النبطي: سردية تتجاوز التاريخ لتخترق عمق الوجود الإنساني

النبطي: سردية تتجاوز التاريخ لتخترق عمق الوجود الإنساني

النبطي: سردية تتجاوز التاريخ لتخترق عمق الوجود الإنساني


07/10/2024

كما عوّدنا يوسف زيدان بمتانة أسلوبه السردي وبرصانة لغته، وهي لغة مستعارة مفرداتها من كتب التراث، لها أصالته دون أن تكون لها غرابته أو خشونته، وتلك واحدة من سمات السرد الفريدة لدى الكاتب، غير أنّ هذه الرواية تتميز بخصوصية أخرى، وهي أنّ بطلتها فتاة لها مشاعر الأنثى بدقائقها الخاصة والسرّية، فكيف استطاع يوسف زيدان أن يقبض على المكون الأنثوي، ويسكبه على الورق بهذه الألفة العجيبة؟. 

ليست مارية البطلة فقط هي الكائن الحبري المدهش في الرواية، بل إنّ كل الشخصيات الحبرية في هذه الرواية أرواح حية تسعى، وليس هناك شك في أنّها وُجِدت وعاشت تلك المرحلة التاريخية المضطربة، وهذا تمكن كبير من الكاتب، أن يحفر شخصيته داخل تجاويف التاريخ، ويمزج حياتهم بالزمان والمكان في توليفة مسبوكة بإحكام.

مارية وجماعة الأنباط المنسية

تناول الكاتب تاريخ الأنباط وحضارتهم، وهم جماعة تاريخية منسية مع دورها الكبير في تاريخ المنطقة، ومع عظم الحضارة والآثار التي تركتها، سكنوا شمال شبه الجزيرة العربية وينتمون عرقيّاً للعرب، وأقاموا حضارة عظيمة امتدت من سيناء غرباً حتى العراق شرقاً، وضمت شمال الجزيرة العربية.

الكاتب والروائي: يوسف زيدان

تبدأ الرواية مع الشابة القبطية مارية ذات الـ (18) عاماً، التي تعيش مع أمها وأخيها الصغير في قرية مصرية من قرى الدلتا، تعاصر فترة النزاع بين الفرس والروم على حكم مصر، وتتطلع كأيّ فتاة للحب والزواج، ورغم جمالها المصري لم يتقدم لها أحد، ومثيلاتها قد سبقنها إلى الزواج بأعوام، فيساورها وأمّها القلق، حتى يتقدم لها شاب عربي مترحل من الأنباط، يأتي مع أهله للتجارة في كل البضائع، وهنا تبدأ رحلة مارية الشاقة للخروج من مصر إلى دار زوجها في شمال شبه الجزيرة العربية، ومع الرحلة نتعرف على جغرافية المكان وروح ذاك الزمان، نقاسي مع مارية غربتها ومخاوفها، تطلعاتها وأشواقها لحياتها الجديدة وبرودة زوجها، حتى تحط رحالها في ديار الأنباط. تقترب من عالمها الجديد دون أن يقترب منها زوجها، تقاسي عدّة أحاسيس باطنية مبهمة تجاه شقيق زوجها وأخته، وتبحث في أم زوجها عن أمها التي تركتها خلفها.

استغل الكاتب كل مساحات الرواية حتى يؤرخ بجانب الحكي لذلك الزمان، فلم يغفل عن تناول الديانات المنتشرة في جزيرة العرب قبل الإسلام، والأنبياء الذين ظهروا في اليمن والعراق، وفي مفارقة لا يمكن أن نتركها دون استغراب، جعل أبطال الرواية الذين هم من أسرة واحدة يدينون بديانات مختلفة، فهل عرف العرب التسامح الديني الذي لا يكتفي بالتسامح مع الطوائف العقدية المختلفة، بل يمتد ليشمل تباين الميول الروحية للأسرة الواحدة؟؛ فمارية وزوجها كانا مسيحيين قبل أن يتحولا إلى الإسلام في خضم التغيرات التي شهدتها جزيرة العرب، وحماتها كانت تعبد أوثان العرب القديمة، وشقيق أخيها كان يهودياً، وشقيقه الآخر "النبطي" كان متحنفاً، هذا الذي يمثل ضلعاً مهمّاً في الرواية، وأخذت الرواية اسمه، يتبع النبطي رؤية متقدمة وواسعة نحو الله والوجود والذكر والأنثى، ويزعم أنّ وحياً يأتيه من السماء، ويلتزم بعدم أكل اللحوم، وله آراء كانت تأخذ بها مارية، أمّا أخت زوجها ليلى، فقد كانت أقرب في روحها إلى الإلحاد.

التاريخ يحتضن الوجود 

كان المكان والزمان بطلين أيضاً في قصة زيدان، فلم يفت الروائي الرصين تسجيل روح المكان والزمان نفسيهما، حتى لتشعر أنك تعيش حياة الأبطال، ويتتابع السرد في عينيك صوراً وأخيلة، على عكس تلك الروايات التي لا يمسّ فيها النص غير سطح عينيك، تقع بعض عبارات زيدان في شغاف قلبك، وربما مشهد النهاية أصح مثال على ذلك، فقد كان أثيراً في لغته وفي حبكته...، ولأجل متانة السرد ووحدة بنيان الرواية تتغاضى عن تلك المناطق التي اكتظت بالتفاصيل المُرهقة.

لا تكمن أهمية الرواية فقط في الزاوية التاريخية التي تناولتها، ولا في إبراز دور جماعة الأنباط في التمهيد لحكم العرب لمصر، بل تمتد لتشمل رؤى وجودية عميقة حول الحياة والحب والوجود والإيمان، وقد بلور زيدان هذه الرؤى العميقة على لسان النبطي، وامتدّ أيضاً ليشمل، بتناول مختلف ومدهش ومحير، تحليل مسألة المثلية، تحليلاً لم أصادفه في أيّ من الكتابات التي تناولت هذا الأمر، تحليل يخلُّ به التلخيص، ولا يمكن الإلمام بمقصده وتفسيراته المتشظية في ثنايا الرواية، والتي يجمعها القارئ  بنفسه في النهاية، مكوناً صورة جليّة حول الحب الذي يكون طرفه رجل وامرأة بعينيهما، مهما ذاب الإنسان في هويات أخرى.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية