انتفاضة الشعب الإيراني ضدّ ثنائية المرشد الأعلى للثورة الإيرانية (المستمرة منذ أربعين عاماً، ولم تحقق أهدافها بعد)، وضد رئيس الجمهورية حسن روحاني، لا يشكّل مفاجأة لكثير من المتابعين والمحللين، والمهتمين بالشأن الإيراني، وربما كانت المفاجأة تنحصر بالتوقيت فقط؛ إذ إنّ كافة التطورات، خاصّة المرتبطة بالأوضاع الاقتصادية المتردية، وعنوانها الرئيس تفاقم البطالة ومظاهر الفساد الحكومي، واستمرار تردّي الخدمات، وتهالك البنية التحتية، وانصراف القيادة الإيرانية، لدعم بعض الأنظمة العربية ضدّ شعوبها في سوريا والعراق، وحركات انفصالية في لبنان، ممثلة بحزب الله والحوثي في اليمن، إضافة إلى الجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين، كلّ ذلك كان يتضمن إشارات بأنّ الأسباب الموضوعية لثورة قادمة موجودة.
الموت للدكتاتور خامنئي والموت لروحاني، صرخة مدوّية للشعب الإيراني، تنطلق من معاقل النظام الإيراني ومراكزه، وتنتشر لتشمل كافة مناطق إيران، وترسل هذه الصرخة رسالة من هذا الشعب وتطلعاته بأنّ هناك عصابة تجثم على صدور أمة تتطلّع للحياة الكريمة، وأنّ قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري، وصوره، وانتصاراته المزعومة في العراق وسوريا ولبنان، لا تتعدّى الصفر أمام الجوع ونقص الخدمات والتمييز في إيران، وأنّ شعارات "الشيطان الأكبر وقوى الاستكبار العالمي"، التي يردّدها مرشد الثورة لا تساوي شيئاً، ما دامت تصدر من "دكتاتور" كما يصف المتظاهرون، لكن لماذا الثورة الآن؟
قدّم روحاني ما يؤكّد انقلابه الكامل على برنامجه الذي تم انتخابه على أساسه وبدا مؤيداً للحرس الثوري الإيراني
لا يخفى على أيّ متابع أنّ الرئيس روحاني قام بكسر ثنائية الحكم الإيراني والثورة الإيرانية "المحافظون والمعتدلون"؛ إذ إنّ الـ "58%" الذين انتخبوا حسن روحاني، قبل أشهر، كانوا في انتظار ترجمة برنامجه الانتخابي، الذي يمنح أولوية شاملة للتنمية الاقتصادية، وزيادة جرعات الحريات والديمقراطية، ومحاربة الفساد والتمييز بين الشعوب الإيرانية، والمتعاكس مع برنامج المرشد الأعلى، المتشبث بتصدير الثورة تحت شعارات "الشيطان الأكبر"، وقد قدّم الرئيس روحاني، خلال الأشهر القليلة الماضية، ما يؤكّد انقلابه الكامل على برنامجه الذي تم انتخابه على أساسه، وبدا مؤيداً للحرس الثوري الإيراني، ونائباً للمرشد الأعلى، وليس رئيساً للجمهورية، بدءاً بزيادة ميزانية الحرس الثوري لأكثر من ستة مليارات دولار، مروراً بمواقفه تجاه "انتصارات" قاسم سليماني والحشد الشعبي في العراق وسوريا، ومواقف أكثر حدة مع الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان.
كما أنّ الزلازل الأخيرة التي وقعت في مناطق غرب إيران، أسهمت في انكشاف سياسات القيادة الإيرانية الداخلية، التي أكّدت أنّ غالبية الشعوب الإيرانية، بفعل سياسات القيادات الإيرانية، منذ الثورة التي لها شهادة ميلاد فقط، تعيش في القرون الوسطى، على صعيد الخدمات، في ظلّ بنى تحتية متهالكة، خلافاً للصورة التي تحاول القيادة الإيرانية رسمها بالمنظومات الصاروخية والمفاعلات النووية، ونجاحات مزعومة للحرس الثوري خارج إيران، وغزو الفضاء، في تنافس مع الدول الكبرى.
القيادة الإيرانية لا تملك حلولاً إلّا في إطار تكتيكات النظم الشمولية والدكتاتورية لإخماد الثورة حيث اعتقالات واسعة لنشطاء المتظاهرين
يدرك المتشددون في القيادة الإيرانية، وزعيمهم المرشد الأعلى، مسؤوليتهم عن الانتفاضة الحالية، وأنّها ردّ فعل على مجمل سياساتهم، منذ الثورة عام 1979، ويبدو أنّ القيادة الإيرانية لا تملك حلولاً توحي بإمكانية الاستجابة، واجتراح مقاربات تستجيب للحدّ الأدنى من مطالب المتظاهرين، إلّا في إطار تكتيكات النظم الشمولية والدكتاتورية لإخماد الثورة؛ حيث اعتقالات واسعة لنشطاء المتظاهرين، وتشديد القبضة الأمنية، وتحميل طرف مسؤولية الفشل في السياسات الداخلية، وهو رئيس الجمهورية حسن روحاني، وتياره، وإنجازه الرئيس المتمثل بالصفقة النووية، باعتبارها السبب في تعطيل مشروعات التنمية التي كان يخطّط التيار المتشدد لتنفيذها في خدمة شعوب إيران، وضرب ستار حديدي على غرار تكتيكات الاتحاد السوفيتي، بالحيلولة دون وصول الإعلام للمظاهرات، ونقل أخبارها للعالم، بالتوازي مع إخراج مظاهرات مضادة مؤيدة للمرشد الأعلى للثورة والحرس الثوري.
ربما يتم قمع الانتفاضة الحالية، كما جرى مع انتفاضات إيرانية سابقة، لكن رسالة الشعب الإيراني وصلت إلى العالم كافة، ومفادها تطلّعه للحرية والديمقراطية، وحقّه أن يحيا حياة كريمة، في دولة لديها مخزونات جبارة من الغاز والنفط، تجعلها في مصاف الدول العالمية، غير معنية بالقنابل النووية، ولا منظومات الصواريخ وتطويرها.
هذه المظاهرات كشفت عمّا يجري داخل إيران، وما هي تطلعات الإيرانيين الحقيقية، رغم محاولات وسائل إعلام وفضائيات عربية منحازة إفراد مساحة زمنية لا تتجاوز الثواني لتغطية أخبار الانتفاضة الإيرانية، وتزعم في عناوين فرعية، أنّ مئات فقط تظاهروا في مدينة مشهد الإيرانية، فيما تفرد مساحات واسعة لأخبار من نوع عدم احترام المرأة التونسية، بعد قرار خطوط الطيران الإماراتية منع النساء التونسيات من السفر على خطوط الإمارات، استناداً لمعلومات أمنية مرتبطة بمكافحة الإرهاب، فيما تنقل محطات أخرى مظاهرات الشعب الإيراني ضدّ قرار ترامب تجاه القدس، والمظاهرات المبرمجة التي تم إنتاجها تأييداً للمرشد الأعلى.