا يفضي اللاعنف، "وكون معظمنا يعتقد بأنه ليس عنيفاً، يعود لأننا نعتقد أنّ العنف  يتوقف على الضرب والقتل والحرب"، وهذا يجعل من الصعوبة بمكان أن نرى في مشاعر الأنانيّة المتمحورة على الذات، والتي يغذّيها باستمرار الجشع والتحامل والكره والارتياب، إنّها المولدات الأصيلة للعنف، إنّه يبدأ هنا ويتمدد ليبتلع العالم.

اقرأ أيضاً: العنف ضد المرأة بين الموروث الديني والاجتماعي

في المقابل يرى "مارشال روزنبير" في كتابه "التواصل اللاعنفي" أنّ اللاعنف هو وجودنا المتحرر من الخوف، وأنّ العلاقات التي تصنع هذا الوجود، محكومة بتعاطفنا الإنساني الذي تمتد جذوره في الحب والاحترام والتقدير؛ فما يعنيه "روزنبير" بالضبط، أنّ ما يغيّر هذا العالم مرهونٌ بتغيير ما بأنفسنا.

يحدّد "روزنبير" السبيل إلى تحقيق السلام المُنتج بوصفةِ اللاعنف، بعشر مسلماتٍ رئيسية: يشترك جميع البشر بالحاجات نفسها/ يوفر عالمنا موارد كافية لتلبية الحاجات الأساسية للجميع/ جميع الأفعال والتصرفات محاولات لتلبية حاجات/ تشير المشاعر إلى حاجات ملبّاة أو غير ملبّاة/ لدى جميع البشر القدرة على التعاطف والرحمة/ يستمتع البشر بالعطاء/ يلبي البشر حاجاتهم عبر علاقاتٍ مترابطة ومتعاونة/ البشر قابلون للتغيير/ الخيار داخلي/ يمر الطريق الأكثر مباشرةً إلى السلام عبر الاتصال بالذات.

اقرأ أيضاً: المثل الشعبي إذ يكرس العنف والتطرف

هذه المسلمات تحيل إلى أنّ الناس يلجأون إلى العنف أو إلى سلوكٍ يؤذي الآخرين، عندما لا تتراءى لهم استراتيجيات أكثر فعالية وأقلّ تكلفة لتلبية حاجاتهم، فنظرية التواصل اللاعنفي التي أسسها "روزنبير"، تنطلق من أنّ السلوك البشري ينبع من محاولات تلبية الحاجات البشرية الأساسية، وأنّ هذه الحاجات لا تتصادم أبداً من حيث الطبيعة، إنما ينشأ الصراع عندما تتصادم استراتيجيات تلبية هذه الحاجات، ومنه فإنّ عادات التفكير والكلام التي تؤدي إلى استعمال العنف (الفكري واللفظي والبدني) تُلقّن عبر الثقافة، ولا أساس جوهرياً لها في الطبيعة؛ لذلك يشير التواصل اللاعنفي إلى أنه: "إذا تمكن الناس من تحديد حاجاتهم وحاجات الآخرين والمشاعر التي تحيط بهذه الحاجات، فإنّ السلام والوئام ليسا بعيدي المنال".

  احتياجات البشر تتناقص كلّما اقتربوا من إنسانيتهم وتزداد كلمّا ابتعدوا عنها

السياسات التي تعمّم القلّة والشح، تتعارض في الحقيقة مع ما يمكن أن يوفّره العالم من موارد تكفي لتلبية الحاجات الأساسيّة للجميع، وهي بذلك تجعل من التفاوت عاملاً أصيلاً، ينزع الوجود عن الوفرة التي يشتمل عليها، وتهيّئه ليكون ميدان تنافس واحتكار، هذه المصادرة الأوليّة تعمّم منطق القوة والهيمنة، وتبرر العنف تبريراً طبيعياً، إنها في النهاية تنتج عدالة الأقوياء، حيث تفوّت الفرصة على ظهور العوامل الأصيلة للوجود الإنساني، القائم على الثقة والمحبة والتعاون والتشارك، وبدل أن يكتشف الناس المتعة العميقة للعطاء، هذه المتعة التي تؤكد إنسانيتهم وتنمّيها، سيكون التملك الدليل الوحيد على السعادة المنشودة، إلى أن ينتهي الأمر في أن يصبح الإنسان نفسه مملوكاً من قبل التصورات التي ستجعله دائماً يشعر بالحاجة إلى المزيد.  

اقرأ أيضاً: الإخوان والعنف.. من واقع أدبيات التنظيم

إنّ التواصل اللاعنفي ينبثق من قدرة الناس على التعاطف، بما هو قدرة الفرد على فهم مشاعر الآخرين ووضع نفسه مكانهم، بمعنى أنه إقرار مبدأي بتساوي الجميع في إنسانيتهم، فالتعاطف بهذا المعنى هو تجاوز فكرة العاطفة بما هي مكوّن طبيعي، إلى الإرادة الإنسانيّة الواعية في التفهّم والشعور بالمسؤولية، أو بتعبير "شين نورتن" في مقالته "إدراك الفرق بين التعاطف والشفقة" : "ينبغي علينا أنّ نقرّ بمسببات الشقاء، ليس بإيماءةٍ أو تأكيدٍ صريح، بل بالانضمام معاً إلى الصراع ضد مسبب الشقاء هذا، عندها فقط سيشير التعاطف ضمناً إلى شيء لا يخص العاطفة تحديداً بل السعي نحو مساواةٍ متبادلة". فالبشر قابلون للتغيير إذا تمكنوا من فهم خياراتهم فهماً واقعياً.

التواصل اللاعنفي ينبثق من قدرة الفرد على التعاطف بفهم مشاعر الآخرين ووضع نفسه مكانهم

 احتياجات البشر تتناقص كلّما اقتربوا من إنسانيتهم وتزداد كلمّا ابتعدوا عنها، بالتالي إنّ المشاركة الفعّالة بين البشر تقوم على نسج علاقات التعاون، حيث تنظر إلى الاختلافات على أنها المجال الوحيد الذي يتشكل فيه التعدد والكثرة، ممّا يعني إطلاق الإمكانات البشرية إلى أقصاها فيما يخدم وجود الإنسان ويعززه، إنّ الاختلاف يعيد بناء الثقافة بعيداً عن التصورات القبلية عن الآخر، ويدعم الانفتاح، ويجفف الموارد الرئيسية للعنف، فحين نتجاوز إيديولوجيا الرفض والإقصاء، لا بدّ لثقافة مغايرة من أن تتشكل، ثقافة لاعنفيّة يقترب فيها الإنسان من ذاته، بل يصبح اتصاله بذاته هو الطريق الأكثر مباشرةً إلى السلام.

اقرأ أيضاً: كيف يتحول الأسوياء إلى أعضاء بخلايا العنف؟

إذا فهمنا المسلمات العشرة للتواصل اللاعنفي، فسنكفّ وقتها عن تمنّي مستقبلٍ لأطفالنا خالٍ من العنف، حيث سيكون اللاعنف هو مستقبلهم، فالمحبّة بإقرار "ميخائيل نعيمة"، ليست مجرّد فضيلة، "إنها لضرورة أشدّ من ضرورة الخبز والنور والهواء". إنّ وعي اللاعنف يمكن أن يكون هديةً نقدّمها للطفل في يومه العالمي، فالعالم كما نراه اليوم يمور فوق صفيحٍ ساخنٍ، تحكمه تجاذبات وتنافرات تجعل الحمقى يتحكمون بمصيره، لذلك يبقى الرهان على العقل الإنساني الذي لا يتعين إلا بقدرته على السلام، فالحروب التي تتفجر في كل مكانٍ، تبدأ من هنا من الأفكار التي يجب تغييرها، ومن الرغبة الحقيقية في خلق عالمٍ يتسع للجميع.    

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية