الكتاب المخطوط في عالم الرقمنة بين الواقع والمأمول

الكتاب المخطوط في عالم الرقمنة بين الواقع والمأمول

الكتاب المخطوط في عالم الرقمنة بين الواقع والمأمول


05/06/2023

تراثُ أيّ أمّة هو ما تملكه من تاريخ وحضارة، ويمثل ذاكرتها المادية والأدبية، فكلّ ما تقتنيه الأمّة من كتاب مخطوط أو تمثال أو نقش أو معبد يحكي في صمت تاريخ وحياة الأجيال السابقة لهذه الأمّة، ويُعطي الكثير لأجيالها الحاضرة، ويمدّها إلى مستقبل واعد، ويكشف الكثير من الأسرار والغموض بين دفتيها.

ويُشكّل الكتاب المخطوط جانباً مهماً من الجوانب المضيئة لهذا التراث، بما له من انتشار واسع، وسهولة في التدوين مقارنة بالنقوش وغيرها، وهو أكثر عُرضة للتلف والتآكل والتأثر بمتغيرات الزمن. ولقيمة الكتاب المخطوط والحاجة إليه للتداول بين الباحثين والدارسين ونظراً لطبيعة المواد المكتوبة بها، والمواد المكتوب عليها، تصبح الحاجة ملحة للحفاظ عليه من التلف والضياع.

ومع التطور السريع الذي يشهده عالم اليوم من تطور في التقنيات والأساليب الحديثة لحفظ واختزان المعلومات، زادت إمكانية حماية المخطوطات بأساليب وطرق جديدة تمثلت في رقمنتها وإتاحتها للمستفيدين.

وتأخذ عملية الرقمنة شكلين أساسيين:

الرقمنة بشكل صورة "Mode Image"، والرقمنة بشكل نص "Mode Texte" ولفترة ليست بعيدة نظراً لخصوصية الخط العربي المكتوب بشكل خاص، وخصوصية المخطوطات العربية بشكل عام، كان الاعتماد الأكبر على رقمنة المخطوط العربي على شكل صورة لأسباب خاصة بالمخطوط نفسه، ولأسباب أخرى تتعلق بتقنية الرقمنة بحدّ ذاتها. وكان من الصعب منذ فترة اعتماد الرقمنة بشكل نص، إلا أنّها بدأت تلوح في الأفق بوادر للتعرف على الحرف العربي، بل لقد خطت خطوات هائلة بفضل تقنية الذكاء الاصطناعي؛ حيث طور مهندسون تونسيون تطبيقاً فريداً (منصة زنكي) يستخدم أحدث التقنيات لتطوير المنتجات المتخصصة في التعرف البصري على الأحرف والكتابة (ocr) لتحويل المخطوطات العربية والكتابات اليدوية إلى نص قابل للتعديل، كما يتيح التطبيق القيام بالبحث داخل الوثائق العربية المخطوطة، وأرشيف المطبوعات العربية القديمة التي لا تتعرف عليها وسائل المعالجة الأخرى.

هدف الرقمنة هو المخطوطات والمجموعات الأصلية والنادرة، أو تلك التي حالتها المادية هشة، ولا يُسمح للمستفدين الاطلاع عليها وعلى مصادر المعلومات بشكل عام، لذلك تُعتبر الرقمنة وسيلة فعالة للحفاظ على هذه المقتنيات من الزوال

والرقمنة ـ كما عبّر د. فيصل الحفيان- ما عادت مجرد وسيط حديث لمضامين حديثة، بل أصبحت وسيطاً لا غنى عنه لمضامين تاريخية موغلة في الزمن الماضي، ومن يستعرض عمل المؤسسات العاملة في حقل التراث بمختلف صنوفه وأوعيته الوثيقة والأثر والمخطوط، يجد أنّها في حالة من الرقمنة يمكن وصفها بالاجتياح.

وتمثل عملية الرقمنة الحلقة الأولى من (3) حلقات أساسية تهدف مجتمعة إلى بناء منظومة المكتبة الرقمية، وتتمثل الحلقة الثانية في: إضافة منشورات إلكترونية جديدة (مجانية أو مقابل أجر)، والحلقة الثالثة: الربط بين المصادر الأخرى المتاحة عبر شبكة الإنترنت العالمية.

أسباب رقمنة المخطوطات العربية

هدف الرقمنة هو المخطوطات والمجموعات الأصلية والنادرة، أو تلك التي حالتها المادية هشة، ولا يُسمح للمستفدين الاطلاع عليها وعلى مصادر المعلومات بشكل عام، لذلك تُعتبر الرقمنة وسيلة فعالة للحفاظ على هذه المقتنيات من الزوال. وكذلك فإنّ توثيق المخطوطات عملية تؤدي بالضرورة إلى الإبقاء عليها، والرعاية والصيانة اللازمة لها من التلف، وضمان استمرار وجودها، على أساس أنّ التوثيق هو حفظ لذاكرة الشعوب.

تؤدي الرقمنة إلى حفظ المخطوطات من التلف والضياع، حيث تمكن تقنية الرقمنة من نقل جميع مخطوطات المكتبة على وسيط إلكتروني يساعد المستفيد في الاطلاع على المخطوطات الرقمية دون الحاجة للرجوع إلى المخطوط الأصلي إلّا في بعض الحالات الخاصة، وهذا يقلل من إمكانية تعريض المخطوطات النادرة للتلف أو الحرق أو الكوارث الطبيعية.

إنّ إتاحة المخطوطات المرقمنة على شبكة الإنترنت يُساعد الدارسين المستفيدين والباحثين للوصول إليها بسهولة، توفيراً للوقت والجهد، حيث كان المخطوط يعاني من الجدران والأرفف، بل حتى الصناديق التي يُحبس فيها، وكان الباحثون يركبون الصعب من أجل الحصول على مخطوط ما.

كما تتيح عملية الرقمنة حفظ وصيانة المخطوطات العربية، وتخزينها على الأقراص المكتنزة (CD-ROM)، ممّا يساهم في زيادة دخل المكتبات بالاشتراك على قواعد بياناتها، وتنسيق العمل العربي الإسلامي، وربط قواعد البيانات بعضها ببعض؛ لإعادة بناء المكتبات والمجموعات توفيراً للجهد، وإثراء للحياة العلمية.

متطلبات رقمنة المخطوطات العربية

1- التخطيط

يتعلق التخطيط بوضع الإطار العام للاحتياجات المطلوبة مع بيان الطرق اللازمة لتحقيق الوصول إلى أهداف محددة، ويعتبر من المتطلبات الرئيسية لعملية الرقمنة، وعادة ما يتم التخطيط لرقمنة رصيد معين في مؤسسة توثيقية. يُسند مشروع الرقمنة إلى لجنة تشرف على المشروع تُعرف باسم فريق عمل الرقمنة، والتي يجب أن تتكون من عناصر يشهد لها بالكفاءة العلمية والعملية، حيث تقوم هذه اللجنة بوضع خطة مناسبة لمراحل تنفيذ المشروع، وأبرز عناصر هذه الخطة:

- تحديد أهداف المشروع.

- دراسة الجدوى، حيث يتم فيها تحديد المتطلبات الضرورية لعملية الرقمنة (الوسائل والتجهيزات، الإطارات البشرية).

- خطة زمنية واضحة ومحددة لتنفيذ مراحل المشروع.

- تحديد الإجراءات، التي سوف تُتخذ بخصوص المشاكل التي سوف تعترض المشروع.

2- المعدات والأجهزة

* الحاسبات: حيث يتوقف نوع الحاسبات المطلوبة توفرها على المهام المطلوب إنجازها، وتتدرج من أجهزة المعالجات الصغيرة إلى أنظمة الحاسوب الضخمة القادرة على إنجاز دوال معقدة حسابيّاً على مصفوفات صور كبيرة.

* الماسحات الضوئية الإلكترونية: تتنوع أشكال الماسحات الضوئية، وينبغي معرفة الاختلافات الموجودة بينها، وكذلك إمكاناتها.

*  الماسحات الضوئية المكتبية، الماسحات الضوئية للكتب، الماسحات الضوئية الخاصة بالشفافيات، أجهزة التصوير الفوتوغرافي الرقمية، الماسحات الضوئية الخاصة بالمصغرات الفيلمية.

وفي المكتبة الوطنية الفرنسية، وفي المرحلة التي انطلقت فيها الخطوات الأولى للمسح الضوئي للحروف، ونتيجة التقنيات غير المتطورة المستخدمة في بدايات المشروع، فقد نتجت أخطاء مُرتفعة عند المسح الضوئي، خاصة فيما يتعلق بالتعرف الضوئي على الحروف القديمة، ممّا دفع المكتبة لتحمّل تكلفة إضافية لمراجعة وإصلاح الأخطاء يدويّاً، بالإضافة إلى رقمنة النصوص في شكل صور.

3- الموارد المالية:

تقوم المؤسسات المقبلة على رقمنة المخطوطات بتوفير الموارد المالية اللازمة والمطلوبة لإتمام عملية رقمنة المخطوطات، وذلك من خلال الجهات الداعمة والممولة، أو تبرعات أفراد، أو مؤسسات لها ميزانية مالية مستقلة (حكومية أو خاصة)، والتي تتمثل في:

* تكلفة القوى البشرية: الرواتب، والتدريب، والسفر والإقامة، والعمل الإضافي.

* تكلفة المعدات والأجهزة: من شراء، وصيانة، وإصلاح.

* تكلفة البرمجيات: شراء البرمجيات، وتحديثاتها، وكذلك المرافق العامة اللازمة.

* تكلفة المباني: قدرة المؤسسة على إنشاء مقر أو مبنى مختص للمكتبة الرقمية.

* تكلفة الإجراءات الفنية لتحويل المخطوطات المراد رقمنتها.

ونستعرض تجربتين ماليتين في مجال رقمنة المكتبات:

تجربة المكتبة الوطنية الفرنسية؛ فقد بلغت تكلفة رقمنة مصادر معلوماتها، والتي تمّت تحت إشراف "الهيئة العامة للمكتبة الفرنسية" اعتماد مالي بلغ (70) مليون فرنك فرنسي عام 1994م، إلى جانب التمويل الذي وفرته الحكومة الفرنسية من خلال مجموعة من القروض.

وفيما يخص المكتبة الوطنية الكندية؛ كانت المخصصات المالية محدودة بمقارنتها بنظيرتها الفرنسية، حيث بلغت ما يقرب من (7) ملايين فرنك، إلى جانب فترة زمنية قصيرة للقيام بالعمل. وهذا يوضح لنا دور العامل المادي الجوهري في الإعداد لعملية الرقمنة.

4- الكوادر البشرية:

إنّ العنصر البشري المؤهل من أهم أسس وعوامل نجاح مشاريع الرقمنة، ويختلف عدد العاملين من مؤسسة إلى أخرى، ويتوقف ذلك على عدد المخطوطات المراد رقمنتها، والموارد المادية التي تمتلكها المؤسسة، وقد تلجأ بعض المكتبات إلى إسناد الرقمنة إلى مؤسسات أخرى متخصصة في الرقمنة من الخارج، وذلك للعديد من الأسباب، أهمها:

* التكلفة المالية الكبيرة لتوفير التجهيزات الخاصة بعملية الرقمنة.

* نقص الخبرة.

* عدم توفر العمالة المؤهلة والمتخصصة في عمليات الرقمنة.

5- توفُر المخطوطات المراد رقمنتها:

توفُر المخطوطات المراد رقمنتها، ذات القيمة العلمية والتاريخية والأدبية، وإدارتها، حتى لا يصعب التحكم في المخطوطات كلما زاد عددها.

المشاكل التي قد تعترض مشاريع رقمنة المخطوطات العربية

1- حالات الحفظ الرديئة.

2- الاحتفاظ بها في المخازن، وعدم فهرستها.

3- غياب الخطط الرامية لحصر المخطوطات وتوثيقها والتعريف بها ونشرها وإتاحتها.

4- التكلفة المالية والبشرية الباهظة.

5- عدم التعاون بين المراكز والمكتبات المتخصصة في مجال رقمنة المخطوطات.

6- هناك مشاريع تنجز من قبل العاملين بالمؤسسات الوثائقية بدون تغير في الوظائف العادية للمؤسسة أو التأهيل التدريبي اللازم للقيام بعملية الرقمنة، وهذا يصعب عليها أن تقوم بأعمال الرقمنة على الوجه المطلوب.

فوائد رقمنة المخطوطات

1- توفر صوراً بجودة عالية، وخالية من آثار التشويش أو الضوضاء "Noise"، وكذلك ظاهرة التحبب "Grain" لا وجود لها في ظل الفوتوغرافيا الرقمية، لأنّ الصورة الرقمية تُنتج كما قصدت بالضبط عند الضغط على الغالق بالكاميرا.

2- تحسين المعلومات المصورة لتفسيرها وفهمها، وتداولها ونشرها.

3- معالجة البيانات المصورة، وتخزينها على أوساط مختلفة، وسهولة إرسالها من مكان إلى آخر، مع الإدراك الآلي للصورة دون مساعدة أيّ أحد.

4- اقتصاد المال؛ لأنّ نفقات التصوير الرقمي أقلّ من نفقات التصوير الضوئي (الميكروفيلم) أو التصوير الورقي، واقتصاد المكان؛ لأنّها لا تكاد تشغل حيزاً، وذلك خلافاً للأوعية الأخرى.

5- اقتصاد الترف؛ لأنّها تتيح المخطوط ـ وتحديداً النص التراثي- في أشكال متعددة يلبي حاجة العين (النص المنظور) وحاجة الأذن (النص السمعي) وحاجة من نوع آخر يندمج فيها الإنسان مع النص، وهو ما يُعبّر عنه اليوم بـ "التفاعل"، وبوساطته يقوم الإنسان بـ "التداخل" مع النص.

6- زيادة قيمة النصوص، حيث تمثل الرقمنة فرصة للاستفادة القصوى من مصادر المعلومات القيمة والنادرة، والتي قد تكون في بعض الأحيان غير منشورة على نطاق واسع.

تتيح عملية الرقمنة حفظ وصيانة المخطوطات العربية، وتخزينها على الأقراص المكتنزة (CD-ROM)، ممّا يساهم في زيادة دخل المكتبات بالاشتراك على قواعد بياناتها، وتنسيق العمل العربي الإسلامي، وربط قواعد البيانات بعضها ببعض؛ لإعادة بناء المكتبات والمجموعات توفيراً للجهد، وإثراء للحياة العلمية

إنّ رقمنة المخطوطات العربية والإسلامية وإتاحتها للمستفدين في أنحاء العالم، سوف تُحدث قفزة علمية وثقافية تساهم في الارتقاء نحو الأفضل. والعالم اليوم يعيش هاجسين -كما عبّر الدكتور فيصل الحفيان- هاجس الرقم، وهاجس الصورة، وما ثورة المعلومات والاتصالات إلّا ثمرة من ثمار الانشغال بالرقم، أمّا الحرف، فهو وحدة الكلمة التي هي قوام اللغة، وبين الرقم/ العدد، والحرف/ اللغة، ثنائية لا بدّ من امتلاكها لتحقيق الوجود الحضاري في هذا العصر.

ومن الرقم تولدت مصطلحات كثيرة منها الرقمنة، وحمل الحرف عبر التاريخ ما نسمّيه اليوم بالمخطوط.

وممّا يُؤسف له أنّنا لم نستجب كما ينبغي للهاجسين، والدليل القريب أنّنا نعاني، بل نعيش أزمة معرفية يعبّر عنها بلغة اليوم بالفجوة الرقمية، كما نعيش أزمة لغوية.

 قد تخدعنا حالة الرقمنة التي تجتاح مؤسســاتنا؛ لكنّ الحقيقة أنّها حالة ظاهرية شكلية قشــرية. أمّا المخطوط وهو موضوع الرقمنة ومادتها، فليس أحسن حالاً، فعلى الرغم من غنى التراث العربي كمّاً ونوعاً وتنوعاً، والطاقات المختلفة الكامنة في داخله، فإنّنا حتى الآن مشغولون باستكشافه والتعرف عليه، وما زلنا ندور في فلك نصوص فيه، فهرســة، وتحقيقاً أو تصحيحاً، لا نجاوز ذلك إلى ما وراءه.

إنّ العالمين العربي والإسلامي بأمسّ الحاجة إلى تكاتف الجهود نحو حفظ وصيانة وإتاحة المخطوط، والانطلاق نحو تحقيق الهدفين الآخرَين من الرقمنة، وهما: إضافة منشورات إلكترونية جديدة (مجانية أو مقابل أجر)، والربط بين المصادر الأخرى المتاحة عبر شبكة الإنترنت العالمية، وليس مجرّد مجهودات فردية منفصلة.

مواضيع ذات صلة:

-  مصير الانقراض يهدّد الكتب الورقية في عصر الرقمنة

رقمنة الإنسان أم أنسنة الآلة!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية