الوجه الآخر لليابان الذي نغضّ الطرف عنه

اليابان

الوجه الآخر لليابان الذي نغضّ الطرف عنه


01/09/2019

قبيل اندلاع ثورات "الربيع العربي"، أفرد الداعية السعودي، أحمد الشقيري، في 2008، حلقات من برنامجه "خواطر" المقدَّم في رمضان، على فضائية "الرسالة"، عن النهضة اليابانية، كما يسميها، مستعرضاً نمط التعليم والالتزام حتى في السلوكيات الفردية التي يشتهر بها اليابانيون، مطلقاً عليها "كوكب اليابان"، وكأنّنا بصدد الحديث عن كائنات ذات مكوّن غير الذي نحن عليه.
لكنّ معدلات الانتحار المرتفعة في اليابان فتحت الأفق لاستعراض وجه آخر أكثر وحشية لليابان، قد يودي بها يوماً إلى الانقراض.

كوكب اليابان ينقرض
تحت عنوان "القنبلة الزمنية الديموغرافية"، نشرت صحيفة "بيزنس إنسايدر" الأمريكية، دراسة صادرة عن جامعة توهوكو اليابانية، تفيد بانخفاض معدلات الخصوبة بشكل غير مسبوق، إضافة إلى زيادة أعداد المسنين وارتفاع الأعمار بشكل لا مثيل له، وتحت إشراف الاقتصاديَّين اليابانيَّين: هيروشي يوشيدا، وماسايرو إيشيجاكي، اللذَين قدّما، عام 2015، دراسة تفيد بوجود أقلّ من  16 مليون طفل  في اليابان، وهو عدد يتوقع أن ينخفض على مدار 1750 عاماً قادمين، يهدّد اليابانيين بالانقراض من الأرض.

اقرأ أيضاً: هل تعرف ماذا يعبد اليابانيون؟

يوجد أقلّ من 16 مليون طفل في اليابان
  ووفق الدراسة؛ فإنّ قرابة 49% من اليابانيين عازفون عن ممارسة العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة، وذلك بسبب هوسهم الشديد بالعمل، وانصرافهم عن إقامة علاقات أسرية، وعن منظومة الزواج بشكل عام، ونقف الآن على بعد ألفي عام، من انقراض اليابانيين وإعادة توطين بلدهم بسكان جُدد، وتحت عنوان "جنس أقل"، قدمّت شبكة التلفزيون البريطانية "BBC"، وثائقياً يشرح علاقة اليابانيين المضطربة مع الجنس، والتي باتت خطراً يهدّد وجودهم ذاته على الأرض، يقدم الوثائقي الكوميدي الياباني الشاب "آنو ماتسو"، ذو الـ 26 عاماً، يوضح سبب عزوفه عن الارتباط، الذي يأتي كرد فعل على الرفض المتكرر من الفتيات له، بسبب انصرافهنّ إمّا إلى العمل، أو البدائل التقنية التي تغنيهن عن شريك حقيقي.

يتوقّع الإحصائيون أن يصل تعداد السكان من 127 مليون في 2015 إلى 107 ملايين عام 2040، بحسب عالم الإحصاء والسكان الياباني، ليجي كينيكو، في لقاء أجرته قناة "CBN News" الأمريكية، بحلول عام 2100 سيصل عدد السكان إلى 46 مليون نسمة، على أكثر التقديرات، وعلى عكس الطبيعة الديموغرافية التي تتمتع بها بلداننا العربية من ارتفاع نسب الشباب، تعاني اليابان من ارتفاع نسب المسنين، فأكثر من 40% من السكان، فوق سن الـ 65، وكثيرون معمرون لأكثر من مئة عام، نتيجة ارتفاع مستوى الرعاية الصحية، ونمط الحياة التقليدي الذي ما يزال يحتفظ به سكان القرى النائية، فيما يسبب هذا التهديد كابوساً للحكومة اليابانية التي تتبنى في الوقت الراهن سياسات تحفيزية للإنجاب، ومستوى معيشي مرتفع يضمن للآباء أفضل رعاية لأبنائهم، إلّا أنّه من الواضح أنّ هناك عاملاً أكبر يمنع اليابانيين من خوض علاقات أسرية، وينهمكون في العمل حتى تأتيهم الـ "كاروشي" بغتة، وهم لا يبصرون.

كاروشي يلتهم الشباب
تحتفي الثقافة اليابانية بالموت بتفرّد عن سواها؛ فيشبه الانتحار لديهم رقصة جماعية للوداع؛ فالانتحار الذي أرساه محاربو الساموراي في زمن الإقطاع بالقرنين السادس عشر والسابع عشر، أصبح اليوم ثقافة يُحتفى بها، ويؤديها الشباب في طقوس جماعية؛ إمّا برمي أنفسهم تحت عجلات القطار، أو بجرعات زائدة من المخدرات والأدوية، أو استنشاق الغابات السامة، بينما هناك تقنية أكثر اتساعاً وأقدم تاريخياً من كل هذا؛ هي الإلقاء بنفسك في بحر الأشجار أو غابة أوكيجاهارا، والتي قدمّها فيلماً لهوليوود، عام 2015، للمخرج الأمريكي، جاس فان سانت، وقام ببطولته الأمريكي ماثيو ماكونهي، القادم إلى جزيرة الأشباح كما تشتهر، لينتحر على الطريقة اليابانية بعد وفاة زوجته، وتحمل تلك الغابة أساطير منذ بعيد الأمد، فقديماً استخدمها اليابانيون في المجاعات، عن طريق ترك كبار السنّ والمرضى، وأصحاب الإعاقات فيها، حفاظاً على قوت يومهم، وفي عام 1960، قدّمت الكاتبة اليابانية الأكثر شعبية، سيكو ماتسوموتو، روايتها المأساوية "كيوري جوكاي"، أو "بحر الأشجار"، والتي تشابهت أحداثها مع الفيلم، ومن خلال واقعة انتحار غاية في الرومانسية، صارت الرواية بمثابة دليل للانتحار في الغابة، التي تُستخرج منها مئات الجثث المنتحرة شهرياً، والتي عُثر على الكتاب أكثر من مرة فيها، إلى جوار جثت المنتحرين.

اقرأ أيضاً: اليابان بين الماضي والحاضر

يتوقّع الإحصائيون أن يصل تعداد السكان من 127 مليون في 2015 إلى 107 ملايين عام 2040

في كتابه "لماذا يقدم الناس على الانتحار؟"، يقدّم مدير قسم الطب النفسي بجامعة طوكيو في كاواساكي، البروفيسور يوشينوري تشو، تعليقاً يندمج مع طبيعة الشخصية اليابانية بحدّ زعمه، قائلاً: "من خلال تتبع طقوس الانتحار تاريخياً إلى اليوم، يمكن أخذها كطريقة للتعبير عن تحمل المسؤولية"، هذا بالأخذ في الاعتبار ظاهرة الكاروشي التي تتصدر فيها اليابان، وهي الموت بالسكتة الدماغية أو القلبية، الناجم عن الإرهاق في العمل، والذي يتراوح متوسط ساعاته الأسبوعية 80 ساعة، بمعدل يتجاوز  12 ساعة يومياً، ناهيك عن العمل في العطل الرسمية، وساعات العمل الإضافية التي يتنافس فيها اليابانيون، لإثبات جدارتهم، وللإحساس الذاتي بالتحقق، بحسب كلام تشو.

اقرأ أيضاً: إلى أي مدى استفدنا من جهود اليابانيين في دراسة القرآن الكريم؟
وإلى جوار الكاروشي؛ هناك الهيكوموري وهم من يختارون الموت على طريقتهم الخاصة، وبحسب تقرير مصوّر نشرته شبكة "BBC"، في كانون الثاني (يناير) 2019، مع شباب الهيكوموري الآخذ عددهم في الازدياد، تقدّم بعض الشركات الخاصة "أختاً للإيجار"، للعمل بأجر لدى العائلات التي يعاني أحد أفرادها من هذه الظاهرة، والتي غالباً ما تنجم عن الإخفاقات الذاتية مثل: الرفض العاطفي من الجنس الآخر أو المجتمع، أو المطرودين من عملهم.

على طريق الأرواح سائرون
بينما تُجرّم ما نسميه بالأديان الإبراهيمية (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، قتل النفس باعتباره أكبر الكبائر؛ فإنّ اليابان، وهي خليط من مجتمع متعدّد الأديان، لكنّ الغالبية يدينون بالـ "شنتو"، التي يصفها الباحث في الأديان والحضارات، فراس السواح، بأنّها ليست ديانة بالمعنى الذي عرفته الديانات الشمولية، ولكنها طقوس تمارس من قبل أتباعها، وتسيطر على حياتهم اليومية، وهي ديانات لا تُعنى بالتبشير، ولم تدخل في حروب أو انقسامات طائفية، ومعنى "شنتو" بالعربية: "طريق الأرواح"، وهي ديانة لا تعتقد بالبعث الأخروي وفكرة الثواب والعقاب؛ لذلك فإنّ ما يمثله الانتحار بالنسبة إلى اليابانيين، ليس إلّا محو العار الذي يشعرون به عند الإخفاق في العمل، أو الدراسة، اعتقاداً منهم أنّ هذا يتسبّب في إيذاء أحبائهم، ما يدفعهم إلى إنهاء حياتهم التي يرونها صارت عبئاً على عائلاتهم وأصدقائهم؛ فاليابان اليوم تجسّد انتحار أمّة بأكملها لشعور أفرادها بالإخفاق دون إدراك للفوارق الفردية بين الأشخاص، خاصة المراهقين والشباب، الذين ربما ينتظمون في دراسة أو عمل لا يتوافق مع ميولهم الذهني، وهنا تكمن الكارثة.

أستاذ في جامعة طوكيو: من خلال تتبع طقوس الانتحار تاريخياً إلى اليوم يمكن أخذها كطريقة للتعبير عن تحمل المسؤولية

رغم ما تقدّمه الثقافة اليابانية من انتحار محفوف بالشاعرية، يكمن عامل يواجهه الإنسان المعاصر، وبشكل مكثف في اليابان؛ حيث العلاقات الاجتماعية المفككة، والتي أغفلها الإنسان الحديث، واستعاض عنها بالتكنولوجيا، وساعات لا تنتهي من العمل، بينما تُعرّف المنظمة الأمريكية للصحة العقلية العلاقات الاجتماعية؛ بأنّها ما يجمع بين شخصين أو أكثر من علاقة تراحمية اختيارية، سواء كانت علاقة مع شريك، أو مجموعة أصدقاء، أو الأسرة، أو علاقات العمل والدراسة، فيما تتصاعد اهتمامات المنظمات النفسية بدراسة تأثير العلاقات الاجتماعية على الصحة العقلية والنفسية، وارتباطها بأمراض معينة، فإنّها قد ساوت التأثير الواقع  على من يعانون من إدمان الكحول، والتدخين، والمصابين بأمراض السمنة وقلة الحركة، بمن يعجزون عن إقامة روابط حقيقية مع آخرين، وعام 1938؛ بدأت جامعة "هارفارد" بدراسة طويلة شملت 725 شخصاً، لتستنتج منها إجابة عن أهم سؤال يشغل البشرية: ما الذي يجعلنا سعداء؟ تمّ نشر الدراسة عام 2012، ضمن كتاب بعنوان "انتصارات الخبرة"، والذي خلصت فيه الدراسة إلى أنّ الشهرة والثروة والعمل الجيد، ليسوا سبباً في السعادة الحقيقية، بقدر ما تقدمه العلاقات القوية من سعادة لأطرافها.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن ديانة الشنتو اليابانية؟
بوستر فيلم "بحر الأشجار" للمخرج الأمريكي جاس فان سانت

السعادة ليست في المال
ربما يتَّهم الماركسيون، المروّجون لهذه الجملة، بتجهيل الشعوب، لامتصاص المزيد من الثروات لأنفسهم، إلّا أنّ الأمر يبدو واقعياً، خاصة عندما بدأت الدول الأكثر سعادة "الإسكندنافية"، بوضع مؤشر جديد للتنمية بعدما تجاوزوا نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي "GDP"، فأصبح مؤشر"رأس المال  الاجتماعي" أهم عوامل قياس التنمية في العديد من البلدان، ربما تبدو تلك الجملة أكثر واقعية، كلما ابتعدنا عن المدن وتوغلنا في الريف، أو في بعض القبائل القديمة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي يعتمد فيها الإنسان كلياً على علاقاته الاجتماعية، واتصاله المباشر مع الطبيعة، فلا يوجد عمل مكتبي يدجنه، ولا تكنولوجيا حديثة، توفر ما لذّ وطاب بضغطة زر، وهو ما أكدّته أخصائية الصحة النفسية، سلوى وقاد، في حديثها لـ "حفريات": "مع الأسف، لا يدرك الكثير من الناس أهمية العلاقات الاجتماعية لصحتهم النفسية، والتي تعمل كدور رئيس في بناء شخصيتهم، وتعزيز صحتهم العقلية، وبالتالي النجاح في العمل أو الدراسة، أو الحفاظ على التوازن النفسي، واستكمال الحياة بلا أمراض عضوية، يتسبّب فيها القلق والاكتئاب الناجمين بشكل كبير عن انعدام علاقاتنا الواقعية واستبدالها بعوالم الإنترنت، التي لا، ولن، تغنينا أبداً عن احتياجنا الغريزي لبناء جسور تواصل مع الآخرين".

اقرأ أيضاً: قصة الإسلام في اليابان
يبدو أنّ اليابان ليست وحدها، لكنّها الأعنف في العالم، في الانقطاع عن الغرائز الطبيعية للإنسان من العلاقات الحميمية إلى العلاقات الاجتماعية والعائلية، التي تشكّل عاملاً أساسياً بعد الثقافة الشعبية السائدة، في طرقهم لآخر وأسهل بوابات اليأس ولوجاً إلى "الانتحار".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية