تراجع حركة النهضة الإخوانية في تونس... ما الأسباب والدلالات؟

تراجع حركة النهضة التونسية... الأسباب والدلالات

تراجع حركة النهضة الإخوانية في تونس... ما الأسباب والدلالات؟


21/02/2023

شهدت الحياة السياسية في تونس عقب ثورة 2011 مرحلة خطيرة وغير مسبوقة في تاريخها، بعد أن أتاحت الأحداث حينها فرصة سانحة لحركة النهضة الإخوانية للثأر من القوى التنويرية التي حكمت تونس على مدى عقود استقلالها.

لكن سرعان ما تزايدت حالة الرفض الشعبي والمجتمعي لحركة النهضة الإخوانية بتونس ولتوجهاتها السياسية والفكرية، وهو ما جعلها تشهد تراجعاً ملحوظاً على المستويين؛ السياسي والتنظيمي، خلال الأعوام الماضية، وتقلصاً متنامياً لقاعدة مؤيديها، منذ أول انتخابات شاركت فيها بعد عام 2011.

هذا التراجع المتواصل تسببت فيه عدّة عوامل، بحسب دراسة حديثة نشرتها التونسية بثينة جبنون رئيسة تحرير مجلة بثينة، على "موقع ترندز للدراسات والبحوث"؛ منها إشعال الحرائق السياسية، وافتعال الأزمات والفتَن، من أجل صرف أنظار الشعب التونسي عن الفشل الحكومي المتواصل في إدارة شؤون البلاد.

البراغماتية السياسية للنهضة التونسية

الدراسة التي نُشرت تحت عنوان "تراجع حركة النهضة التونسية... الأسباب والدلالات"، لفتت إلى أنّ تطور الحركة من حركة كانت تُسمّى "الاتجاه الإسلامي" المحظورة في زمن الرئيس الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس الراحل زين العابدين بن علي، إلى حزب سياسي بعد انتفاضة 2011، يدَّعي الفصل بين الدعَوي والسياسي، وفك ارتباطه بالتنظيم العالمي للإخوان، أثبت رغبة النهضة في الاستفادة من الحراك وجني ثماره دون دفع أيّ تكلفة.

وبحسب الدراسة، فقد اختار التنظيم الدولي للإخوان الفرع التونسي نموذجاً لتحسين صورته، من خلال محاولة التخلي عن المظهر التقليدي المتطرف لتعرض الحركة نفسها في حُلّة مقبولة على المجتمع التونسي في الداخل، وأيضاً على المجتمع الدولي في الخارج.

راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية

يُذكر أنّ العلاقة العلنية بين النهضة والتنظيم الدولي للإخوان بدأت تظهر بشكل علني وجليّ، بعد أن كشفت وسائل الإعلام في أكثر من مرّة مشاركة زعيم الحركة راشد الغنوشي في اجتماعات التنظيم، التي أعقبت عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي بعد ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013.

وتحدّثت الدراسة عن أنّ الحركة انتهجت منذ عام 2011 السياسة البراغماتية في الاستحواذ على السلطة، من خلال تلوين خطابها والتعاطي مع نمط الثقافة الاجتماعية السائدة لدى المجتمع التونسي، ومحاولة إظهار وجه مغاير عن "الإسلام السياسي" التقليدي، عبر تبنّي مفهوم الإسلام الديمقراطي للحصول على دعم النخب الغربية والمجتمع الدولي، وذلك لتحقيق مكاسب سياسية، رغم أنّها تمثل امتداداً للتنظيم العالمي للإخوان (عقلياً وفكرياً وهيكلياً).

الحركة تدرجت في تونس منذ نشأتها من السرّية إلى العلنية، وعرفت قياداتها السجون والمنفى ثم كراسي الحكم والسلطة، وانتقلت من حركة إسلامية إلى حزب سياسي في عام 2011، وتمكنت بطريقة براغماتية من التسويق لخطابها، على أنّها حزب معاصر بعيد عن توظيف الدين، والمشاركة في العمل السياسي، ومحاولة طمس تاريخها في التطرف، فضلاً عن توجيه الاتهامات إليها بممارسة الإرهاب.

مؤشرات التراجع

الكاتبة التونسية أشارت في الدراسة إلى عدد من المؤشرات التي يمكن أن تكشف التراجع المستمر الذي تشهده حركة النهضة الإخوانية في تونس، حيث التطورات المتسارعة على الساحة السياسية التونسية قد أثرت عليها بقوة، ومرّت من الصعود الساحق في انتخابات 2011 حتى السقوط المدوّي بعد قرارات الرئيس قيس سعيّد في 25 تموز (يوليو) 2021.

من هذه المؤشرات التراجع البرلماني، فقد تراجع الحزب من صدارة التطلعات في الانتخابات التشريعية 2011 بـ (89) مقعداً من جملة (217) مقعداً في المجلس الوطني التأسيسي، إلى المرتبة الثانية في انتخابات 2014 بـ (69) مقعداً خلف نداء تونس.

سرعان ما تزايدت حالة الرفض الشعبي والمجتمعي لحركة النهضة الإخوانية بتونس ولتوجهاتها السياسية والفكرية

واستمر هذا التراجع في الانتخابات التشريعية في 2019، إذ حصل الحزب على (52) مقعداً من جملة (217) مقعداً بالبرلمان، لتكون بذلك تشريعية 2019 بداية "الانحدار السياسي للنهضة"، رغم اعتلاء زعيمها راشد الغنوشي رئاسة البرلمان التونسي.

ومرت بهذا أعداد الناخبين المؤيدين لهم في الانتخابات الـ (3) التي شهدتها البلاد منذ 2011، من مليون و(498) ألف ناخب إلى (947) ألفاً في انتخابات 2014، ثم وصلت إلى (561,132) ناخباً في انتخابات 2019، وهذا يعني فقدان الثقة لدى ناخبيهم، وربما هذا ما دفع بعض القيادات المنشقة عن الحركة في التفكير في تأسيس حزب سياسي جديد.

يضاف إلى ذلك الفشل السياسي، فقد فشلت الحركة في إدارة البلاد في الفترة التي تصدرت فيها المشهد السياسي في تونس منذ عام 2021، بالنظر إلى أنّها تعاملت مع الدولة وأجهزتها وفقاً لمنطق الغنيمة، وعلى أساس مصالحها الخاصة والحزبية.

الحركة تدرجت في تونس منذ نشأتها من السرّية إلى العلنية

ولفتت الدراسة إلى أنّ التوافقات التي أبدتها في الظاهر مع شركائها كانت مغشوشة، إذ تعاملت مع الحكم على أساس تقسيم الكعكة، معتمِدة في ذلك على ما توفره المنظومة السياسية والانتخابية لها باعتبارها الحزب الأكثر حضوراً في البرلمان، لتقوم بكل شيء حتى تضمن الصورة الحكومية التي تؤمِّن مصالحها.

وركزت الحركة خلال أعوام الحكم على المناهج التعليمية والندوات التي تعتبر أدوات للتمدّد المجتمعي والتغلغل في قطاعات الطلاب، وحتى محاولة التغلغل واختراق مؤسسات الدولة من خلال توظيفهم لمنتسبيهم بعد منحهم العفو التشريعي العام وحصولهم على تعويضات مادية، أدت إلى عجز مالي كبير في ميزانية الدولة.

من بين أسباب التراجع التي تحدثت عنها الدراسة أيضاً تزايد الاتهامات بالعنف والإرهاب، حيث شهدت الأعوام الماضية تسليط الأضواء على الاتهامات الموجهة إلى النهضة بالتورط في عدد من القضايا، التي تمسّ الأمن  القومي التونسي، والتي كان من أبرزها الاتهام بتأسيس جهاز سرّي كان يُشرف على قضايا الاغتيالات السياسية لشخصيات وطنية وشخصيات أمنية، مثل الناشطين السياسيين بلعيد والبراهمي.

اختار التنظيم الدولي للإخوان الفرع التونسي نموذجاً لتحسين صورته من خلال محاولة التخلي عن المظهر التقليدي المتطرف، لتعرض الحركة نفسها في حلّة مقبولة على المجتمع التونسي

يضاف إلى ذلك اتهام الحركة بالتورط في تسفير الشباب إلى بؤر التوتر (ليبيا وسوريا والعراق)، فوفق اللجنة التونسية لمكافحة الإرهاب (حكومية)، التي تشكلت في 2019، فإنّ "عدد التونسيين في بؤر التوتر بلغ حوالي (3) آلاف، عاد منهم إلى تونس (1000) عنصر إرهابي، في الفترة الفاصلة بين 2011 حتى تشرين الأول (أكتوبر) 2018.

هذا إلى جانب الرفض الخارجي للحركة، التي انخرطت في محاور إقليمية قسَّمت الشعب التونسي في سياق ملفات سياسية وإيديولوجية، أدت إلى عزل تونس وإفساد علاقاتها الديبلوماسية مع بعض الدول، خلال تواجدها في الحكم.

دلالات تراجع حركة النهضة

أكدت الدراسة أنّ التراجع المستمر الذي تشهده حركة النهضة، التي كانت تُعدّ من أبرز أذرع جماعة الإخوان في المنطقة العربية، يعكس عدداً من الدلالات المهمة؛ منها الفشل الفكري، حيث كانت النهضة قد زعمت عقب الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، "تفهُّمها الغضب الشعبي المتنامي، خصوصاً في أوساط الشباب، بسبب الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي، بعد (10) أعوام من الثورة.

وعبَّر مجلس شورى الحركة عن "ضرورة قيام الحركة بنقد ذاتي معمّق لسياساتها خلال المرحلة الماضية، والقيام بالمراجعات الضرورية، والتجديد في برامجها وإطاراتها في أفق مؤتمرها الـ (11)، وكان من المقرر أن تعقد الحركة مؤتمرها نهاية 2021، لكنّه تأجَّل لأسباب داخلية، منها رفض عدد كبير من قيادييها ترشّح رئيسها الحالي راشد الغنوشي لولاية ثالثة.

هذا دون اعتبار حالة الوعي بين مكونات الشعب التونسي بالمخاطر الفكرية للنهضة، والتي عملت من خلال استراتيجية مدروسة على تطوير مظهرها الخارجي في سياق مراجعة فكرية لتكون مقبولة شعبياً، وتنويع طرق التعبئة لخدمة أجنداتها وتحقيق أهدافها السياسية، لإحكام قبضتها على المجتمع والدولة والتخطيط للحكم بتونس.

الحركة انتهجت السياسة البراغماتية في الاستحواذ على السلطة، من خلال تلوين خطابها والتعاطي مع نمط الثقافة الاجتماعية السائدة لدى المجتمع التونسي

كذلك فشلت الحركة في إدارة البلاد، وصارت الفترة التي تولت فيها الحكم توصف بـ"العشرية السوداء"، بعد أن أثبتت قلة الخبرة لدى قادتها في إدارة شؤون الدولة، نظراً إلى أنّ أغلبهم لم يكونوا من الكفاءات، وتم اختيارهم طبقاً لنهج العقيدة والسمع والطاعة.

والأسوأ من ذلك، بحسب الدراسة، أنّ بعضهم كانوا في السجون داخل تونس في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ومُنِحوا العفو التشريعي العام بعد سقوط نظامه،   وقد تعاملت الحركة منذ تصدرها المشهد السياسي في تونس في عام 2011 حتى اليوم مع الدولة وأجهزتها وفقاً لمنطق الغنيمة، وعلى أساس مصالحها الخاصة والحزبية.

ومن دلالات تراجع الحركة أيضاً تزايد حدة الانقسامات الداخلية بالحركة التي شهدت صراعاً متصاعداً بين قياداتها، ويرجع ذلك بشكل رئيس إلى إشكالية خلافة راشد الغنوشي في منصب رئيس الحركة، وقد أصبحت الحركة منقسمة بين فريقين؛ أحدهما مؤيِّد لبقاء الغنوشي في رئاسة الحركة عبر تجديد ترشُّحه لتولي دورة رئاسية ثالثة، بينما يرفض الفريق الآخر تعديل القانون الداخلي للحركة الذي ينص على عدم جواز تولي الغنوشي رئاسة الحركة لأكثر من دورتين متتاليتين.

كما تصاعدت الخلافات بين قيادات الصف الأول والصف الثاني، وانشقاقات بعض القيادات بالحزب لتشكل أحزاباً جديدة؛ بسبب انفراد راشد الغنوشي بكل قرارات الحركة، وعدم التداول الديمقراطي على منصب رئيس الحركة.

هذا، ويرفض الغنوشي والمقربين منه إجراء مؤتمر للحزب ينتخب فيه رئيس الحزب ديمقراطياً، إلى جانب اتهام الغنوشي بالفساد، إذ ينعم هو وحاشيته الضيقة، ومنهم ابنه معاذ وصهره رفيق عبد السلام، بالرفاهية والأموال والبذخ، كما تُحمِّله بعض القيادات من الصف الثاني ما آلت إليه قراراته السياسية التي أفقدتهم الثقة لدى قواعدهم الشعبية.

ويُعدّ العجز عن الحشد والتأييد من أبرز دلالات تراجع النهضة، وفق الدراسة، حيث اتجهت حركة النهضة الإخوانية، منذ الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، إلى استغلال الظروف الاقتصادية التي تمرّ بها تونس مؤخراً، في الحشد ضد الرئيس، وتأليب الرأي العام ضده، ولكنّها فشلت في ذلك.

ففي محاولة يائسة للضغط على الرئيس التونسي قيس سعيّد والعودة إلى المشهد من جديد، سعى إخوان تونس لحشد أنصارهم في 14 كانون الثاني (يناير) 2023، من خلال وقفة  نظمتها الحركة في شارع الحبيب بورقيبة بقلب العاصمة لإحياء ذكرى سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في 2011، ولم يشارك فيها إلا القليل، وكشفت بجلاء عن تداعي التنظيم الإرهابي، وغياب الموالين له، بعد الفضائح التي كشفها النظام القضائي بشأن قيادات التنظيم مؤخراً.

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية