يبيعونك ما لا يلزم، ويقرأون لك طالعك، مدّعين بأنّهم يعرفون عنك أكثر مما تحيطه بنفسك. هذا ما تبقى تقريباً من الغجر اليوم، وفي تجمّعاتهم الصغيرة بين المدن، أو في أي بقعة فارغة، يعيشون كبشرٍ قابلين للرحيل في كل لحظة، بلا أرضٍ يتمسكون بها، ولا لغة ثابتة، أو أصول تربطهم بمكان محدد.
تاريخياً، تعتبر "الغجري أو gypsy" تسميةً عرقية أُطلقت كدلالةٍ على مجموعةٍ من البشر قدموا لأوروبا خلال العصور الوسطى لتطلق عليهم هذه العبارة التي تعني "فرداً من عرقٍ جوال"، وتتحدث مصادر تاريخية أنّ أصولهم تعود إلى شرق الهند؛ حيث انتقلوا من هناك، كجوالين أو رحالين، ليعرفهم العالم، لكن هذه التسمية العرقية، لا تنطبق على طبيعة حياتهم القائمة حتى اليوم، المتأرجحة بين الماضي والحاضر، وبين مجتمع الدولة، ومجتمع اللادولة، وعدم وجود ارتباطٍ عرقي لهم بمكانٍ أو زمان.
الغجر ليسوا مسجلين في التاريخ ضمن طوائف دينية ولا كمحاربين خاضوا حروباً معروفة
رواية أخرى يراها المؤرخون، تردّ أصل الغجر الى طائفة كانت تُسمى "Athinganoi" بالإغريقية، وتعني بالعربية: "الذين لا يُلمسون"، وهم طائفة فارسيّة تتكوّن من السحرة والعرّافات كانت قد قدمتْ إلى هيلاس Hellas اليونانيّة في القرن الثامن الميلادي كما هو مكتوب في مقالةٍ عن الغجر بموقع إيلاف، منشورة بتاريخ 6 أيلول (سبتمبر) 2005.
وكما يرى أنجوس فريزر، مؤلف كتاب الغجر، الصادر في بريطانيا العام 1995، فإن الغجر الذين بدأنا نتعرف إليهم بصورةٍ أوضح بعد الحرب العالمية الثانية يشكّلون حالةً مختلفة كونهم "من خلال أسلوب حياتهم، يناضلون ضد النبذ وضد الإدماج بالمجتمعات أو الدول في ذات الوقت"، وهم بطبيعتهم التي تبدو أقرب إلى البداوة كونهم جوالين، وحاجتهم الدائمة إلى حرية التنقل دون أوراقٍ ثبوتية أو انتماءٍ عرقي أو سياسي أو ديني محدد، يبدون عالقين بين ماضي العالم وحاضره، وخارجين في ذات الوقت عن تصنيفاته الكبرى.
تتحدث مصادر تاريخية أنّ أصولهم تعود إلى شرق الهند حيث انتقلوا من هناك كجوالين أو رحالين
الغجر أيضاً، ليسوا مسجلين في التاريخ ضمن طوائف دينية، ولا كمحاربين خاضوا حروباً معروفة؛ كمجموعة بشرية، أو مرتزقة مثلاً، ويذكر سجلّ الحرب العالمية الثانية أنّ الألمان كانوا يستخدمون الغجر الذين يقبضون عليهم في أوروبا كمادة دعائية للسخرية والتسرية عن الجنود؛ حيث تظهرهم الصور وهم عزّل وصامتون، وغير معنيين بالحرب ونتائجها أو وضعها، كضحية لمن يشاء، رغم أنهم كانوا أثناء الحرب يتنقلون مبتعدين عن أماكن القتال حفاظاً على حياتهم.
وانتشرتْ في أوروبا نظرة جمالية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حولهم، يشير إليها أستاذ اللغة الإيطالية في الجامعة الأردنية محمود جرن بقوله لـ "حفريات": "اعتُبر الغجر حينها أقرب إلى الطبيعة"، وذلك يعود برأيه إلى أنهم لم ينخرطوا في الحياة الاجتماعية للفرد بمتطلباتها الحديثة، إنما بقوا "يعيشون لأجل يومهم، محاولين تحصيل القوت اليومي، وغير مرتبطين بعقدٍ اجتماعي من أي نوع، سوى ذاك الذي يخصهم، ولم يسعوا نحو تطور أفرادهم اجتماعياً واقتصادياً وما إلى ذلك".
وفي الوطن العربي، للغجر وجود كما في باقي أنحاء العالم، وذلك في الأردن ولبنان ومصر والمغرب العربي ودولٍ أخرى، وهم هنا، يبدون عرباً بالأسماء واللغة؛ إذ يتمتعون بالتلون وفق البيئة المحيطة بهم، لكنهم يحافظون على ما يميّزهم، ليس كأقلية منغلقة، إنما على ما يضمن لهم استمراريتهم، فهم في البقع التي يبنون عليها خيامهم، ويتركون فيها دجاجهم ليسرح بين خردواتهم، يقومون بالتعامل بين بعضهم وفق عادات معينة، منها مثلاً لغتهم العالمية التي تشربت من لغات القوميات المختلفة.
والمميز بشأن لغتهم أنّها مفهومة بين الغجر أياً كانوا موجودين، ورغم أنّ تقسيماتهم لا تثبت شيئاً بشأنهم؛ حيث يتوزع شعوب الغجر بشكل أساسي إلى الرومن والنوار والكاولية والدومر، وبعضهم يتكلم لغة مشتركة قد تكون من أصل هندي، وبعضهم لهم ثقافة وتقاليد متشابهة، إلا أنّهم بمجرد التقائهم يستطيعون التحدث والتفاهم، ولا يبدون مختلفين إلا بشأن أشكالهم الخارجية فقط، ذلك إنهم لا يملكون أضرحة أو صروحاً ولا أماكن عبادة تجعلهم يختلفون.
ومن العادات الغجرية أنّهم يحرقون متعلقات أمواتهم، كأنها لم تكن، فيما يمجدّون بالمقابل ولادة المرأة لأنثى؛ حيث يعتبرون الأنثى استمرارية للحياة، وتعمل لديهم المرأة أكثر من الرجل، بفضل ما حملوه معهم من معتقداتٍ بأنّها أكثر قدرة على الإقناع، وتمارس أعمالاً يدوية وأخرى سحرية، فهي تقرأ الطالع مثلاً، وتصنع أدواتٍ منزلية بسيطة تبيعها.
وفي بعض الدول اليوم، ومنها العربية، يعمل الغجر كبائعين للأشياء البسيطة، ويربّون بعض الحيوانات، وما يزالون يحافظون على بَرّيتهم أو ما تبقى منها بطريقة أو بأخرى، وتقريباً، لا وجود لهم، لأحيائهم ولا أمواتهم، في السجلات المدنية، ويعانون من تضييق التنقلات عليهم، فقد شهدت الدول أنظمةً وحدوداً وتطوراتٍ كثيرة، جعلت من أولئك الذين يعتبرون أي بقعة على هذه الأرض ملكهم، يتحولون إلى أقرب ما يكون لصفة اللاجئين أو المنبوذين، وهم الذين تناولهم الروائي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته "مئة عام من العزلة" ووصفهم بمخلوقاتٍ من السحرة والمهرجين وناقلي اختراعاتِ البشرية الغريبة من مكانٍ إلى مكان، وكان هذا في البدء كما يصف ماركيز، قبل أن تغزو الطائفية والعرقية والصروح الصلبة دينياً وفكرياً، هذ العالم، الذي تتجول فيه مجموعة من البشر، لا تنتمي لشيء تقريباً، سوى حقّها في البقاء.