تناقضات الموقف الروسي من الحرب في غزة

تناقضات الموقف الروسي من الحرب في غزة

تناقضات الموقف الروسي من الحرب في غزة


15/02/2024

أعطت الدبلوماسية الروسية انطباعاً بالبقاء على هامش الحرب بين إسرائيل وغزة. فالكرملين تمسك حتى الآن بتصريحاته المعتادة، بما يتماشى مع دعمه التاريخي للقضية الفلسطينية وإدانته للسياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وذهب في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي إلى حدّ تشبيه الحصار المفروض على غزة بالحصار الذي فرضته القوات النازية على لينينغراد.

بالإضافة إلى ذلك، انتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عدة أيام قبل أن يتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتعبير عن تعازيه بعد هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر). ولم يقتصر الأمر على أنّ الإدانة الروسية لحماس لم تكن قاطعة على الإطلاق، بل أرسلت الحركة وفداً إلى موسكو لإجراء محادثات في غضون شهر من بداية الأزمة.

قد يبدو هذا الموقف الدبلوماسي مؤيداً للفلسطينيين ومعادياً لإسرائيل، لكنّه أكثر تعقيداً ممّا يبدو. التخوف الرئيس بالنسبة إلى روسيا، مثلها في ذلك مثل الولايات المتحدة، يتلخَّص في منع اندلاع حريق هائل في الشرق الأوسط، وهذا ما يفسر لماذا دعت موسكو، مثل واشنطن، مراراً وتكراراً إلى الهدوء.

تقوم الطائرات الروسية والسورية منذ 18 كانون الثاني (يناير) الماضي بدوريات فوق هضبة الجولان المحتلة، فوق "خط برافو" الذي يفصل الأراضي السورية عن تلك التي يحتلها الجيش الإسرائيلي، وتبدو الرسالة القادمة من موسكو ذات شقين:

أوّلاً: من الممكن أن يُنظَر إلى ذلك باعتباره إيماءة إلى النظام في دمشق، تذكير بالولاء الروسي في وقت يتَّسم بانعدام الاستقرار بشكل شديد. ثانياً: يمكن أن تكون رسالة إلى حليف روسيا الإيراني، الذي تنشط جماعاته المسلحة على طول محور البوكمال ـ الميادين ـ دير الزور. وتحرص موسكو على مراقبة أنشطة هذه الجماعات عن كثب والحيلولة دون خروجها عن نطاق السيطرة. وقد أقامت القوات الروسية في سوريا عدة حواجز على أطراف هضبة الجولان في محيط القنيطرة، والهدف هو مراقبة التطورات على الحدود الإسرائيلية وخلق منطقة عازلة بحكم الأمر الواقع.

قد يبدو هذا الموقف الدبلوماسي مؤيداً للفلسطينيين ومعادياً لإسرائيل، لكنّه أكثر تعقيداً ممّا يبدو

تعتمد سياسة روسيا على إدارة التعقيد، وفي حالة غزة يتعيَّن عليها أن تُدير ملفين متناقضين: الأراضي الفلسطينية، حيث يتذكَّر المخضرمون دعم الاتحاد السوفييتي السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال أعوام حكم ياسر عرفات، وإسرائيل بلد هجرة اليهود الأشكناز والقوة المنافسة لسوريا.

تعلم موسكو أنّها لا تستطيع أن تقترح نفسها كراعٍ لعملية السلام، على الأقلّ ليس في الوقت الحالي. لكنّها تعتمد على تآكل النفوذ الأمريكي في المنطقة. ويتوقع بعض الاستراتيجيين الروس، وأبرزهم تيموفي بورداتشيف من "نادي فالداي للمناقشة"، وهو مركز أبحاث مقره موسكو، فشلاً استراتيجياً للولايات المتحدة بسبب سلوكها الاستبدادي، فضلاً عن دعمها الذي لا يتزعزع لإسرائيل، والأسوأ من ذلك عدم قدرتها على كبح جماح العملية العسكرية التي تنفذها الحكومة الإسرائيلية في غزة.

وحتى عندما شنت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات جوية ضد الحوثيين في اليمن، اقترحت روسيا طريقاً بديلاً على طول ساحلها في القطب الشمالي لموازنة مخاطر وقوع انسداد في طريق البحر الأحمر. وفي الشهر الماضي فتحت الدبلوماسية الروسية الطريق أمام محادثات تشمل إيران وتركيا ولبنان لحلّ الصراع في الشرق الأوسط، بما في ذلك محاولة للحد من الاشتباكات بين حزب الله والجيش الإسرائيلي. ومن المفارقة أنّه إذا نجحت هذه المحادثات، فإنّ إسرائيل قد ترحب بوقف الأعمال العدائية على تلك الجبهة.

علاوة على ذلك، أصرت الدبلوماسية الروسية على الحفاظ على الجدول الزمني لمحادثات "عملية أستانا"، التي تُمكِّن موسكو من جمع الأطراف المتحاربة في الصراع السوري من دون حضور غربي. ورغم أنّ الجولة الأخيرة من المحادثات ـفي نور سلطان، عاصمة كازاخستان، الشهر الماضي ـ لم تحقق الكثير باستثناء إدانة العملية الإسرائيلية في غزة، فإنّ هذه العملية تتمتَّع بميزة وجودها في وقت توقفت فيه نظيرتها التي ترعاها الأمم المتحدة فعلياً.

وضمن النتائج الأولى للحرب في غزة، تم تجديد الوحدة بين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في قمة الرياض في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وحتى الدول التي لديها أعمق التحفظات بشأن دعم إيران لحماس أعربت عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني. ولن يكون من المستغرب أن يتم تفسير الرفض الإجماعي للردّ العسكري الإسرائيلي في موسكو على أنّه رفض للترادف الأمريكي الإسرائيلي.

ولا يخفي الكرملين هدفه؛ فهو يسعى إلى إغلاق القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط وتقليص نفوذ واشنطن في المنطقة. وليس هناك شك في أنّ الدبلوماسيين الروس سيتابعون عن كثب المحادثات بين واشنطن وبغداد حول الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من العراق. كما سيتم مراقبة مستقبل "اتفاقيات أبراهام" عن كثب، لا سيّما فيما يتعلق بكيفية صمودها في أعقاب حرب غزة.

وفي الوقت الحالي، ما تزال التصورات العربية لدبلوماسية موسكو، خاصة علاقتها مع طهران، معقدة. فهناك تساؤلات حول متانة التحالف -الحقيقي أو المتصوَّر- بين روسيا وإيران، مع استمرار الميليشيات المدعومة من طهران في شنّ عمليات ضد إسرائيل. على سبيل المثال، يشير (مركز الإمارات للسياسات) إلى أنّ العلاقات بين موسكو وطهران كانت عاصفة في الماضي. وحتى اليوم، ما تزال الخلافات الإيديولوجية قائمة، حيث ترفض روسيا الدعوات إلى "الإبادة الكاملة لدولة إسرائيل".

ما تزال التصورات العربية لدبلوماسية موسكو، خاصة علاقتها مع طهران، معقدة

هناك أيضاً تصور بأنّ هذه لعبة دبلوماسية مفتوحة. وإذا كان لنا أن نقارن موسكو بلاعب شطرنج، فسنقول إنّها تقوم بخطوة في كل مرة، من دون تسرع، بينما تواصل توسيع نفوذها في التعامل مع إيران وإسرائيل والقوى العربية الرئيسة، وكذلك في سوريا. وفي الوقت نفسه، فإنّ تصرفاتها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تشير إلى قدرتها على المناورة.

في 10 كانون الثاني (يناير)، عندما قدمت الولايات المتحدة "القرار 2722" لمهاجمة البنية التحتية للحوثيين، لم تستخدم روسيا حق النقض ضده. كان من الواضح أنّ العمليات الجوية الوشيكة ستخلق صورة سلبية في جميع أنحاء العالم العربي عن "المراقبة" الغربية للمصالح التجارية في  البحر الأحمر. ولم يكن من الممكن أن يبقى الغرب خاملاً في مواجهة هجمات الحوثيين، ولم يكن من الممكن أن يُنظر إلى روسيا على أنّها تستغل الوضع.

يقال إنّ الشطرنج هو فن التفكير المسبق وتوقع الخطوة التالية للخصم. عندما يتعلق الأمر بسياسة موسكو في غزة والشرق الأوسط، فإنّ المثل الروسي القديم يلخص الأمر بشكل أفضل: "كلما أبطأت في القيادة، قطعت مسافة أبعد".

المصدر:

https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2024/02/07/russia-gaza-war-syria-israel-middle-east

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية