تفكيك تيار التسوية السياسية مع الإسلاميين في السودان

تفكيك تيار التسوية السياسية مع الإسلاميين في السودان


15/04/2020

محمد أبوالفضل

يدور انقسام في الشارع السوداني حاليا بشأن الإجراءات التي تتخذها السلطة الانتقالية حيال الجيوب المتنوعة التي تنتمي إلى نظام الرئيس المعزول عمر حسن البشير، فالبعض يرى أن لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال تقوم بدورها على أكمل وجه، والدليل حل منظمة الدعوة الإسلامية الجمعة الماضي، كواحدة من الروافع الرئيسية للحركة الإسلامية داخل وخارج البلاد، ووصفت دوما بأنها مركز الثقل الحقيقي في الدولة.

يعتقد آخرون أن اللجنة متعثرة ولم تقم بواجباتها اللازمة لتقليم أظافر الإخوان وأعوانهم، فمنذ صدور قانون تفكيك نظام الإنقاذ الذي أجازه مجلس السيادة والحكومة في 28 نوفمبر الماضي لم يتم إحراز نتائج توقف نشاط إسلاميي السودان، وكأن هناك تقاعسا في الملاحقة والمحاسبة، واكتفاء بإلقاء القبض على عدد من قيادات ورموز النظام السابق دون تجفيف المنابع الرئيسية من الكوادر الخطرة في الدولة العميقة.

وضعت هذه الخصال السلطة الانتقالية في الخرطوم في صورة المهتزة والمترددة التي تتعرض باستمرار لمناكفات وإخفاقات وعمليات عنف ومحاولات انقلاب عسكري، ويهمس الناس بأن ما خفي كان أعظم، في إشارة إلى وعورة النفق المظلم الذي تسير فيه الحكومة في تعاملها مع الحركة الإسلامية.

تتشكك بعض الدوائر في وجود نية حقيقية لتقويض أركان النظام البائد، بذريعة الحرص على التوظيف السياسي لهذه الورقة، كلما زادت الضغوط السياسية على السلطة يتم استدعاء ورقة فلول البشير والإسلاميين من الأدراج، وكلما تهاوت الشعبية في الشارع يجري فتح ملف إزالة التمكين والبحث عن قاعدة جذابة توحي بالحرص على المواجهة وعدم العودة إلى الوراء أو التفكير في الصفح عن الحركة الإسلامية كمركز سابق للحكم في عهد البشير.

يبدو الأمر محيرا، فلا لجنة إزالة التمكين أنهت مهمتها، ولا أنصار البشير توقفوا عن تراشقاتهم في الشارع وتجاذباتهم عبر وسائل الإعلام التابعة لهم، بما أزعج بعض القوى السياسية التي تصورت أن هناك مسرحية أو لعبة لتوزيع الأدوار داخل السلطة الانتقالية تقضي بعدم التخلص من الحركة الإسلامية وتصدير قضيتها عندما تقتضي الضرورة ذلك.

وصلت فصول القصة إلى حدّ تلقي وجدي صالح نائب رئيس لجنة إزالة التمكين، تهديدات مباشرة بالقتل عقب حل منظمة الدعوة الإسلامية، كما تعرض حسين بكار ومحمد إبراهيم عضوا اللجنة بولاية غرب كردفان لمحاولة اغتيال منذ أيام، وإطلاق أعيرة نارية على السيارة التي كانت تقلهما عند مدخل مدينة المجلد بعد عودتهما من اجتماعات اللجنة بمدينة بابنوسة.

شبكة مصالح إخوانية

تؤكد الكثير من المعطيات منطقية الاستنتاجات التي تشير إلى التباسات ما، لكن من غير الدقيق تبسيط المسألة على نحو يتجاهل أنها معقدة فعلا، ويصعب اختزال جوانبها في انطباعات من هنا وهواجس من هناك. فالنظام الذي حكم السودان على مدار ثلاثة عقود متواصلة تمكن من التمترس في قمة المجتمع وقاعه، وقام بعملية أسلمة لقطاعات عديدة فيه، وخلق لنفسه مجموعات من الرؤوس السياسية والأذرع الأمنية والكوادر الشعبية في أماكن متباينة، فضلا عن روافد متشعبة في مؤسسات حيوية قادرة على التأثير في حركة الدولة وأجهزتها.

المثير أن الحركة الإسلامية، نجحت في نسج شبكة جيدة من العلاقات مع قوى وفصائل سياسية مدنية، ورغم القبضة الحديدية لنظام الرئيس المعزول التي استخدمها ضد معارضيه، إلا أن الأمر لم يخلُ من مصالح أوجدها مع أحزاب وشخصيات من خارج دائرته الإسلامية، وتحاول قيادات في الحركة استعادة هذا الدور لتقوم بدور الرديف في صفوف المعارضة.

يجد التيار الإسلامي، وفي مقدمته جماعة الإخوان، ملاذه في الخلافات المتزايدة في صفوف تحالف قوى الحرية والتغيير، وهي الظهير السياسي للحكومة، ومحاولة استمالة العناصر الرافضة للخط الذي يمضي فيه رئيسها عبدالله حمدوك، وتشكيل جبهة وطنية فضفاضة تساعد الحركة الإسلامية على التسلل إلى مقدمة المشهد السياسي العام.

يظهر الفريق المتعاطف أو المتفاهم، ضمنا أو صراحة، مع الحركة الإسلامية قدرا من التسامح مع فلول البشير، تارة بوقف العقاب على من تورطوا في قضايا فساد سياسي واقتصادي وأمني، وأخرى بحصر الملف في الرموز الشريرة الكبيرة في عهد البشير، وثالثة تتبنى طريقة “عفا الله عما سلف” وغلق الصفحة الماضية بكل قتامتها وفتح صفحة تؤرخ للسودان الجديد، بحجة أن الاستغراق في تصفية الحسابات يقلّب المواجع ويحرف الدولة عن تحقيق أهدافها، وهو حق يراد به باطل ويضفي شرعية على الحركة الإسلامية.

يستشهد فريق الليونة (الميوعة السياسية في بعض التقديرات) الذي يتوزع على الأنماط الثلاثة السابقة، بفشل الخطوات التي اتبعت في دول عدة في القصاص من الأنظمة التي جرت إزاحتها على غرار السودان، وجعلتهم لسنوات أسرى الماضي، حيث خرجت قيادات الصف الأول سالمة من الإجراءات القضائية التي تعرضوا لها، فمن تمكنوا من الفساد السياسي وأمعنوا في الممارسات الأمنية الخاطئة ونهبوا الأموال، قاموا بكل ذلك وهم يملكون مظلات حمائية رسمية، فمن يفصل القوانين على مقاسه قد يأمن العقاب.

مناورات سياسية

تزيح هذه النتيجة الأوزان الثقيلة عن كاهل الحركة الإسلامية في السودان، وتجعل بعض القيادات يتصرفون بروية، ويحرصون على اتباع الطرق القانونية لإثبات البراءة، فلم تثنهم مصادرة أملاكهم وأموالهم الخاصة أو مقرات أحزابهم وجمعياتهم السياسية المشبوهة عن اللجوء إلى القضاء، لذلك لم تفصل المحاكم تماما في معظم القضايا المتهم فيها أتباع البشير.

يقول متعاطفون مع الإسلاميين داخل قوى الحرية والتغيير إن الكثير من القضايا المعروضة يحتاج وقتا زمنيا للفصل فيها، ولهم عبرة في ما يحدث في مصر، فمنذ عزل الإخوان عن الحكم منذ سبعة أعوام وثمة قضايا لم يتم الانتهاء منها أو تم وضع أصحابها في السجون دون دواع قانونية، وتحمل التبعات السياسية والحقوقية لهذا الوضع المثير للتساؤلات.

في الحالة الأولى (طول مدة الفصل) سوف يفتر حماس المواطنين الذين انجرفوا وراء المطالبة بالقصاص، ويشعرون بحالة من اللاجدوى في ذلك، حيث أمضوا سنوات دون أن يتمكنوا من تأكيد الاتهامات على أصحابها، واستغرقوا زمنا في متابعة المحاكمات وأخبارها وتطوراتها ودهاليزها، وربما يكون ذلك ألهاهم عن محاسبة المقصرين الجدد أو فتح الباب لتغيير مسارات المرحلة الانتقالية.

في الثانية (السجون) تهتز صورة الدولة المدنية الواعدة والراغبة في تقديم نموذج جيد لاحترام الحريات والديمقراطية، وتعول عليه بعض القوى الدولية ليكون مصدر إشعاع حضاري على دول المنطقة، ولن يكون من السهولة قبول هذه الحالة التي يمكن أن تستثمرها الحركة الإسلامية في المزايدة على السلطة الانتقالية، وتجبرها على الاستجابة للضغوط والإقدام على مرحلة بلا معنى من الإفراجات السياسية.

لم تتخذ الحكومة السودانية خطوة إيجابية في ملف تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية الذي جرى الوعد بدراسته بجدية، ويعتقد البعض أن النسيان وزحمة القضايا وطبيعة الأولويات جعلته في مرتبة متأخرة، ضمن القضايا الشائكة التي تخشى بعض القيادات فتحها، فقد يجلب حزمة من الشرور على قيادات في الحكم حاليا كانت شاهدة على جرائم البشير في دارفور.

تدرك الحركة الإسلامية أهمية التفاعلات النوعية، وتراهن على توظيفها للحدّ من استهدافها، وتفشيل مهام لجنة إزالة التمكين، فكل قيادة مدنية أو عسكرية أو حزبية كانت مشاركة أو شاهدة على حكم البشير من الممكن توريطها في قضايا جنائية، حتى لو كانت هذه المشاركة على الهامش، بمعنى أن هناك حركات مسلحة تتفاوض مع الحكومة ارتكبت أعمال عنف في مناطقها لن تكون هناك صعوبة في جرها إلى محاكمات لاحقا.

دفعت المعادلة المختلة بعض القوى السودانية إلى التلميح بتوظيف فضيلة الصفح التي تتحلى بها شريحة كبيرة من السودانيين عمن ارتكبوا جرائم بمن فيهم فلول الحركة الإسلامية، وهو الرهان الذي تستند عليه قيادات الحركة في خطواتها، ومن خلال إحياء علاقاتها القديمة مع قوى سياسية لا تجد ممانعة في إقصاء أحد، فقط تعتبرها مجرد حواجز نفسية هي التي تجعل الكثير من المسؤولين في الحكم يترددون في التلويح بهذا السيناريو.

تُعرف هذه القوى بأنها النواة الحقيقية للتيار المنادي بالتسوية السياسية مع الإسلاميين، وإذا أرادت السلطة الانتقالية في السودان محاسبة قيادات النظام السابق، فعليها، أولا، تفكيك ما يمكن وصفه بـ”أرامل البشير”، ومن استفادوا من عصره، سواء انتموا إلى الحركة الإسلامية أو إلى حزبه الحاكم (المؤتمر الوطني) أو تعاطفوا معهما أو استفادوا منهما، وهؤلاء يمثلون حجر عثرة في تعطيل عمل لجنة إزالة التمكين، وزيادة الأمل في خلق توازنات جديدة تجعل من فلول عمر البشير رقما فاعلا.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية