القوقاز: فوضى الأحلام الإمبراطورية

القوقاز: فوضى الأحلام الإمبراطورية


كاتب ومترجم جزائري
05/12/2020

للمحلّل السياسيّ أمير طاهري*


ترجمة:  مدني قصري 

ليس من المستبعد أن يؤدّي انتصار أردوغان المصغَّر على أرمينيا إلى إثارة شهيّات إقليمية، الصحف المؤيّدة للرئيس التركي تدقّ الطبول على "انتصاره في القوقاز"، وللمرة الأولى منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية، بحسب زعمهم ، "حرّر" الأتراك قطعة أرض إسلاميّة من نير "الكفار".

والأسوأ من ذلك، بالنسبة إلى الرئيس الروسيّ، بوتين، أنّ أردوغان قد أشار بالفعل إلى أنّه يعتزم تكريس فيلقه الخارجيّ من الجهاديّين لحماية "أراضي المسلمين".

شحذ أردوغان لهجة معادية للغرب، ووثق علاقاته مع منظمة الذئاب الرمادية، وهي منظمة تطمح إلى تشكيل إمبراطورية تركية تمتدّ من البلقان إلى آسيا الوسطى

من خلال المزج بين جهاديّة جماعة الإخوان المسلمين والمواضيع القوميّة التركيّة التي تذكّرنا بأنور باشا، يأمل أردوغان في استبدال رواية أتاتورك بقوميّة دينيّة.

ليس من قبيل المصادفة أن يشحذ أردوغان لهجته المعادية للغرب، وفي الوقت نفسه، يقوّي علاقاته مع منظمة الذئاب الرماديّة، وهي منظمة تتبنى مذهب الأتركة مصنّفة من قبل الاتحاد الأوروبي على قائمة "المنظمات الإرهابية"، تحلم "الذئاب الرمادية" بإعادة تشكيل إمبراطورية تركية تمتدّ من البلقان إلى آسيا الوسطى.

وليس من المستبعد أنّ الانتصار المصغَّر للرئيس التركيّ، رجب طيب أردوغان، في أرمينيا قد شحذ شهيته للغزو.

 الصحف المؤيدة لأردوغان في تركيا تبتهج بـ "الانتصار في القوقاز"، يقولون إنّه "للمرة الأولى منذ نهاية الدولة العثمانية "يحرّر" الأتراك أرضاً إسلامية من نير "الكفار"".

اقرأ أيضاً: سياسات أردوغان وحافة الإفلاس التركية

يشير الغبار الذي يسقط على المعارك الأخيرة في منطقة القوقاز ربما إلى ملامح كارثة كبرى قادمة لهذه المنطقة غير المستقرة في غرب آسيا، والتي تمتدّ من بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط.

حقائق

دعونا نتذكر الحقائق بإيجاز:

عام 2018؛ عرض الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على إلهام علييف، نظيره الأذربيجاني، مساعدته في استعادة إقليم ناغورنو كاراباخ، كانت أرمينيا قد استعادت هذه المنطقة في أوائل التسعينيات، بعد وقت قصير من تفكّك الإمبراطورية السوفيتية.

اقرأ أيضاً: أوغلو يطالب بمحاسبة أردوغان... ما علاقة قطر؟

أعدّت أنقرة برنامجاً تدريبياً وتسليحاً مكثفاً للجيش الأذري، والذي ساعدت عائدات أذربيجان النفطية الهائلة في تمويله، واعتبر أردوغان عدم اهتمام الثلاثي المكوّن من مينسك والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا إزاء الوضع القائم بمثابة ضوء أخضر؛ لذلك شجّع الزعيم التركي الجمهورية الأذربيجانية الهشة على الشروع في الحرب بمساعدة أكثر من 100  مستشار تركي و300 جهادي سوري، هم الآن أعضاء في الفيلق الأجنبي التركي.

من جانبها، اعتمدت الحكومات الأرمينية دائماً على روسيا لحمايتها، وقد فعلت ذلك منذ القرن الثامن عشر، وهذا ما جعلهم يهملون، إلى حدّ ما، أنظمة دفاعهم، خلال شهر من القتال، وجد الأرمن أنفسهم في موقف دفاعي، وقد انكسرت خطوطهم في عدة نقاط؛ اضطرت روسيا أخيراً إلى التدخل لتهدئة حالة الهيجان المميت عند الأذريين والأتراك، جمعت موسكو قادة باكو ويريفان في موسكو للتفاوض على وقف لإطلاق النار غامض، لقد توقف القتال بالتأكيد، وظلّت الأسباب الجذرية للصراع كما هي، وبالطريقة النموذجية التي تنتهجها القوى الانتهازية، انتهزت روسيا الفرصة لزيادة وجودها العسكري، وهو وجود مهم بالفعل في أرمينيا، ولكن أيضاً في أذربيجان، ونصّ الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه في موسكو على إنشاء قوة "حفظ سلام" روسية سيتمّ نشرها على خطّ وقف إطلاق النار، بما في ذلك الحدود بين أذربيجان وأرمينيا وإيران.

اعتمدت الحكومات الأرمينية دائماً على روسيا لحمايتها، وقد فعلت ذلك منذ القرن الثامن عشر، وهذا ما جعلهم يهملون، إلى حدّ ما، أنظمة دفاعهم

في النهاية، أصبحت مكاسب الأذريين ضعيفة؛ ما يزال معظم الجيب المتنازع عليه، ولا سيما عاصمته ستيباناكيرت (خان كاندي في أذربيجان) خارج سيطرتهم، في حين انتقل جزء كبير من أراضيهم، لا سيما الطريق الذي يربط أذربيجان بجيبها "المتمتع بالحكم الذاتي" في ناخيتشيفان، إلى السيطرة الروسية.

استشارة موسكو

خسرت أرمينيا ستّ مستوطنات، وفرّ على الأقل نصف السكان الأرمن في ناغورنو كاراباخ، وفي معظم الأوقات بعد حرقِ المنازل والقرى، والأسوأ من ذلك؛ أنه سيتعيّن على يريفان، من الآن فصاعداً، استشارة موسكو، والامتثال لرغباتها، حتى قبل أن تتخيل الانتقام.

الرسالة واضحة: القوقاز، التي كانت محمية لمدة قرنين من الزمان، أصبحت الآن جليداً روسياً مرة أخرى.

كلّ هذا يذكرنا بتدخلات روسيا بين بعض "جيرانها"؛ لقد ضمّ بوتين شبه جزيرة القرم، وبنى حصنًا في دونيتسك بشرق أوكرانيا، وضمّ الجيب الجورجي لأوسيتيا الجنوبية، ومنح لنفسه معقلاً آخر في أبخازيا، وله معقل مماثل في شرق مولدوفا، وهكذا فإنّ تعزيز النظام العسكري الروسي يسبّب مشاعر الهلع في لاتفيا.

لكن ليس من المستبعد أن يكون بوتين أحد الخاسرين الكبار في هذه اللعبة المميتة.

اقرأ أيضاً: عقوبات أوروبية مرتقبة على تركيا... هل يجني أردوغان ثمار "أعوام الفوضى"؟

هكذا، لا يُستبعد أن يكون الانتصار المصغّر الذي تحقق في أرمينيا قد أثار شهية أردوغان الإقليمية، الصحف المؤيدة للرئيس التركي تقرع طبول "انتصاره في القوقاز"، وللمرة الأولى منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية، بحسب زعمهم، "حرّر" الأتراكُ أرض الإسلام من حكم "الكفار".

اقرأ أيضاً: تركيا تدفع ثمن سياسة أردوغان للنمو بأزمة اقتصادية

 بعد 48 ساعة من وقف إطلاق النار، طلب أردوغان من البرلمان التركي السماح له بإرسال قوة استكشافية إلى أذربيجان، ويؤدي الوجود العسكري التركي في منطقة القوقاز إلى ارتفاع مخاطر المواجهة بين موسكو وأنقرة، وهي مواجهة تضاف إلى النزاعات القائمة بالفعل في سوريا وليبيا وكوسوفو.

حماية "أراضي المسلمين"

والأسوأ من ذلك، بالنسبة إلى بوتين، أن أردوغان أعلن أنّ فيلقه الخارجي من الجهاديين سيكون له دور في حماية "أراضي المسلمين"، وفي هذا الشأن نقلت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية، الصادرة عن خبراء عسكريين روس، حذرَهم من الصلات التي يمكن أن يقيمها أردوغان مع التتار، غير الراضين عن ضمّ شبه جزيرة القرم من قِبل روسيا؛ لذلك ففي الآونة الأخيرة، قام الأتراك ببسطِ السجادة الحمراء لشخص يدّعي أنه آخر ممثل لسلالة التتار، ديفلت جيراي، الذي احتلّ عرش القرم وحكم باغشي- ساراي في العصور الوسطى (تم ترحيل تتار القرم إلى سيبيريا من قبل ستالين، ولكن سُمِح لهم بالعودة تحت حكم خروتشوف في أواخر الخمسينيات).

اقرأ أيضاً: أتراك غاضبون من "بيع" بلادهم لقطر.. وأردوغان: لماذا أنتم منزعجون؟

المنطقة تعج بأراضٍ مسلمة يجب "تحريرها"؛ حيث يسيطر "الكفار" الروس على داغستان، وشيشينيا، وإنغوشيا، وشاركس- قراشاي، ناهيك عن جمهوريّتَي تتارستان وباشكورتوستان الأكثر اكتظاظاً بالسكان.

قد يؤدي طموح أردوغان إلى تهديد وجود أرمينيا، فلم يغفر الأتراك أبداً للأرمن انحيازهم لروسيا خلال الحرب العالمية الأولى، التي طعنوا فيها ظهر الإمبراطورية العثمانية، ليس من قبيل المصادفة إذا أعادت أنقرة إحياء ذكرى ما تسمى "خانات إيرفان" (يريفان بالأرمينية)، وهي دولة صغيرة يحكمها خان تركي نصّب نفسه حاكماً، والتي تمتعت بوجود قصير خلال فترة الانهيار الإيراني تحت حكم القاجاريين.

اقرأ أيضاً: عمليات التطهير كديناميكية للحفاظ على الولاء لأردوغان

من خلال مزج جهاديته الإخوانية مع موضوعات الأتركة التي تذكرنا بأنفر باشا، يأمل أردوغان في استبدال رواية أتاتورك بخطاب قومي ديني، وليس من قبيل المصادفة أنّه شحذ لهجة معادية للغرب، وأنّه يوثق علاقاته مع منظمة الذئاب الرمادية، وهي منظمة تطمح إلى تشكيل إمبراطورية تركية تمتدّ من البلقان إلى آسيا الوسطى، والتي يعتبرها الاتحاد الأوروبي "منظمة إرهابية"، في كتابهم المرجعي "الزنابق البيضاء" The White Lilies، تُدمِج الذئابُ الرمادية الفنلنديين والهنغاريين ضمن الإمبراطورية، لأنهم يعتبرونهم من الأتراك.

اقرأ أيضاً: ديكتاتورية أردوغان: السجن 17 عاماً لصحفي تركي بسبب مقال

يمكن للاضطراب الذي أحدثه بوتين وأردوغان في منطقة القوقاز أن يُنعِش النشاط الأرمني، ويوجد 12 مليون أرمني في العالم، بينهم أكثر من 3 ملايين في روسيا، وهناك بالفعل إشاعات قد انتشرت عن "متطوعين" قادمين من مختلف أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، سيذهبون لمحاربة "العدوّ التركي".

اقرأ أيضاً: بعد أن ضعف سياسياً.. أردوغان يلجأ لصراع الحضارات لإنقاذه

قبل عشرين عاماً، عاد الصرب والكروات من الشتات إلى البلقان للدفاع عن أراضيهم، على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود، وحتى سقوط الإمبراطورية السوفيتية، ظلّ الجيش السرّي الأرمني لتحرير أرمينيا (ASALA) شوكة في خاصرة تركيا وروسيا.

وماذا عن إيران في هذه القضية؟ لقد فقد الملالي حدودهم مع أرمينيا، وأصبحت روسيا جارة لهم مرة أخرى.

 كشفت الحلقة الأخيرة أنّ الجمهورية الإسلامية ليست لديها حكومة مناسبة بالمعنى الطبيعي للكلمة، فهي تقف كمتفرج غير مكترث في مواجهة "الوحوش الكبيرة" التي تتقاتل.


هامش:

*أمير طاهري مدير تحرير سابق لصحيفة "كيهان" اليومية في إيران، من عام 1972 إلى عام 1979، وقد عمل أو كتب لعدد لا يحصى من الصحف، ونشر أحد عشر كتاباً، وهو كاتب عمود في "الشرق الأوسط" منذ عام 1987

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

fr.gatestoneinstitute.org



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية