العالم يقترب من حرب باردة جديدة

العالم يقترب من حرب باردة جديدة


22/02/2022

هشام ملحم

وقف الرئيس الصيني شي جينغ بينغ إلى جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في الثالث من الشهر الجاري في وقفة تحد للغرب عموما وللولايات المتحدة تحديدا.

وقفا بصفتهما قطبي الكتلة الأوتوقراطية المتنامية في العالم والتي تطرح نفسها كبديل لتلك الديمقراطيات التي يقول الرئيس، جوزيف بايدن، إن الولايات المتحدة تقودها لبناء نظام عالمي جديد لمواجهة الأنظمة الأوتوقراطية والمتسلطة ولتوسيع جغرافيا الدول القائمة على أنظمة الحوكمة الصالحة.

ومنذ تلك اللحظة تركزت الأضواء الإعلامية والسياسية على قرارات واستفزازات موسكو تجاه أوكرانيا وتطورات الألعاب الأولمبية في بكين ومحاولات الحزب الشيوعي الصيني استخدامها سياسيا لإقناع العالم بأن الصين تمثل نظاما ديمقراطيا جديدا يتسم بقوته وقدرته على خلق الإنجازات وضمان الاستقرار.

على الرغم من سجل الصين الرديء والدموي في قمع الحركة الديمقراطية في هونغ كونغ، وممارساتها القمعية ضد أقلية الأويغور  المسلمة، والتي تقول الولايات المتحدة إنها ترقى إلى حرب الإبادة.

افتتاح الألعاب الأولمبية كان الاجتماع الثامن والثلاثين بين الرئيسين الصيني والروسي في مؤشر آخر حول نمو العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين البلدين في السنوات الأخيرة.

قبل زيارة بوتين إلى الصين وقع البلدان عقدا تجاريا لثلاثين سنة لتوفير إمدادات الغاز الطبيعي الروسي للصين عبر خط أنابيب جديد يربط البلدين.

المحللون العسكريون في الغرب لاحظوا أن بعض الوحدات العسكرية الروسية التي انضمت إلى الحشود على حدود أوكرانيا كانت منتشرة على الحدود الروسية-الصينية الطويلة، في مؤشر آخر حول ثقة بوتين بأن زميله الصيني لن يطعنه في ظهره. 

ولكن "الإنجاز" الهام لآخر اجتماع بين بوتين وشي جينغ بينغ، كان البيان المشترك الطويل والمفصّل (5000 كلمة) والذي ادعى أن الشراكة بينهما " لا حدود لها"، والذي مثّل نقلة نوعية في العلاقات بين موسكو وبكين وخاصة لجهة التنسيق بينهما للتصدي للغرب.

البيان المشترك تضمن تأييد الصين لموقف روسيا المعارض لتوسيع حلف شمال الاطلسي (الناتو) في إشارة ضمنية إلى احتمال انضمام أوكرانيا للحلف، كما أكد أن تايوان هي جزء لا يتجزأ من الصين.

وكما دعمت الصين روسيا في أوروبا، دعمت روسيا الصين في شرق آسيا، حين ندد البيان المشترك بالتحالف الأمني المتزايد بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، في أعقاب صفقة الغواصات الأميركية المسيرة بالوقود النووي لأستراليا والتي ادانتها بكين. 

الأمر اللافت، والسافر في البيان المشترك هو أنه ادعى أن الدولتين الأوتوقراطيتين سوف تنسقان مع دول أخرى لبناء أنظمة "ديمقراطية حقيقية" لتكون بديلا للأنظمة التي تقودها وترعاها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين فيما يمكن وصفه بنظام أوتوقراطي عالمي جديد.

وخلال افتتاح الألعاب الأولمبية، شارك في الحفل قادة أكثر من 20 دولة معظمها أوتوقراطية، من بينها مصر والسعودية ودولة الإمارات وقطر. 

خلال أحلك اللحظات في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، حقق الرئيس، ريتشارد نيكسون، بزيارته التاريخية للصين قبل خمسين سنة بالضبط (بدأت في 21 فبراير 1972 وانتهت في 28 فبراير) إنجازا استراتيجيا وسياسيا، حين بدأ عملية تطبيع العلاقات مع الصين، وما نتج عنها من خلق هوة واسعة بين أكبر وأهم دولتين شيوعيتين آنذاك في العالم، ما أدى إلى تعزيز وضع واشنطن في تعاملها الثنائي مع كلا الدولتين.

ما يحدث الآن هو بمثابة رفع مستوى العلاقة الثنائية الوثيقة بين البلدين إلى ما يمكن وصفه بتحالف، غير أيديولوجي، ولكن منفعي وعملي ومبني على تنسيق متطور بين البلدين للتصدي لواشنطن وحلفائها وخاصة في المناطق التي تعتبرها كلتا الدولتين أنها تشكل تهديدا لمصالحها الحيوية.

حتى قبل اندلاع الأزمة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، كان الرئيس بايدن يصف التوازنات الدولية الراهنة بأنها مواجهة بين تحالف الديمقراطيات في العالم الذي تقوده، أو يفترض أن تقوده، الولايات المتحدة، في وجه كتلة الأوتوقراطيات الصاعدة في العالم بقيادة الثنائي الروسي والصيني.

وخلال الأزمة الراهنة، نجحت إدارة الرئيس بايدن إلى حد كبير في تعزيز التنسيق والعلاقات بين واشنطن وبقية دول الناتو، بعد السنوات الأربع العجاف للرئيس السابق ترامب، الذي كان يشكك دوما بجدوى الناتو، كما عبأ بايدن وكبار مساعديه الرأي العام الأميركي والغربي للوقوف وراء فرض عقوبات اقتصادية شاملة ومؤلمة ضد روسيا في حال غزوها لأوكرانيا، وحقق بايدن ذلك على خلفية تعزيز الدعم العسكري للناتو وتسليح أوكرانيا مباشرة، وتشجيع دول الحلف على أن تحذو حذو واشنطن في هذا السياق.

ولكن هذا الأداء الجيد لإدارة بايدن، لا يخفي حقيقة أن الأنظمة والمؤسسات الديمقراطية في العالم إما في موقع دفاعي أو في حالة تراجع في وجه المّد الأوتوقراطي الذي وصل إلى أوروبا كما يتبين من النهج المناوئ للديمقراطية الذي اعتمدته دول مثل هنغاريا وبولندا ، وجنوح دول مثل الهند والبرازيل إلى تبني ممارسات أوتوقراطية، وسياسات طائفية وتمييزية ضد المواطنين المسلمين في حالة الهند.

وهذا الجنوح الأوتوقراطي في الغرب وصل إلى الولايات المتحدة خلال ولاية الرئيس ترامب، ولا يزال السمة الأساسية التي تميز قاعدة الحزب الجمهوري، التي لا تزال تقف بأكثريتها وراء رئيس حوكم مرتين في الكونغرس.

التحالف الديمقراطي الذي يريد بايدن أن يقوده مؤلف بمعظمه من دول أوروبية تواجه تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية هامة تهدد جبهاتها الداخلية بسبب الخلافات العميقة حول قضايا خلافية وجوهرية مثل الهجرة وتحديات اللاجئين الذين يواصلون قرع أبواب القارة هاربين من دول  فاشلة أو تشرف على الفشل والنزاعات الأهلية في آسيا وأفريقيا.

عندما أرسل بوتين قواته لغزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في 2014، تعرضت روسيا إلى عقوبات غربية، ولكنها لم تكن مؤلمة كثيرا لروسيا ولم ترغم بوتين أو أركان قيادته على دفع ثمن باهظ لانتهاكاتهم لأوكرانيا وللقانون الدولي. 

وبدلا من أن تتحرك دول أوروبا الغربية، وتحديدا ألمانيا، لتقليص اعتمادها على إمدادات الغاز الطبيعي والنفط من روسيا، زادت من اعتمادها على الصادرات الروسية، وخاصة بعد أن قررت برلين وقف العمل في مفاعلاتها النووية في أعقاب الكارثة النووية في مفاعل فوكوشيما في اليابان عام 2011.

ألمانيا استثمرت أكثر من 11 مليار دولار لإقامة خط أنابيب الغاز الطبيعي المعروف باسم "نورد ستريم-2" لزيادة مستورداتها من الغاز الروسي.

الآن تسعى إدارة الرئيس بايدن لزيادة صادراتها من الغاز إلى ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية في الوقت الذي تحاول فيه إقناع الدول الأخرى المصدّرة للغاز، مثل قطر، تصدير هذه الطاقة إلى أوروبا لتحرير دول القارة من الاعتماد الخطير على روسيا.

العدوانية الروسية ضد أوكرانيا، والعدوانية الصينية ضد تايوان هي جزء من هذا الجنوح الأوتوقراطي العالمي الذي تمارسه دول أوتوقراطية وعدوانية أخرى مثل إيران، وهو ما نراه  حتى في دول كانت تعتبر ديمقراطيات ناقصة أو شعبوية مثل الهند، كما يتبين من إجراءاتها القمعية ضد المسلمين وتحديدا سكان ولاية كشمير، وعدوانية النظام التركي تجاه سوريا واحتلاله لشمال سوريا، وانتهاكاته الداخلية لحقوق الإنسان وقمع حريات التعبير. 

هذه العدوانية الأوتوقراطية تعكس تقويما شائعا وهو أن الدول ذات الأنظمة الديمقراطية المفتوحة ضعيفة وغير فعالة وعاجزة عن اتخاذ إجراءات الحسم السريعة كما يفعل القادة المتسلطين سواء كانوا في موسكو، أم بكين، في الرياض أم في القاهرة.

سلوك هذه الدول، وخاصة روسيا والصين، يبين أنها تتصرف وكأنها سوف ترث العالم بعد وصول الأنظمة الديمقراطية إلى مرحلة العجز في حكم مجتمعاتها التي تعصف بها الانقسامات الداخلية، أو حالة العجز في إدارة النظام الدولي بدرجة متقدمة من الفعالية والانتظام.

الانقسامات السياسية والاجتماعية والثقافية العميقة في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة أبرزت إلى السطح وبشكل صارخ هشاشة النظام الديمقراطي إذا لم يتحرك بسرعة لتخطي تناقضاته الداخلية بالطرق السلمية.

انتهاكات الصين القاسية ضد أقلية الأويغور، وعدوانيتها السافرة ضد تايوان، وأطماعها في أراضي جيرانها وتهديداتها لحرية الملاحة في شرق آسيا، والاعتداءات الروسية المستمرة في أوكرانيا وسوريا المباشرة أو تلك التي تتم عبر مرتزقتها المعروفة باسم تنظيم "فاغنر" التي يديرها أحد الأوليغارشيين الروس المقربين من بوتين والمعروف بعشقه لأعمال الموسيقار الألماني الكبير فيلهلم ريتشارد فاغنر، ومن هنا الاسم، تبين إلى أي مدى هذه الدول وغيرها من الدول المتسلطة الصاعدة مستعدة لتقويض الأعراف والتقاليد الدولية لخدمة أهدافها الضيقة كما تحددها هي، بغض النظر عن الإعتبارات القانونية والأخلاقية. 

وبغض النظر عن كيفية تطور الأزمة الروسية-الأوكرانية والدور الأميركي فيها خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، إلا أن المناورات والتحركات والائتلافات الدولية الجديدة تبين أن العالم يسير باتجاه حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.

هذه الحرب الجديدة مرشحة لأن تكون أكثر خطورة من الحرب الباردة التي برزت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لأنها سوف تحتدم على جبهة عالمية أوسع  وسوف تشارك فيها قوى عديدة ما يعني صعوبة التنبؤ بتطورها وبكيفية احتوائها.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية