في ظلّ الحرب، شبه العالمية، مع تنظيمي القاعدة وداعش، تركزت الأنظار نحو مناطق بعينها؛ باعتبارها الأكثر سخونة؛ أفغانستان، سوريا، العراق، شبه جزيرة سيناء، غير أنّ هناك أيضاً، مَن أرّقهم تطرف جماعات الإسلام السياسي، لكنهم يعيشون في جنوب الصحراء، بعيداً عن أعين الجميع، في غرب إفريقيا، في نيجيريا تحديداً، التي تعاني من جماعة لا تقل تطرفاً ووحشية عن داعش، إنها جماعة "بوكو حرام".
فساد الدولة النيجيرية أدى إلى عدم التوزيع العادل للعائدات الحكومية، خاصة من قطاع البترول، وتغذية الإرهاب
وإن كان الإعلام العالمي، غير منتبه لتحركات "بوكو حرام"، وصدامها مع النظام النيجيري الحاكم، فقد أفرد لها الدكتور محمد عبد الكريم أحمد، كتاباً كاملاً، يحكي فيه قصة صعود بوكو حرام، بعنوان "بوكو حرام: من الجماعة إلى الولاية"، صدر عن دار "العربي" للنشر.
الكتاب يتكون من ثمانية فصول، بدأها المؤلف بـ "نيجيريا: عملاق إفريقيا التائه"، موضحاً أنّ أزمة بوكو حرام، ممتدة إلى جذور المشهد النيجيري، وأنّها ليست حديثة المنشأ، وأنّ التطرف الديني وجد طريقه منذ مئات السنين إلى نيجيريا، حتى وصل في النهاية إلى صورته الدموية المتمثلة في جماعة بوكو حرام، شارحاً الأبعاد، التاريخية والاجتماعية والسياسية، للأزمة.
تحدث الكاتب أيضاً عن علاقة الاستعمار الأجنبي لقارة إفريقيا بجماعات التشدد الديني؛ إذ يرى أنه كان صاحب الدور الأكبر في التمهيد لصعود جماعات التشدد الديني؛ عندما عزز من نعرات الإثنية والعرقية والتطرف، خالقاً مساحات للصراع بين القبليات العديدة، المتواجدة غرب إفريقيا، ليسهل السيطرة عليها، وسرقة مواردها من قبل المستعمر.
عملاق إفريقيا التائه
يتناول الكتاب وصفاً لدولة نيجيريا، وتطورها التاريخي والسياسي والاجتماعي، منذ تكوينها رسمياً، في بداية القرن العشرين، على يد الاستعمار البريطاني، من خلال توحيد أجزائها المختلفة، فضلاً عن الكثير من القضايا التقليدية المتعلقة بتطور نيجيريا، مثل مشكلات الحكم العسكري، والدعوات الانفصالية، والصراعات الإثنية، والفساد السياسي والاقتصادي، وغير ذلك من القضايا التي أعاقت تطور نيجيريا.
اقرأ أيضاً: "الشباب" و"داعش"... حرب المواجهة المفتوحة في الصومال
ويسرد الفصل الثاني نشأة بوكو حرام في شمال شرق نيجيريا، والظروف المحيطة بهذه النشأة، والقضايا المتعلقة بالتسمية، ومواقف الحكومات المختلفة إزاءها في المرحلة المبكرة، وقد بدأ المؤلف بسرد الجذور التاريخية لنشأة الجماعات الإسلامية في العموم داخل الأراضي النيجيرية، التي استقى من أحدها تنظيم بوكو حرام تطرفه الفكري؛ مثل: جماعة "إزالة البدعة وإقامة السنّة"، المشهورة بين الناس باسم "جماعة إزالة"، والتي ظهرت في السبعينيات من القرن الماضي، على يد إسماعيل إدريس، الذي شارك معه طلاب عائدون من الدراسة في المملكة العربية السعودية، وانتشرت دعوته في شمال نيجيريا وجنوب النيجر، بهدف القضاء على الشِركيّات والبدع في أوساط أتباع الطرق الصوفية، إلى جانب جماعات دينية أخرى ظهرت بالتوازي مع جماعة "إزالة"، مثل: جماعة "نصر الإسلام"، وجماعة "الطلاب المسلمين، وجمعية "أنصار الدين"، و"جماعة الدعوة".
اقرأ أيضاً: العفو الدولية: هجوم بوكو حرام على الران الأكثر دموية.. تفاصيل
وانتقد مؤسس جماعة "إزالة" الطرق الصوفية بشدة، وعارض ما رآه بدعاً تقوم بها الطرق الصوفية، مثل: زيارة قبور الأولياء والتبرك بها، وإنشاد أغاني مدح الرسولﷺ.
الجذور والنشأة
يعود تاريخ نشأة الحركة إلى كانون الثاني (يناير) من العام 2002، على يد الشيخ محمد يوسف، وهو من المنتمين سابقاً إلى جماعة الإخوان المسلمين، قبل أن ينفصل عنها، ويلحق بالجماعة السلفية، وتمكّن يوسف، بصفته أحد رموز الإخوان، من قيادة الفرقة التي انشقت معه، واستمر في تعليمهم وتوجيههم، واقترب من جماعة "إزالة البدعة وإقامة السنّة".
بوكو حرام أثارت جدلاً كبيراً بسبب أفكارها المتشددة التي وصلت إلى تحريم التعليم الذي ترى تأثره بالفكر الغربي
وبوكو حرام، هي كنية للحركة الإسلامية التي تطلق على نفسها "جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد"، وتركيزها منصبّ على نيجيريا والدول المجاورة، لا على الجهاد على المستوى الدولي.
ويشير المؤلف، في كتابه، إلى أنّ بوكو حرام أثارت، منذ إرهاصات نشأتها، أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، جدلاً كبيراً؛ بسبب أفكارها المتشددة، التي وصلت إلى تحريم التعليم، الذي ترى تأثره بالفكر الغربي، إضافة إلى مصادر تمويلها المجهولة.
وفي عام 2009؛ وقعت المواجهات بين الجماعة والشرطة والجيش، شملت عدة ولايات شمالية، راح ضحيتها المئات أو الآلاف من الضحايا المدنيين، وانتهت بإعلان الحكومة النيجيرية أنّها قتلت جميع أفراد بوكو حرام.
وتختلف الأسباب، كما أشار المؤلف في كتابه، في تفسير اعتداء الحكومة الكبير على حركة بوكو حرام، عام 2009، أحدها؛ أنّ الحكومة علمت أنّ الجماعة كانت تقوم بتسليح نفسها، ومن ثم شعرت بضرورة المواجهة.
مقتل زعيم الجماعة
لكن بعد قتل زعيم الجماعة، محمد يوسف، في حادثة مشهورة، في 26 تموز (يوليو) 2009، توجَّهت الجماعة للعمل السري، وظهرت قيادة جديدة لها، بعد هذا الحادث بحوالي عام، مع إعلان أبو بكر شيكاو نفسه قائداً للجماعة.
وتناول الفصل الثالث من الكتاب أيديولوجية بوكو حرام، محللاً مدى ارتباطها بالأفكار السلفية والجهادية، وتحليل مدى تأثير الموروث الجهادي في أفكار بوكو حرام.
وأدى الفساد في نيجيريا إلى عدم التوزيع العادل للعائدات الحكومية، خاصة من قطاع البترول، على المواطنين النيجيريين، وتكريس الانقسام بين الشمال والجنوب، وتعزيز سياسات التنمية غير العادلة، ودور ذلك في تغذية الإرهاب وتبرير بعض منطقه، وفق الفصل الرابع، حيث يرى المؤلف أنّ صعود بوكو حرام، وغيرها من جماعات التشدد الديني، عائد، برأيه، في المقام الأول إلى فساد الحكومات النيجيرية المتعاقبة، أيضاً إلى العنف المفرط الذي واجهت به الدولة جماعة بوكو حرام، ما دفع الجماعة إلى التحول، من تيار دعوي إلى تنظيم مسلح؛ انتقاماً لمقتل أعضائها.
اقرأ أيضاً: بوكو حرام تشرد آلاف النيجيريين
وناقش الفصل الخامس انتشار أفكار وعناصر بوكو حرام إقليمياً، بينما اهتم الفصل السادس بتناول الموقف الغربي من بوكو حرام، وانشغل الفصل السابع بتناول تصنيف بوكو حرام كجماعة إرهابية على المستوى الدولي، بالتوازي مع تصاعد داعش، والعلاقة بينهما (بوكو حرام وداعش)، من الناحية الحركية، وجاء الفصل الثامن بعنوان "ما بعد النص... بوكو حرام وسيناريو ما بعد بخاري".
وترجع أهمية الكتاب إلى أنّ المؤلف تناول المشهد النيجيري على جميع مستوياته، وجذوره التاريخية، في محاولة لتقديم تفسير منطقي لصعود جماعة بوكو حرام، وذهابها إلى العنف في موقفها من الدولة، راصداً جذور التيارات الدينية في نيجيريا، والمشهد أيام الاستعمار الغربي، الذي عزّز من فكرة التفرقة بين الشعب النيجيري على أسس عرقية وإثنية، وتناول المؤلف أيضاً دور المؤسسة العسكرية في تغذية تطرف بوكو حرام؛ بسيطرتها على مقاليد وموارد الدولة، وعدم التوزيع العادل لثروات الدولة.