الفالنتاين: أيهما تختار.. الهدايا أم إتقان فن الحب؟

الفالنتاين: أيهما تختار.. الهدايا أم إتقان فن الحب؟


14/02/2021

"إن رأيت هذا الرأس مليئاً بالسعادة، ومتخماً بالفرح كل ليلة وكل نهار، فاعلم أن أصابع الحب قد لامسته"؛ هكذا تكلم جلال الدين الرومي، وقال أبو حيان التوحيدي: "الحب سعي إلى الاكتمال بالآخر"، وهو، كما أظن، سعي لا يتوقف ولا ينتهي ولا يبلغ الكمال. هكذا، يلتقي الفكر الفلسفي والتصوف الديني في حقيقة أنّ الحب يتجاوز نواته الطبيعية الأولى، يتجاوز حب الرجل للمرأة وحب المرأة للرجل، لحفظ النوع، إلى معنى السعادة، باعتبارها غاية جميع الغايات التي يسعى الأفراد إلى تحقيقها، وليس من سعادة ممكنة إلا في مجتمع هو فضاء من الحرية، يأخذ منه كل فرد بقدر ما يضع فيه من ذاته معرفة وعملاً وفكراً وفناً، كما يقول جاد الكريم الجباعي.

 

الامتلاء بالحب يحقق السعادة، ويحقق الامتلاء بالذات الفردية وينمي إدراكها لذاتها ويحدد من ثم إدراكها للعالم والمجتمع والإنسان

 

ما تقدم يطرح سلسلة من الأسئلة، منها: هل سيتوقف إطلاق النار، في جميع الجبهات، في جميع البلدان، التي تحتفل بعيد الحب، يوم الرابع عشر من شباط؟ وهل ستشرع الدول في تسريح جيوشها وتدمير أسلحتها، فتتوقف صناعة الكراهية والاتجار بها؟ وهل ستفتح جميع المعابد أبوابها ليصلي في أي منها مؤمنون يدينون بديانات مختلفة، باعتبارها بيوت الله؟ هل سنكف، نحن، السوريين والسوريات، عن كوننا موالين ومواليات نكره المعارضين والمعارضات ونخوّنهم/ـن، ومعارضين ومعارضات نكره الموالين والمواليات ونخوّنهم/ـن؟ هي ستطوي العشائر والإثنيات والطوائف أعلامها وراياتها، وتعتذر عن طيشها، وتفرج عن سجنائها؟ .. ألف هل وهل، تقول كلها: متى يكون الحب ممكناً، أو متى تكون السعادة ممكنة؟

اقرأ أيضاً: الحداثة والحب: كيف تغيرت الهندسة الاجتماعية؟

يبدو أنّ فزعة العواطف يوم عيد الحب لا علاقة لها بالحب، فلعلّها تتعلق بالسوق ومنطق السوق وتقاليد السوق أكثر مما تتعلق بالحب ومنطق الحب وتقاليد الحب؛ منطق السوق الرأسمالية تعبير صارخ عن تشييء الإنسان، أما منطق الحب فهو سعي الإنسان إلى استعادة إنسانيته، من طريق السعي إلى "الاكتمال بالآخر".

 

غياب الحب عن حياة الأفراد والمجتمعات كغياب القانون في الحياة العامة فالحب ناظم للعلاقات الإنسانية، ومحفز للعمل والإبداع والمعرفة والثقافة

من المؤكد أنّ السوق الرأسمالية تنتج، في البلدان غير الديمقراطية خاصة، كائنات سوقية ومعرفة سوقية وثقافة سوقية، فما الذي يمنعها من إنتاج حب سوقي؟ وفق التقاليد السوقية يمكن للشخص أن يحتفي بعيد الحب، ويشتري لصديقته أو خطيبته أو زوجته أجمل هدية وهو يكره جيرانه أو زملاءه المخالفين لمعتقداته الدينية وغير الدينية والمخالفين لآرائه السياسية، ويكيد لهم، ولا يتوانى عن إيذائهم.

في ظل الديمقراطية فقط يمكن أن يكون الحب سعياً إلى الخروج من السوقية، وثورة عليها.

فقد لاحظ "أريك فروم" في كتابه "فن الحب"، أنّ جميع محاولات الحب مقضي عليها بالفشل، من دون محاولة أكثر فعالية لتطوير الشخصية الكلية، فذلك الإشباع للحب الفردي لا يمكن الحصول عليه بدون مقدرة على محبة الجار، وبدون التواضع الحق والشجاعة والإيمان والنظام. وعندما تكون هذه الصفات في ثقافةٍ ما نادرة، فإنّ تحقق القدرة على الحب تظلّ نادرة".

اقرأ أيضاً: من الكراهية إلى الحب.. ثلاث حكايات

التفاصل الاجتماعي والكراهية المتبادلة بين الذوات الهووية والجماعات الهووية، (العائلية والعشائرية والإثنية والمذهبية)، كما هي الحال في سوريا وغيرها، اليوم، والتفاوت الاجتماعي أيضاً، كلها تخمد قدرة الفرد على الحب، وتجعل من الحب مغامرة فردية بائسة قد تكون عواقبها وخيمة، كما في رائعة شكسبير: روميو وجولييت، أو رائعة طه حسين: دعاء الكروان، وغيرهما. المجتمعات المفككة تعاني من عوز أخلاقي أساسه عدم القدرة على الحب.

تتقاطع مقولة "الرومي" مع فكرة "فروم" عن الحب، فالامتلاء بالحب يحقق السعادة، ويحقق الامتلاء بالذات الفردية وينمي إدراكها لذاتها، ويحدد، من ثم، إدراكها للعالم والمجتمع والإنسان، فيصير الشعور بالحب تعبيراً عن الشعور بالسعادة ويصبح الفرد مترفعاً عن الابتذال والسوقية وسيطرة الأشياء المادية التي سلّعت الحب وشيأته وقولبته في قالب صامت، لا يتحدث، كالدببة الحمراء التي أصبحت تقليداً سائداً في عيد الحب في بعض المجتمعات، ورمزاً من رموزه التي ابتكرتها السوق الرأسمالية للسيطرة على المشاعر الإنسانية والتغول عليها.

اقرأ أيضاً: الفلاسفة والحب.. هل كانوا عاشقين ناجحين أم فاشلين؟

ليس هذا فحسب، إنما تأدلج الحب وتأطره بقالب ثابت عندما حُصر بيوم واحد في العام، وعندما خُصص للعشاق فقط، في ظل تزاحم السلع والرمزيات المهيمنة على الوعي الجمعي، وتسليط الضوء عليها لتصبح جزءاً أساسياً من حياة الأفراد، فيكتسب الرمز قيمته من مفهوم مشترك يتداوله الوسط الاجتماعي لما يحمله الرمز من معانٍ تعبّر عن المشاعر الإنسانية، فأي مشاعر تحملها تلك الدمية الصامتة، وأي حب تحمله تحت الغلاف البلاستيكي والربطة الملونة؟

غياب الحب عن حياة الأفراد والمجتمعات؛ كغياب القانون في الحياة العامة، فالحب ناظم للعلاقات الإنسانية، ومحفز للعمل والإبداع والمعرفة والثقافة، يتجه دوماً نحو الاتساع والانفتاح على الآخر المختلف والأخرى كذلك، لا يميّز بين رجل وامرأة، أو شاب وكهل، أو لون وعرق ودين، فلو تربت المجتمعات في الدول المتنازعة على الحب لما وصلت بها الحال إلى القتل والتدمير والتهجير، كما هو الحال في سوريا ولبنان وغير مكان من العالم، ومع هذا كله، أسواقها تعج بالدمى الحمراء التي تعبر عن الحب من وجهة نظرها.

 

إذا كان الحب امتلاء وإدراكاً للذات الإنسانية، فهل أصبحت الذات البشرية مشكوكاً في انتمائها إلى الحب وسط هذا الكره المتجلي في الحروب والتعصب والتطرف

 

تقول "إيلنا فرات" في كتابها "الصديقة المذهلة": ".. من دون حب ليست حياة الأشخاص فقط فقيرة، إنما حياة المدن أيضاً"، ونضيف على ذلك: سيظل العالم بأكمله فقيراً ما دام مفتقراً إلى الحب، فقيراً من العدل ومن التسامح ومن الجمال. من يحمل الحب قد يحمل الكراهية، فلا يكون الحب مطلقاً ولا الكراهية أيضاً، لكن الحب أقوى وأعمق، ويستطيع أن يتغلب على مشاعر الكراهية، بل يستطيع أن يحولها إلى محبة بالعقل الذي يكونه الحب، وإلى احتواء لسلوك الآخرين والأخريات.

إذا كان الحب امتلاء وإدراكاً للذات الإنسانية، فهل أصبحت الذات البشرية مشكوكاً في انتمائها إلى الحب وسط هذا الكره المتجلي في الحروب والتعصب والتطرف الديني والسياسي والاجتماعي، ووسط هذا التسليع للمشاعر الإنسانية؟

ليس هناك جواب أصدق من مشهد أطفال حفاة يبيعون الجوارب أو غيرها في شوارع المحافظات السورية ليحصل أحدهم على مبلغ زهيد من المال قد لا يكفيه لشراء عشاء ليلة، أو مشهد نساء مسنات يتسولن ثمن الدواء، وليس هناك جواب أصدق من خطاب الكراهية الذي يتردد على مسامعنا كل يوم إضافة إلى هدر الطاقات البشرية في الحروب، وهدر الكرامة الإنسانية بالتعصب والكراهية، وانتهاك حقوق الإنسان، وحقوق الطفولة، ومبادئ العدالة الاجتماعية.

فلنرمِ جميع الهدايا في سلة المهملات ونتقن فن الحب.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية