"الأنثروبولوجيا هي العلم الذي يبحث غرابة غير الأوروبيين" طلال أسد
صورة كئيبة لأسرة نوبية كاملة من ثلاثة أجيال، الجدّ والابن وزوجته وطفلهم الرضيع، في أوروبا، في القرن التاسع عشر، لم يسافروا ليتلقوا منحة تعليمية هناك، ولا حتى ليمتهنوا أعمالاً منزلية داخل قصور الأثرياء والبرجوازيين، في عواصم النور بالقارة العجوز؛ الصورة كانت في قفص بحديقة حيوانات برلين، فقد قام الصيادون المكلّفون من قبل أهم تاجر حيوانات في أوروبا في ذلك الزمن "هاجينبج"، باصطياد حيوانات نادرة للعرض في أوروبا، وقد قام الصيادون المحترفون باصطياد تلك الأسرة النوبية من مصر، وإرسالها إلى هاجينبج في أوروبا، ليبيع حقّ العرض الحصري لهذه الأسرة النوبية -التي قتلت جدتها أثناء عملية الاصطياد- لحديقة حيوانات برلين، وقد طافت الأسرة النوبية في قفصها حدائق أوروبا فيما بعد، ليرى المشاهد الأوروبي غرابة هذه الكائنات النوبية الفريدة!
حامية الجنوب وأرض التماسيح المنزلية المدهشة
هذا المشهد القاسي، سابق الذكر في المقدمة، ربما يصبح من العسير تكراره اليوم، بعد تدشين مواثيق حقوق الإنسان، لكنّ الروح التي انبثق عنها هذا المشهد، يبدو أنّها لم تتغير كثيراً حتى اللحظة، فحتى الآن، ما تزال النوبة مادة خصبة للصحافة الأجنبية والعربية، باعتبارها أرضاً غرائبية مليئة بالأسرار المدهشة التي لا تبوح عنها بسهولة، وصاحبة تقاليد غرائبية في الزواج والضيافة والحياة، يربي أهلها التماسيح المتوحشة في منازلهم، ويتمتعون بالكرم والضيافة والنظافة الشخصية.
الشعب النوبي؛ هو من أقدم الشعوب التي عرفت في التاريخ، فقد عاش بجنوب مصر وشمال السودان على ضفاف النيل لآلاف الأعوام، وللنوبيين لغتهم الخاصة، وهم متمسّكين بها حتى الآن بجوار العربية، بالأخصّ العجائز منهم، كما أنّ النوبة ظلت حصينة على غزاتها طوال التاريخ، فلم يستطع المسلمون فتحها بالحرب، إنّما بالتجارة، وكذلك لم تستطع الحملة الفرنسية إخضاع النوبة رغم سيطرتها على الصعيد بأكمله، وقد تعرّض الشعب النوبي للتهجير القسري في ستينيات القرن الماضي، أثناء مشروع السدّ العالي، وتم نقله إلى كوم أمبو، وهو التهجير الذي بدأ منذ بدايات القرن العشرين، أثناء العمل على خزان أسوان، لمواجهة مشكلة الفيضان.
العديد من المثقفين النوبيين يرفضون إضفاء الطابع العنصري الغرائبي عليهم ويطلبون المعاملة باعتبارهم بشراً
كل هذه الأسباب بما تفتحه من طيات سياسية، إضافة إلى ما يراه زوَّار النوبة من أخلاق سائدة بين النوبيين، متعلقة بكرم الضيافة والتمسّك بالعادات والتقاليد والنظافة الشخصية، والدفء العائلي، وبزوغ أشكال فنية فريدة في هذه الأرض، جعلها محطّ أنظار دائماً، تقيم الصحف العالمية تقارير موسّعة عن غرابتها ودهشتها ومعاناتها، ولم يقتصر الأمر، في كثير من الأحيان، عند حدّ النظرة بإعجاب والدراسة الموضوعية المتفحصة، وإنّما وصل، في كثير من الأحيان، إلى محاولة إضفاء طابع الغرائبية على هذه الأرض وسكانها، وكأنّهم في قفص يشبه القفص الذي وضع فيه الأجداد النوبيون ذات يوم في حديقة حيوانات برلين.
على جانب آخر؛ كان العديد من المثقفين النوبيين يرفضون إضفاء هذا الطابع العنصري الغرائبي عليهم، ويطلبون المعاملة باعتبارهم بشراً، لهم حقوقهم وحيواتهم وأحلامهم، دون رسم تفحصهم باعتبارهم أبناء مجتمع بدائي له ثقافة بدائية فريدة، وجدير بالذكر هنا؛ أنّ التعميمات تاريخياً دائماً ما أدّت، في النهاية، إلى تعميمات عنصرية مضادّة، فرغم ما في تعميم أنّ شعب النوبة هو شعب نظيف وكريم، وخيّر، وذو طقوس غرائبية مبهجة، من صورة إيجابية، إلّا أنّ بعضهم يرى فيه خطورة عنصرية؛ لأنّه يحاول إلصاق صورة ما غرائبية على مجتمع بأكمله، دون دراسة موضوعية.
من أهم الصور المرتبطة بذلك؛ حسّ التعجب والدهشة الذي يملأ التقارير العربية والأجنبية حول تربية التماسيح المتوحّشة في منازل النوبة، باعتباره طقساً غرائبياً، في حين أنّ الأمر متعلق بسهولة اصطياد تلك التماسيح في هذه المنطقة القريبة من النيل، ومن ثمّ تربيتها لتصبح مصدر دخل جيد لعرضها أمام السائحين.
مصر في المعرض
الأمر المتعلق بمحاولة وضع النوبيين في موضع الغرابة حتى اللحظة، ومن قبل بوضعهم في القفص، لا يقتصر على النوبيين فقط، فهو ربما يكون متعلقاً بكلّ ما هو غير أوروبي، وفي حالة مصر؛ هو متعلق بمصر كموضوع، وليست النوبة وحدها، ويوضح ذلك بجلاء، أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا، المفكر تيموثي ميتشل فيقول، في مستهلّ الفصل الأول من كتابه ذائع الصيت "استعمار مصر": إنّ غير الأوروبيين وجدوا أنفسهم دوماً، معروضين أو موضوعين بشكل دقيق، كموضوع للفضول والدهشة الأوروبي، ومن ثم كان الحطّ من شأنهم سواء كان مقصوداً أو لا، نتيجة طبيعية في هذه العلاقة، ويبدو، بحسب ميتشل، أنّ هذه الوضعية تنتمي إلى مركز أساسي؛ هو الرغبة الأوروبية في الاهتمام بعرض الأشياء من أجل الفرجة عليها.
من هنا، وبالعودة إلى صلب الموضوع، فإنّ الفرق كبير بين دراسة النوبة وفنونها ومشكلاتها، وطريقة العيش الخاصة بأبنائها، دراسة موضوعية لا تميل إلى التعميم، أو إلى وضع النوبيين دائماً في وضع المعرض، وتكريس شخصية نمطية للنوبي وطريقة حياته، ومن ثم مقاربة النوبة ومشكلاتها وخصائصها، بالدهشة والتنميط.