بعد عامين من انقلابه على رئيسة البلاد، إيزابيل بيرون، حرص الجنرال العسكري، خورخي فيديلا، على إقامة كأس العالم في الأرجنتين، لعام 1978، بعد اتهامات عالمية بالقتل، وزجّ المعارضين في السجون، وحالة من القمع السياسي، أعادت للأرجنتين مشاهد من الفاشية والنازية الأوروبية.
اقرأ أيضاً: آلان روب غرييه: ثلاثة فتية شقر يسيرون بمحاذاة البحر
فيديلا ليس الأول أو الأخير، بل تتعاقب الديكتاتوريات على كلّ الشعوب، ولا يفلح مع الجموع أيّ مخدِّر سوى كرة القدم، فهل تغدو أفيوناً جديداً للشعوب المكتوية بنيران الشمولية؟
لتمت إيطاليا من أجل كأس العالم
الشعار المثالي لما فعله القائد الفاشي الأشهر، بينيتو موسوليني، وفق كتاب الصحفي البريطاني (Amit Katwala)، المعنوَن "حكايات كرة القدم"، يذكر فيه أنّه، وقبل أشهر قليلة من كأس العالم 1934، استدعى موسوليني، رئيس الاتحاد الإيطالي لكرة القدم وقتها، جورجيو فاكارو، بعد أن كانت البلاد قيد استعدادها لإقامة البطولة على أراضيها، ليأمر الدوتشي رئيس الاتحاد: "يجب أن تفوز إيطاليا بالكأس هذا العام، سيكون هذا حقاً إنجازاً رائعاً"، وامتثالاً لأوامر الديكتاتور؛ كان على اللاعبين الفوز باللقب، وتحت قيادة مدرب عسكري، فيتوريو بوزو، الذي استدعى اللاعبين الإيطاليين من الفرق العالمية كافة، وأجبرهم على اللعب في المونديال، تحت شعار "إذا استطاعوا الموت لأجل إيطاليا سيتمكنون من الفوز من أجلها"، وبحسب الكاتب؛ فإنّ اختيار إيطاليا لإقامة البطولة كان محفوفاً بالغموض، خاصة بعد أدلة تثبت تورط رئيس الاتحاد الإيطالي السابق، جيوفاني ماورو"، وقيامه بضغوط سياسية غير رسمية على الفيفا، لإقامة البطولة على أراضيه، وتكفّل نيابة عن الحكومة الفاشية، بدفع بلاده لأيّة خسائر مالية تكبدتها المنظمة، خاصة بعد تفضيلها على منافسها الأكثر جدارة "السويد".
"أنت يا لاعب كرة القدم الحقير!" كلمات أطلقها الكونت كينت على لسان شكسبير في مسرحيته الأشهر "الملك لير"
وبينما يحاول العالم الاستشفاء من أكبر أزمة اقتصادية "أزمة الكساد العالمي 1929"، يبذل موسوليني المزيد من المال على حساب الشعب الإيطالي، من أجل إنجاز كروي، ويرجع الفضل في ذيوع صيت تلك البطولة بشكل خاص إلى أخيل ستاراس، المروّج الإعلامي للحكم الفاشي في إيطاليا، والمشهور آنذاك بلقب "الكاهن الأكبر"؛ فبعد أن صمّمت شركته "Starace" للدعاية، التحية الفاشية الشهيرة، كان عليها أن تجعل خبر كأس العالم في كلّ مكان بالبلاد، فصمّمت الإعلانات واللافتات في الشوارع بشعار جديد لكأس العالم، ونشرت أكثر من 300 ألف منشور من الملصقات والطوابع الصادرة مع صور لكأس العالم، وحتى السجائر الوطنية صممت أغلفتها من أجل الكأس تحت شعار"Campionato del Mond".
بحسب الصحفي الإنجليزي في جريدة "الغارديان"، جيم هارت؛ فإنّ موسوليني أراد تقديم الفاشية بصورة المستقبل الأفضل لإيطاليا، وحرص على توفير سائر الاستعدادات، مهما تكلّف الأمر، كما حرص على شراء تذكرة الافتتاح بنفسه، وبثّ جميع المباريات على الإذاعة، ودعوة المواطنين لحضور المباريات، ولكنّ الحضور ظلّ ضعيفاً حتى النهائي، الذي حضره 65 ألف متفرّج، في مباراة كانت عراكاً جسدياً بين الفريقين، حتى توِّجت إيطاليا بما أمر به الزعيم، وكانت تلك بداية لعلاقة صداقة بين اثنين من أكثر قادة العالم ديكتاتورية في القرن العشرين.
تحت راية الشمولية
بعد أربعة أيام من حصول إيطاليا على لقب بطولة كأس العالم 1934، تمّ إلغاء اللقب؛ بسبب بعض المؤامرات السياسية التي دبّرت قصة الفوز بالبطولة، ما دفع موسوليني إلى اللجوء إلى نظيره الديكتاتور الألماني، أدولف هتلر، والذي كان يستفيق لتوه من خسارته لمعركة الدعاية في أولمبياد برلين 1936.
أنطونيو غرامشي لم يجد حرجاً من وصف كرة القدم بـ "مملكة الوفاء البشري تلك التي نمارسها في الهواء الطلق"
وفق فيلم وثائقي قدّمته شبكة الإذاعة البريطانية "BBC" عام 2003، بعنوان "الفاشية وكرة القدم"؛ فإنّ "العلاقة بين الفاشية وكرة القدم بدأتها إيطاليا، لتصاب الديكتاتوريات المجاورة بالعدوى ذاتها". وكما ورد في حوار أجرته عضوة الأكاديمية الوطنية للألعاب الأوليمبية في إيطاليا، أنجيلا تاج؛ فإنّ "موسوليني، كديكتاتور، حرص على الظهور إعلامياً وهو يمارس مختلف الرياضات؛ بدءاً من ركوب الخيل والتزلج على الجليد، وحتى السباحة، لكنّه وجد أنّ مفعول كرة القدم أكثر جاذبية للناس، فحرص على أن يُعدَّ الراعي الرسمي لبطولة عالمية تتوج بها حقبته الدموية"، وتؤكّد أنّ الفكرة نفسها كانت دافعاً لهتلر في ألمانيا وفرانكو في إسبانيا.
الفاشية وكرة القدم
"أنت يا لاعب كرة القدم الحقير!"، كلمات أطلقها الكونت كينت، على لسان شكسبير في مسرحيته الأشهر "الملك لير"، لكنّه لم يعِش اليوم ليرى ما آلت إليه كرة القدم، وما يمثله أبطالها في عالمنا، وكيف صارت أهدافها، مسعى يلهث خلفه أباطرة العالم الجديد، كهتلر الذي لم يجد حرجاً في احتلال النمسا عام 1938، وإجبار أعضاء الفريق على اللعب لصالح ألمانيا النازية، مرتدين الشعار النازي، وكان على الفريق النمساوي بأكمله الانسحاب من البطولة؛ احتجاجاً على احتلال بلادهم، وبالألاعيب السياسية نفسها حاول هتلر الضغط على الفيفا، لجعل البطولة في ألمانيا، ولكنّها اختارت فرنسا، كبلد المنشأ للمؤسسة، وحتى لا يتكرر ما حدث مع إيطاليا، لكن تبقى قصة اللاعب النمساوي، ماتياس سينيديلار، الذي رفض أن يخضع لتهديدات الفريق الألماني، وحثّ فريقه على الفوز بمباراة صورية أمر هتلر بانعقادها، وبالفعل فاز النمساويون على الألمان؛ بسبب هدف ماتياس، الأمر الذي جعله تحت مراقبة الجيستابو، وبعد أشهر قليلة وجِد مقتولاً في شقته، مدّعين أنّ سبب الوفاة كان اختناقاً بالغاز، لكن حتى اليوم يؤمن كثيرون بأنّ النازيين اغتالوه، لما عُرف عنه من مساعدة زملائه اليهود على الهرب من جحيم النازية، وبذل أمواله في مساعدتهم.
اقرأ أيضاً: في عالم بلا قلب: لماذا أراد ماركس أن يحرمنا عزاءنا الوحيد؟
الثلاثي المرح يعبث بالشعوب
أهي أفيون للشعوب؟! بهذا التساؤل البسيط يطرح الكاتب الصحفي من الأوروغواي، إدواردو غاليانو، في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظلّ"، قصة كرة القدم كمرآة للشعوب، وتاريخ آخر موازٍ للتاريخ السياسي، الذي ربما يجهل البعض مدى الصلة الوطيدة بينهما، مجيباً عن تساؤله: "ما ھو وجه الشبه بين كرة القدم والإله؟ إنه الورع الذي يبديه كثيرون من المؤمنين والريبة التي يبديھا كثيرون من المثقفين"؛ فالصينيون كما بدؤوا كلّ شيء تقريباً في عالمنا، بدؤوا بلعب كرة القدم، التي انتقلت عدواها إلى أرجاء العالم أجمع، وحين امتزجت بالسياسة، انحرفت عن مسارها الذي قامت لأجله "متعة اللعب لأجل اللعب"، وفي قصة الحرب الأهلية الإسبانية، التي امتزجت بالكرة، أكبر دليل على ذلك؛ فبينما كان هتلر وموسوليني يلهثان خلف لقب المونديال، اشتعلت الحرب الأهلية في إسبانيا، عام 1936، واستمرت لعامين، منح فيها الفوهرر والدوتشي كلّ الدعم لـ "الكاوديو"، نظيرهما في إسبانيا، والذي اتخذ من نادي ريال مدريد وجهاً سياسياً له ضدّ نادي الشعب المندد بالديكتاتورية "برشلونة"، وفي مواجهة كأس إسبانيا لعام 1943، هتف جمهور برشلونة داخل الملاعب ضدّ فرانكو، ما جعل التهديدات تلاحق النادي من الإدارة العسكرية بألّا يفوز على ريال مدريد، لتأتي النتيجة التاريخية التي فاز بها الريال على برشلونة 11/1.
اقرأ أيضاً: "الإنسان قمة التطور": سلامة موسى متأثراً بداروين وجالباً على نفسه اللعنة!
بين كرة القدم والوطن علاقة وطيدة الصلة، رسّخها الديكتاتوريون في التاريخ الحديث، واحتقرتها النخب المثقفة من اليسار الماركسي، الذي يرى في هذه الكرة ملهاة للشعوب والعمال عن نضالهم المستحقّ، ورغم ذلك لم يجد الماركسي الإيطالي الأشهر، أنطونيو غرامشي، حرجاً من وصفها بـ "مملكة الوفاء البشري، تلك التي نمارسها في الهواء الطلق"، بينما بقي الماركسيون يرددون؛ أنّ العمال المنوَّمين بالكرة التي تمارس عليهم سحراً خبيثاً، يصابون بضمور الوعي، ويتيحون لأعدائهم الطبقيين أن يسوقوهم كالقطيع، لكن عندما جاءت كرة القدم من قلب الموانىء، وورش سكك الحديد في الأرجنتين، التي ولد منها نادي "جونيورز"، لم يجد بعض الماركسيين غضاضة في الاستمتاع بكرة القدم، رغم وصفها بآلية برجوازية لمنع الإضرابات، والتستّر على التناقضات الاجتماعية، فهي –برأيهم- مؤامرة إمبريالية للإبقاء على الشعوب المقهورة في طور الطفولة.
اقرأ أيضاً: فيلسوف صنع مراهم الزئبق وابتكر خيوط الجراحة من أمعاء القطة
وفي عالم ما بعد الحداثة، وعولمة قلبت العالم رأساً على عقب؛ اقتحمت كرة القدم مجالات الحياة، وأصبحت سلعةً تقدم على شرفها حمى الاستهلاك النهم الذي يغزو الأرض، ورمزاً للوطنية، فليس مهمّاً أن يملك الإنسان قوت يومه، بقدر ما يهم أن يفوز منتخبه الوطني، وفي هذا تحقق لنبوءة الماركسيين، الذين رفضوها كسلعة برجوازية وملهاة لبشرية لم يكتمل نضجها بعد.