انعكست سياسة بعض المنابر والوسائل الإعلامية الموجهة بتوظيف الشيخ أو رجل الدين بما يخدم مصالحها، والنموذج الأكثر استبداداً من هؤلاء من تحوّل مع الزمن، إلى "فتوّة دينية" كما يصف المصريون رجل الشارع القوي، بما يشير إلى "المستبد العادل"؛ وهو ما يقود إلى يوسف القرضاوي، بفوضى فتاواه ذات الطابع السياسي والذرائعي التي يحاول أن يوهم الجميع بعدالة القضايا التي تخدمها.
سيرة إخواني بضيافة قطرية
يعد يوسف القرضاوي قديماً في "سوق الفتاوى"، فابن قرية "صفط تراب" التابعة للمحلة الكبرى بمصر، والمولود العام 1926، له من المؤلفاتِ الدينية والرسائل الفقهية ما يزيد على 170 مؤلفاً من أبرزها "موجبات تغير الفتوى" و "فتاوى معاصرة"، كما أنّه انتمى مبكراً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وتعرّض للسجن العام 1949 خلال العهد الملكي بعد اغتيال النقراشي باشا، رئيس وزراء مصر وأحد رموز ثورة 1919، بعد قيامه بحلّ جماعة الإخوان العام 1948.
سيرة القرضاوي الحافلة بالمناصب منذ إقامته بقطر وحصوله على جنسيتها أخرجته شيئاً فشيئاً من سياقه الفقهي
وكانت جماعة الإخوان، أعلنت عن نفسها من خلال العنف في فترة الأربعينيات من القرن الماضي، وبدأت مسيرتها بتكفير المجتمع، وإحراق مرافق عامة، خلال الثلاثينيات والأربعينيات، مما تسبب بسجن الكثير من شبابها؛ حيث أعيد اعتقال القرضاوي عام 1954. وتوجه بعد ذلك إلى دولة قطر في 1961، ليستقر هناك، ويحصل على مناصب عديدة، بدأها كعميدٍ للمعهد الديني الثانوي، وبعد أن أنشئت في العام 1973 كليتا التربية للبنين والبنات نواة لجامعة قطر، نُقل إليها ليؤسّس قسم الدراسات الإسلامية ويترأسه.
وخلال العام 1977، تولّى القرضاوي تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، كما أصبح المدير المؤسس لمركز بحوث السنة والسيرة النبوية بالجامعة نفسها، وما يزال قائماً بإدارته، إضافةً إلى ترؤسه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حتى اليوم.
وتبدو سيرة القرضاوي، منذ إقامته في دولة قطر وحصوله على جنسيتها، سيرةً حافلةً بالمناصب، أخرجته شيئاً فشيئاً من سياقه الفقهي الإسلامي، لتجعله في قلب الإسلام السياسي، بما يتناقض مع رأيه الشهير حول هذه المسألة؛ حيث يرى أنّه "لا يجوز الخلط بين الحركات الإسلامية والإسلام ذاته، فنقد الحركة لا يعني نقد الإسلام وأحكامه وشرائعه، ولقد عصم الله الأمة أن تجتمع على الضلال".
ناجح إبراهيم: الرسالة الأساسية هي الدعوة إلى الإسلام وحب الله وليس تكفير البشر
ويناقض القرضاوي رأيه هذا بكل وضوح، وذلك بانتمائه الشخصي خلال عقود لجماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي أثّر عليه وعلى فتاواه، إضافةً إلى تولّيه المناصب وتلقيه الجوائز من دولة قطر، ما جعله "مثلاً" لمن يريد الاقتداء برجلٍ يفتي بحسب الحدث السياسي، وفقاً للدولة التي تضمّه وتجزل له العطاء.
وفي مقالته المنشورة بتاريخ 22 أيلول (سبتمبر) 2017، يقول الدكتور والباحث رفعت السعيد في صحيفة "الأهرام" المصرية "بينما كانت قطر تضم أكبر قاعدة عسكرية أمريكية مدججة بأحدث الأسلحة والعتاد والتكنولوجيا العسكرية، كان القرضاوي هو الوجه الشرعي والفقهي لقطر وقناة الجزيرة، والذي لم ينطق بحرف واحد ضد هذه القاعدة"، وهو ما أسس فيما بعد لدمج جماعة الإخوان بالسياسة القطرية.
وتتمظهر فكرة الاستبداد بالرأي الديني، من خلال إبقاء القرضاوي، ضيفاً على برنامج "الشريعة والحياة" الذي تبثه قناة الجزيرة القطرية منذ سنوات، إضافة لمنصبه في اتحاد علماء المسلمين؛ إذ قال القرضاوي العام 2004 إنّ الاتحاد "تشكل ليكون منصةً شرعية للشعوب المسلمة، وليس منصةً حكومية أو تمثل مصالح الحكومات"، غير أنّ مقر الاتحاد في قطر، وأعضاءه، الذين يحمل معظمهم الجنسية القطرية وينتمون لجماعة الإخوان كصفوت حجازي مثلاً، جعلوا من الاتحاد نقطةَ انطلاقٍ لخدمة مصالح الدوحة، وذراعها التي تتدخل في الشؤون العربية؛ جماعة الإخوان المسلمين.
تكفير وتسييس وعنف
وكثمنٍ لسيرته الفردية، الحافلة بالعطايا والمناصب، التي لم تسهم في مسيرة تطور مقاصد الشريعة الإسلامية بكل حال، ولا قدمت رسائل مؤثرة لجموع المسلمين، بدأت فتاوى يوسف القرضاوي، تنحو منحىً سطحياً، يجرد النص من قيمته وعلله، ويحمله مقصداً سياسياً، وكان من أغرب فتاواه، تكفير الطوائف الدينية الأخرى؛ حيث كفر الشيعة في مناسبة له اعتلى فيها المنبر العام 2013، ثم أتى في العام ذاته خلال برنامج الشريعة والحياة، ليتهمهم أنّهم يكفرون الآخرين.
القرضاوي يكفّر الشيعة:
القرضاوي يتهم الشيعة أنّهم يكفرون غيرهم:
ويرى رئيس مجلس الجماعة الإسلامية السابق في مصر، الدكتور ناجح إبراهيم، أنّ "أكبر كارثةٍ حلّت بالعقل الإسلامي، هي دعاوى وفتاوى أسهمت بتمزيق الأمة العربية من جهة، والإسلامية من جهةٍ أخرى، بتركيزها على مصالح الجماعات والدول، وادعاء كل منها أنها تمثل الدين الصحيح".
وقال إبراهيم لـ "حفريات": "لقد نسي هؤلاء من الجماعات الإسلامية ومفتيهم، أنّ الرسالة الأساسية هي الدعوة إلى الإسلام وحب الله، وليس تكفير البشر، وحصر مهمة المفتي والجماعة في إخراج شخصٍ ما عن الإسلام بسبب قولٍ أو فعل".
ويؤكد إبراهيم أنّ هذا أسهم بجعل الجماعات "تتخذ من فكرة أنّها تمتلك وحدها الحق والدين الصحيح، قاعدةً للعنف ومحاولة تجنيد الناس، والاستئثار بالسلطة وتوجيه الرأي العام".
فتاوى بين التناقض والتحريض
ولا يبتعد القرضاوي عن هذا الطريق، فهو صاحب الفتوى الشهيرة من منصة "الشريعة والحياة" في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، حين أجاز أن يقوم "شخص بتفجير نفسه حتى لو كانت هنالك خسائر مدنية، وذلك بحسب رغبة الجماعة". وكانت الفتوى السريعة هذه، رداً على سؤال مقدم البرنامج عن خصوصية الحالة السورية وجواز العمليات الانتحارية فيها.
ولا يتورّع القرضاوي عن الاستعجال، وشرعنة العنف والقتل من خلال إجازةٍ جماعية تبرر هذه "الجرائم"، ولا يعود إلى وقائع سياسية أو دينية أو أصولٍ من نص القرآن أو السنّة، بل يقوم مباشرةً بالإجابة عن سؤالٍ يبدو "جاهزاً من قبل"، بينما الإجابة تقوم على رسالةٍ موجهةٍ إلى المسلحين في سوريا، لارتكاب الفظائع دون وازعٍ إنساني أو أخلاقي.
فتوى التفجير:
والقرضاوي، على هذه الحال منذ انطلاقة "الربيع العربي"، فهو يذكي الحرب في سوريا، ويفتي بعدم جواز الخروج على الحاكم إبان حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي، ثم يصف الجيش المصري بـ"الخوارج"، بعد سقوط حكم الإخوان مجيزاً محاربتهم، وكان قبلاً دعا لقتل القذافي قبل "الربيع العربي" بسنواتٍ قليلة، عدا أنّ أحداً لم يسمعه يكفّر الشيعة، أيام التحالف القطري مع حزب الله حتى العام 2008 أو 2009.
كما إنه، عمل كأداة في دعم مشاريع تركيا والعلاقات القطرية الإخوانية، فبحسب ما نقلت صحيفة "رأي اليوم" في مقال لإفرايم هراره بتاريخ 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، فإنّ القرضاوي أفتى لوسائل الإعلام "اتحاد فقهاء الإسلام أعلن أن الخلافة يجب أن تتشكل في اسطنبول؛ لأنها عاصمة الخلافة (…) تركيا الجديدة هي التي تدمج بين الدين والدولة، الشخص الذي أحدث ذلك في تركيا هو رجب طيب أردوغان؛ هو القائد الذي يعرف الله ويعرف نفسه ويعرف شعبه".
ولم يكتفِ القرضاوي بهذا الزج للدين في السياسة، خدمةً لمصالح الحليف التركي للإخوان ودولة قطر؛ بل حث المسلمين إبان الاستفتاء الرئاسي التركي في نيسان (إبريل) 2017 لدعم "أمير المؤمنين" أردوغان، وفق ما صرح به آنذاك.
في 2015 أجاز القرضاوي أن يفجر شخص نفسه حتى لو كانت هنالك خسائر مدنية بحسب رغبة الجماعة
ولم يتوّرع القرضاوي عن تقديم نفسه مفتياً عن جماعة الإخوان، لإذكاء نيران الأزمة الخليجية، بعد وجود أكثر من تصريح، حول مشاركته في قضية "تدويل الحج"، كورقة ضد المملكة العربية السعودية، وفقاً لما تم تناقله بين وكالات الأنباء في مطلع شباط (فبراير) 2018، وبحسب ما نقله موقع "الأمة" في السادس من الشهر ذاته، أنّ "القرضاوي أسهم باجتماعات مع اللجنة الماليزية المزعومة آنذاك إضافة لممثلين إخوانيين من دول عدة لطرح ملف تدويل الحج".
ولا يخفى أن مشروع "تدويل الحج"، هو مشروع إيراني استيلائي، وجد منذ عقود، ليحاول فصل المملكة العربية السعودية، عن دورها الديني ضمن الأمة العربية الإسلامية.
وما يزال القرضاوي لا يتورع عن فرض استبداده الديني من خلال الفتوى السياسية التي تخدم مصلحة دولة قطر، بعد مسيرة طويلة وصلت عصر التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي، لتكون أداةً سياسية، تُتهم بحماية الإرهاب وتوظيفه، وتقود الدين ليصبح سلاحاً للصراع بين البشر، بدلاً من دوره الأول والأخير، الكامنِ في خلقِ حياةٍ أفضل للإنسان.