
شهدت القارة الأفريقية في الأشهر الأخيرة موجة من الانسحابات العسكرية الفرنسية، وتناقلت أوساط إعلامية دولية مؤشرات، قالت إنها تشير إلى أن فرنسا على أعتاب نهاية نفوذها في إفريقيا بعد ما يزيد على 250 عاماً من الوجود الفرنسي في القارة الإفريقية.
ويحذر خبراء في الشأن الإفريقي من أن هذا الفراغ قد يتيح للجماعات المسلحة فرصة لتعزيز وجودها وتنفيذ هجمات إرهابية تهدد استقرار المنطقة بأكملها. خصوصا أن قوى دولية تتسابق من بينها الصين وتركيا، لتعزيز نفوذها العسكري والاقتصادي في المنطقة التي أصبحت محورًا لصراعات جيوسياسية جديدة.
تراجع الحضور العسكري الفرنسي في أفريقيا
وقد تراجع حضور فرنسا العسكري في دول الساحل الإفريقي بشكل كبير، حيث انسحبت قواتها من بعض الدول وتستعد للخروج من أخرى خلال الأيام المقبلة.
ووفقا لما رصدته وكالة "الأناضول" التركية، فإنه بعد انسحاب باريس من مالي والنيجر وبوركينا فاسو غربي إفريقيا قبل أشهر، جدد رئيس السنغال باسيرو ديوماي فاي دعوته باريس إلى إغلاق قواعدها العسكرية في بلاده.
ونهاية كانون الأول / ديسمبر الماضي، أعلن فاي إنهاء الوجود العسكري الفرنسي اعتبارا من عام 2025، بعد أن قال نهاية تشرين الثاني / نوفمبر الفائت إنه يتعارض مع سيادة بلاده، فيما أُعيدت قاعدة فايا العسكرية الفرنسية في تشاد، يوم 26 كانون الأول / ديسمبر الماضي، إلى الجيش التشادي.
فرنسا على أعتاب نهاية نفوذها في إفريقيا بعد ما يزيد على 250 عاماً من الوجود الفرنسي في القارة الإفريقية
وحدث ذلك بعد إعلان إنجامينا، في 28 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، إلغاء اتفاقية مع باريس لتعزيز التعاون بمجال الصناعات الدفاعية والأمن.
وطالبت تشاد الحكومة الفرنسية بسحب جميع قواتها من أراضي الدولة الإفريقية بحلول 31 كانون الثاني / يناير 2025.
لماذا؟
وحول أسباب هذه الانسحابات، يرى الديبلوماسي علي تاسع، وهو سفير سابق للنيجر في القاهرة وأبوجا، أن هذه "الانسحابات الفرنسية ككرة الثلج ولن تتوقف"، مرجحا أن "تطلب جيبوتي والغابون أيضا خروج القوات العسكرية الفرنسية من أراضيها".
ويقول تاسع في تصريح لموقع "الحرة" إن "عواصم أفريقية كثيرة حذت حذو ما بات يعرف بتجمع دول الساحل، الذي يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بعد أن كان الاعتقاد السائد أن أي ابتعاد عن فرنسا سيجلب المشاكل للزعماء والقادة المحليين".
ويشدد تاسع على أن الدول الأفريقية قادرة على تأمين حدودها بعيدا عن فرنسا، الذي يطرح حضورها الكثير من نقاط الاستفهام، معتبرا أن "العواصم الأفريقية بحاجة إلى السلاح، وهو متوفر لدى قوى أخرى كروسيا والهند والصين وتركيا وغيرها".
هناك قناعة سائدة في أفريقيا بأن فرنسا لم تحارب الإرهاب بل بالعكس أدى تدخلها في ليبيا إلى انتشار السلاح ووصوله إلى الجماعات المتشددة
ومن وجهة نظر الديبلوماسي النيجيري السابق، فإن هناك "قناعة سائدة في أفريقيا بأن فرنسا لم تحارب الإرهاب، بل بالعكس أدى تدخلها في ليبيا إلى انتشار السلاح ووصوله إلى الجماعات المتشددة بدول جنوب الصحراء".
هناك أيضا، بحسب تاسع، "وجهة نظر تقول إن فرنسا مسؤولة عما يقع في أفريقيا من إرهاب، لكي تظل هذه الدول دائما تحت سيطرتها"، مستدلا على ذلك بأن "مساحات شاسعة من بوركينا فاسو مثلا كانت تخضع لسيطرة الإرهابيين قبل أن تستعيدها السلطات البوركينابية بعد طرد الفرنسيين".
صراع النفوذ في منطقة الساحل
في السياق، يشير المحلل السياسي الفرنسي، جان بيير فيليو، في تصريح لموقع "إرم نيوز" إلى أن تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، خاصة بعد الانسحاب العسكري من دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، يفسح المجال أمام قوى دولية أخرى مثل روسيا وتركيا والصين لتعزيز وجودها في المنطقة.
وأوضح أنه في ظل تراجع النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية وفقدان باريس موقعها تمامًا في منطقة الساحل، خاصة بعد انتهاء وجودها العسكري في تشاد، بدأت قوى دولية غير إقليمية في التدفق لتعزيز مواقعها وتوسيع مناطق نفوذها، خاصة في منطقة الساحل التي أصبحت خالية من الوجود الفرنسي.
قوى دولية تتسابق من بينها الصين وتركيا لتعزيز نفوذها العسكري والاقتصادي في المنطقة التي أصبحت محورًا لصراعات جيوسياسية جديدة
وأضاف فيليو أنه بعد سلسلة من الانتكاسات التي تعرض لها النفوذ الفرنسي في دول الساحل الثلاث، وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو، خلال الأشهر الأخيرة، أعلنت تشاد والسنغال أيضًا نهاية تعاونهما العسكري مع باريس في نهاية تشرين الثاني / نوفمبر الماضي.
وتابع فيليو: "بدأت الخطوات الأولى لسحب القوات الفرنسية من تشاد في 10 كانون الأول / ديسمبر، حيث تم تسليم قاعدتين عسكريتين إلى القوات التشادية، هما: قاعدة "فيا" وقاعدة "أبشي"، ومن المتوقع تسليم القاعدة الأخيرة، "أدجي كوسي" في نجامينا، بحلول نهاية هذا الشهر".
من سيملأ الفراغ
تبعا لذلك، تسعى دول مثل روسيا إلى تعزيز نفوذها من خلال توقيع اتفاقيات دفاعية مع دول المنطقة، كما حدث مع النيجر في كانون الأول / ديسمبر 2023.
كما تعمل تركيا أيضاً على تعزيز شراكاتها الدفاعية، كما هو الحال مع تشاد، حيث تم توقيع اتفاقية لتعزيز القدرات العسكرية للجيش التشادي في مكافحة الإرهاب.
في الوقت نفسه، تسعى الصين إلى تعزيز وجودها من خلال الاستثمارات الاقتصادية وتقديم الدعم العسكري، مما يضفي بُعدًا جديدًا للتنافس الدولي في المنطقة.
هذا وذكر موقع "أفريكا إنتليجنس" الاستخباراتي الفرنسي، في تقرير، أن النقاش حول الاستعانة بخبراء أتراك لتدريب الجيش التشادي في مجال الدفاع الجوي تم في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، خلال لقاء الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي مع قادة جيشه عند إطلاق عملية "حسكانية"، التي جاءت ردًا على هجوم نفذته جماعة "بوكو حرام" الإرهابية ضد الجيش التشادي في أواخر تشرين الأول / أكتوبر، وأسفر عن مقتل 40 جنديًا.
وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، عملت تركيا، بحسب "إرم نيوز"، على تعزيز نفوذها في تشاد بشكل غير مسبوق، حيث شهدت العلاقات بين البلدين تطورًا سريعًا وملحوظًا، تجسد في تبادل الزيارات بين ممثلي البلدين وتوقيع اتفاقيات وشراكات في مختلف المجالات الحيوية.
وفي عام 2023، بلغت الصادرات التركية إلى تشاد 155.4 مليون دولار، وفقًا لقاعدة بيانات "كومتريد" التابعة للأمم المتحدة للتجارة الدولية، وتركزت معظم هذه الصادرات على النقل المدني والمعدات العسكرية.
ورغم التقدم الذي أحرزته أنقرة في تعزيز نفوذها في تشاد، إلا أن وجود منافس قوي مثل الصين قد يعرقل الجهود التركية لترسيخ وجودها بشكل أكبر.
في غضون ذلك، وفتحت دول أفريقية عدة أحضانها للدب الروسي الذي نجح في تثبيت أقدامه في منطقة الساحل الأفريقي، إذ استعانت مالي وبوركينا فاسو بعناصر من مجموعة "فاغنر" شبه العسكرية، فيما ذهبت النيجر إلى أبعد من ذلك من خلال استقدام مستشارين ومدربين عسكريين روس، في وقت تواجه فيه المنطقة فوضى أمنية غير مسبوقة.