تتّجه أنظار العالم نحو تونس؛ التي تعيش على وقع الاستعداد لإنجاز الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة، المقرّرة في الربع الأخير من العام الحالي، كثاني محطة انتخابية مستقلة وشفافة، في تاريخها منذ الثورة، وسط خلافات حادّة تشقّ الطبقة السياسيّة التي تعمّقت باقتراب موعد هذا الاستحقاق الديمقراطي.
القاسمي: تراهن النهضة على قدرتها التنظيميّة ومرجعتيها الإسلامية إلى جانب خبرتها في العمل السياسي والسرّي لأعوام طويلة
خلافاتٌ فجّرها "الطلاق" بين أكبر حزبين في البلد (نداء تونس العلماني، وحركة النهضة الإسلامية)، بعد توافق دام أربعة أعوام، عزّزتها الاتّهامات الموجّهة لحركة النّهضة (ذات الأغلبيّة في الحكم) بوقوفها وراء الاغتيالات السياسية، وتكوينها لجهازٍ عسكريّ سرّي من أجل تنفيذ مخطّطاتها، فضلاً عن اتهامها في التورّط بتسفير المتطرفين إلى مناطق النزاع.
اقرأ أيضاً: ماذا قال السبسي عن حركة النهضة وجهازها السرّي؟
ورغم كلّ الاتّهامات الموجّهة إليها، تحاول الحركة الحفاظ على ثقة ناخبيها، وغالبية تمثيلياتها النيابية، غير أنّها خسرت كلّ حلفائها الذين شاركتهم الحكم سابقاً، بعد أن عبّرت كلّ الأحزاب المكوّنة للمشهد السياسي التونسي، والبالغ عددها 215 حزباً، عن رفضها القاطع للتحالف معها، أو دعمها، أو تقاسم وجهات النظر معها، عدا حزب حراك تونس الإرادة الذي أعرب مؤسّسه المنصف المرزوقي (رئيس تونس السابق)، عن رغبته في التحالف معها.
يقول المحلّل السياسي، الجمعي القاسمي، إنّ حركة النّهضة بدأت حملتها الانتخابية مبكّراً، من خلال تكثيف اجتماعاتها لاختيار رؤساء القوائم، وتوفير معدّاتها اللوجستية، على خلاف باقي الأحزاب التي ما تزال تتحسّس الطريق نحو الاستحقاقات المقبلة.
ويرى القاسمي، في تصريحه لـ"حفريات"، أنّ الحركة تراهن على ثلاثة عناصر أساسية للفوز؛ فهي تستند أولاً على قدرتها التنظيمية، وعلى قاعدتها الانتخابية الصلبة، باعتبارها حزباً عقائدياً، ثمّ على مرجعتيها الإسلامية، إلى جانب إمكانياتها المادية الكبيرة، وعلى خبرتها في العمل السياسي والسرّي لأعوام طويلة، وفقه.
النّهضة تفتّت "النداء" وتستثمر في أزمته
وضمن إستراتيجياتها المحكمة؛ استطاعت الحركة، قبل أشهر من إجراء الانتخابات، إشعال فتيل الخلافات بين الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي (مؤسّس حزب نداء تونس)، ورئيس حكومته يوسف الشاهد (قياديٌ سابق في الحزب)، عبر دعم الشاهد في وثيقة قرطاج (وتضمّ مجموعةً من النقاط التي يتوجّب على الشاهد تنفيذها بمساعدة مجموعة من الأحزاب، وكانت بمثابة حزام سياسي للحكومة)، وهو ما ترتّبت عنه نهاية التوافق مع نداء تونس.
اقرأ أيضاً: حركة النهضة في تونس: تهم بتأسيس جهاز سري واغتيالات محتملة
وقد استطاعت الحركة حصد نتائج مهمّة لصالحها؛ أهمّها إحداث انشقاقات جديدة داخل نداء تونس، من خلال انقسامه بين مؤيدين ليوسف الشاهد، وموالين للباجي قايد السبسي، ونجله حافظ قايد السبسي، وتغذية الصراع بين القياديين في نداء تونس، في حين ظلّت هي تراقب من بعيد، للحفاظ على قوّتها السياسية، بانشغال حزب النداء في تصفية قياداته بدلاً منها.
وهو ما أكّده الناطق باسم حزب نداء تونس، منجي الحرباوي، في تصريحه لـ"حفريات"، مشيراً إلى أنّ مساعي النّهضة في ضرب نداء تونس وإضعافه "لم تعد خافيةً، وتأكّدت بدعمها ليوسف الشاهد للانشقاق عن حزبه ومساعدته في تكوين حزبٍ جديدٍ، ضمّ عدداً مهمّاً من نواب النداء داخل البرلمان"، وحمّلها مسؤوليّة تمزيق الحزب، وتقوية شقٍّ على آخرٍ.
رحلة البحث عن شريكٍ إستراتيجي
العزلة التي سبّبتها لها الاتّهامات الموجّهة إليها، والمتعلّقة بقضايا إرهابيةٍ في معظمها، دفعت حركة النهضة للبحث عن شريكٍ قوي تستطيع السيطرة عليه، فاتّجهت نحو دعم رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، على حساب شريكها القديم الباجي قايد السبسي رئيس البلاد، من أجل تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الكبرى المفروضة من الجهات الأجنبية المانحة، وكذلك من قبل قوى غربيةً تتصارع على المنطقة ككلّ، وليس على تونس فقط.
قيادي بحزب يوسف الشاهد الجديد: لن نتحالف مع حركة النّهضة لأنّنا نختلف معها مرجعيّاً
ورغم أنّها حالت دون عزله من منصب رئاسة الحكومة، فيبدو أنّ حزب يوسف الشاهد الجديد، الذي أطلق عليه تسمية "تحيا تونس"، هو الآخر قد تخلّى عنها في وقتٍ وجيزٍ جداً، خاصةً أنّ كلّ قياداته أكّدت، في عدة مناسبات، أنّهم لن يتحالفوا مع الحركة، ولا يمكن أن يشتركوا معها في أيّ برنامج حكم في المستقبل، وأنّ هذا القرار تمّ اتخاذه بعد إجراء استشارة جهوية واسعة أقرّت بالاختلاف بين حركة "تحيا تونس" وحركة النهضة في الهوية الفكرية، وحول المشاريع المجتمعية.
وفي هذا السياق، اكتفى القيادي بحزب "الشاهد" مصطفى بن أحمد، بالتأكيد على أنّه "لا يعتقد أن يتحالف حزبه مع حزب حركة النّهضة لعدة أسباب مبدئيّة، في مقدمتها؛ الاختلافات المرجعية والأيديولوجيّة، فضلاً عن اختلافهم معها في التعامل مع بعض القضايا الاجتماعية التي تشهدها تونس، غير أنّه لم يجزم، في تصريحه لـ "حفريات"، بأنّه لن يقع تحالف مستقبلاً بين الحزبين.
اقرأ أيضاً: المرزوقي يغازل النهضة بحثاً عن تحالف يعيده للسلطة
من جهته، يرى الناطق باسم نداء تونس، منجي الحرباوي؛ في حديثه لـ"حفريات"، أنّ الحركة "تغازل يوسف الشاهد، من أجل التحالف معه، حتى تنقذ نفسها من الاتّهامات التّي اُلصقت بها، خاصة المتعلقة بتمويل الإرهاب، وتسفير الإرهابيين إلى بؤر التوتّر، فضلاً عن تورّطها في الاغتيالات السياسية وتكوين جهازٍ سرّي."
مؤسّسات استطلاعات الرأي في الخدمة
وأظهرت نتائج سبر الآراء "استطلاعات الرأي" الأخيرة، التي لا تحظى بثقة التونسيين؛ لاتّهامها بخدمة أجندات سياسية ومصالح حزبية، تفوّق الحركة في توقّعات نتائج الانتخابات؛ حيث أكّدت مؤسسة "سيغما كونساي"، المختصّة في سبر الآراء، بالتعاون مع جريدة "المغرب" الخاصة؛ أنّ تقارير شهري تشرين الثاني (نوفمبر)، وكانون الأوّل (ديسمبر) 2018، أثبتت تصدّر النهضة لنوايا التصويت في الانتخابات البرلمانية، فيما تصدّر رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية المقبلة، يليه رئيس الدولة، الباجي قايد السبسي، الذي حلّ في المرتبة الثانية، بـ 15.4%، بحسب المصدر نفسه.
اقرأ أيضاً: حركة النهضة تناور باستعراض يستحضر خطاباتها عام 2013
ورأى الناطق باسم حزب العمّال اليساري المعارض، الجيلاني الهمّامي، في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ نتائج سبر الآراء "غير دقيقة ومكيفة بحسب أهداف سياسيّة متفقٍ عليها مسبقاً"، لافتاً إلى أنّ هذه المؤسّسات "لا تعمل وفق قانونٍ ينظّم عملها، ولا معايير تضبطها، وهو ما يجعلها محلّ شكّ دائمٍ إلى حين إصدار قانونٍ تعمل"، وفقه.
وأفاد الهمّامي بحصولهم على معلوماتٍ تفيد بأنّ بعض الأحزاب، منها؛ نداء تونس وحركة النّهضة، تقوم بتجييش مؤسّسات إعلاميّة تابعةٍ لها لخدمة مصالحها السياسية والانتخابية.
اقرأ أيضاً: إياكم وحرباء حركة النهضة
من جهته، يرى القيادي بحزب حركة النهضة، بشير الخليفي، في تصريحه لـ"حفريات"؛ أنّ "الحركة تتقدّم بثبات نحو الاستحقاقات المقبلة، وتسعى لإقناع ناخبيها بأنّها الأقدر على تسيير شؤونه، ورعاية مصالحه، لكن ذلك لا يمنع ترحيبها بالتنافس النزيه بين مختلف الأحزاب".
ولم ينفِ الخليفي، ولم يؤكّد أيضاً، إمكانية تحالفهم مع حزب يوسف الشاهد الجديد، مؤكداً أنّ أيديهم مفتوحة لكلّ الأحزاب السياسية، والشخصيات الوطنية، من أجل خدمة مصلحة البلاد، وأنّ التوافق مبدأ متأصّل في فكر الحركة وستحرص عليه بعد الانتخابات في تشكيلات الحكومات المقبلة.
النهضة تستعطف الأطراف الخارجية
هذا واهتمّت وسائل الإعلام التونسية مؤخراً بمشاركة زعيم حركة النّهضة، راشد الغنّوشي، في الدورة 49 للمنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس"، في 21 كانون الثاني (يناير) 2019، الذي بات يشارك فيه بصفة دورية، منذ ما بعد ثورة 2011، وانتقد الإعلام المحلّي حضور الغنّوشي، بصفته سياسيّاً، أشغال المنتدى الذي يُفترض أن يحضره كبار المسؤولين في الدول.
الجيلاني الهمّامي: حركة النّهضة مسكونة بفوبيا تصنيفها كحركة إرهابية لذلك يسعى قياداتها لتلميع صورتها في الخارج
وفي هذا الشأن؛ يشير مراقبون إلى أنّ الغنوشي الذي يحرص على حضور الاجتماعات الدولية، يريد أن يلمّع صورته في الخارج من خلال ملف الإصلاحات الاقتصادية، ويروّج للمجتمع الدولي بأنّ حزبه لا يعارض شروط المانحين الدوليين.
فيما تعتقد المعارضة أنّ همّ حركة النهضة صار استرضاء الخارج بكلّ الطرق، وذلك بسبب هوسها بالسلطة ورغبتها في التمسك بمقاليد الحكم، وأكّد، دعماً لذلك، الناطق باسم حزب العمال اليساري المعارض جيلاني الهمّامي؛ أنّ إصرار الغنّوشي على الحضور في المحافل الدولية؛ هو "سعي منه لتلميع صورة حركته، وإعطاء انطباع إيجابي حولها."
اقرأ أيضاً: الإسلامية والليبرالية.. هل تمثلان نتاج الصراع على أسس النهضة؟
وأضاف في تصريحه لـ"حفريات"؛ أنّ النّهضة "مسكونة بفوبيا تصنيفها كحركة إرهابية؛ لذلك يسعى زعيمها وقياداتها إلى تغيير صورتها النمطية عبر إقناع المانحين الدوليين بمدنيتها"، واصفاً ذلك بـ"الدبلوماسية الموازية التي ستتسبب في نتائج عكسيّة على صورة تونس، وعلى اقتصادها".
هذا وتؤكّد تصريحات كلّ قيادات الحركة الإسلامية التونسية؛ أنّ الغنّوشي سيكون مرشحها للانتخابات الرئاسية، رغم تأكيد الحركة أنّ المسألة لم تُحسم بعد؛ حيث أكّد الناطق الرسمي باسمها عماد الخميري، أنّ رئيس "النهضة" يمتلك كلّ الإمكانيات ليكون رئيساً للجمهورية، وأضاف الخميري، خلال تصريح صحفي أنّه على الصعيدين؛ القانوني والنظري، يبقى راشد الغنوشي المرشح الرئيس للحركة.