الطّائفية للاستخدام اليومي

الطّائفية للاستخدام اليومي

الطّائفية للاستخدام اليومي


04/02/2024

العنود المهيري

تقسّم الأم المشرقية بحكمتها الأواني إلى قسم باذخ تدّخره للضيوف والاحتفالات والمناسبات، وآخر أقل قيمة للاستخدام العائلي، متحررة من قيود المظاهر والوجاهة. 

ويبدو أن حكمتنا المشرقية تعلّمت تقسيم كل الأشياء بالشاكلة نفسها، حتى مواقفنا من الأمراض الاجتماعية المدمرة للشعوب.

لقد أحزنتني على هامش بطولة كأس أمم آسيا الحالية كمية الهتافات والمسيرات، وحتى "الهوسات" - وهو فن شعبي - ذات الطابع الطائفي ممن يستحضرون علي ابن أبي طالب والحسين بن علي والعباس بن علي كما لو كانوا يستنفرون لحربٍ ضروسٍ، وليس لمباراة كرة قدمٍ! ولم يقل عنهم تطرفاً وخبثاً من خرجوا يتغنون بأنهم أحفاد الصحابة، فاختصوا أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد دون سواهم، وكأنما يستطيعون "اختيار" بعض الصحابة، و"الاستغناء" عن بعضهم – رضوان الله عليهم جميعاً - "نكايةً" في خصومهم! 

وما يزيد الغثيان أكثر  هو الشعور بأن مستضيفي البطولة ومنظميها ظلوا يتخذون وضعية "لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم"، ولا يريدون تحريك ساكن لوضع حد للإسفاف بشقيه الشيعي والسني، والذي تخطت تبعاته الحدود الضيقة للبطولة، وامتدت شراراته إلى وسائل التواصل الاجتماعي

أرغمني هذا الصمت المحيّر للجهات المنظمة على أن أحلّق بخيالي، فأتخيل "سوق واقف"، ومقصورات المترو، وجزيرة اللؤلؤة، كيفما كانت مكتظة ونابضة بالحياة إبان استضافة بطولة كأس العالم الأخيرة. ورحت أتخيّل ماذا لو كنا قد استبدلنا بشيعتنا وسنتنا آنذاك طرفين مختلفين للمهاترات والنزاع.

ماذا لو – مثلاً - تذكّرت الجماهير الهولندية والإسبانية القادمة لتشجيع منتخبيها في المونديال عداءها البروتستانتي - الكاثوليكي العالق منذ "حرب الثمانين سنة"، وتفرّغت لاستئنافه ضد بعضها بعضاً على هامش البطولة؟ أو ماذا لو – مثلاً - قررت الجماهير الكورية الجنوبية آنذاك الثأر متأخرة من الجماهير اليابانية التي تدين بالشنتوية بسبب القمع والتضييق الذي تعرّضت له البوذية في بلادهم؟ 

بل ماذا لو أن أتباع أي طائفة أو ديانة كانوا قد فوجئوا خلال المونديال بأهازيج وقحة تلمّح إلى كونهم "أبناء زنا" فقط لأنهم يختلفون عقائدياً مع أتباع طائفة أو ديانة أخرى؟ أليس هذا هو النعيب الذي سمعناه يتردد من بعض الحناجر في البطولة الحالية؟ 

أما كان منظمو المونديال ومستضيفوه ليقيموا الدنيا ولا يقعدوها حينها لضمان ضبط الأوضاع الأمنية، واستتباب النظام؟ أما كانوا ليضربوا بيد من حديد على من تسوّل له نفسه تهديد حالة الاستقرار؟ أما كانوا لينهضوا بحزم ضد من يشعل الفتنة بين الجماهير المسالمة؟ 

أو بالأحرى، أما كانوا ليتهيبوا العدسة المكبّرة المسلطة عليهم آنذاك من "الفيفا"، ومن اتحادات كرة القدم الأجنبية، ومن الجماهير العالمية، وخصوصاً من الصحافة الغربية التي لا ترحم؟

ربما نحن نعادي الطائفية، ونروّج للتعايش والاحترام والتآخي، حينما يزورنا "الضيوف"، ونضطر إلى إخراج طقم "الأواني الأخلاقية" الفاخرة لتلميع صورتنا. أما صراع "معاوية ويزيد" الصدئ، فلا بأس به للاستخدام الإقليمي اليومي.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية