الصادق النيهوم : الفيلسوف الذي تحدى بنية السلطة الفكرية

الصادق النيهوم : الفيلسوف الذي تحدى بنية السلطة الفكرية

الصادق النيهوم : الفيلسوف الذي تحدى بنية السلطة الفكرية


14/04/2025

الصادق النيهوم، الكاتب الليبي والفيلسوف المعروف بجرأته في طرح الأفكار، ولد عام 1937 في بنغازي. تميز منذ شبابه بنزعة نقدية عالية تجاه الأنظمة السياسية والدينية، وانخرط في دراسة الأديان والفلسفة والأنثروبولوجيا. استطاع النيهوم أن يمزج في كتاباته بين المعرفة العميقة واللغة البسيطة، مما جعل أفكاره متاحة لجمهور واسع. كان اهتمامه منصبًّا على كشف آليات السلطة الفكرية والدينية وكيف يتم استغلال الدين لفرض الهيمنة السياسية والاجتماعية.

نقد الدين والدولة: إعادة التفكير في الأصول

أحد أبرز جوانب فكر النيهوم هو نقده للدين، أو بالأحرى نقده لاستغلال الدين من قبل السلطة. في كتابه "الإسلام في الأسر"، قدّم تحليلًا جريئًا عن الإسلام كدين، واصفًا كيف تم تحريفه وتطويعه لخدمة الأنظمة الاستبدادية. انتقد النيهوم الطريقة التي تم بها تحويل الدين من رسالة تحريرية إلى وسيلة لشرعنة الظلم والقمع، مشيرًا إلى أن الإسلام الأولي كان دينًا للحريات والعدالة الاجتماعية.

الإسلام في الأسر، للصادق النيهوم

النيهوم لم يكن ينتقد الدين بذاته، بل كان يوجه سهامه نحو من يستخدمونه كغطاء للسيطرة على المجتمعات. ركز بشكل خاص على العلاقة بين السلطة الدينية والسياسية، موضحًا كيف تم تسخير علماء الدين لتعزيز شرعية الحكام، بينما يتم إقصاء أي محاولة لفهم الدين بطريقة تحررية أو تقدمية.

بالإضافة إلى ذلك، كان النيهوم يرى أن استعادة الدين لقوته الروحية يتطلب العودة إلى جذوره الأولى، حيث كان الإسلام في بدايته حركة تغيير اجتماعي وثوري ضد الظلم الطبقي والسلطوي. يرى أن المسلمين اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة للنصوص الدينية، تكون قائمة على أساس العدالة والمساواة، لا على الطاعة العمياء للحكام.

أحد أهم محاور فكر النيهوم كان رؤيته للمجتمع العربي كيانًا مقيدًا بسلاسل من التقاليد والسلطة الدينية. في كتاباته مثل "الحيوانات" و*"القرود"*، تناول القضايا الاجتماعية والثقافية بطريقة ساخرة وعميقة في آن واحد، مستخدمًا التشبيه والسرد الرمزي للكشف عن كيفية تدهور المجتمع العربي إلى حالة من الانصياع والخضوع.

النيهوم كان يعتبر أن "الإنسان" هو جوهر الفكر، وأن تحريره يبدأ بتحرير الفكر نفسه من قيود الموروثات التي تجعل من التقاليد والدين سلطات مطلقة لا يمكن تجاوزها. كان يرى أن المجتمع العربي يعاني من حالة "استلاب"، حيث يتم تلقين الأفراد أفكارًا وعادات جامدة تحد من إبداعهم وتحرمهم من القدرة على التغيير.

وفي هذا السياق، تركز نقده على الأنظمة التربوية والتعليمية التي اعتبرها جزءًا من أدوات السلطة لإنتاج أفراد طائعين للنظام القائم، بدلًا من إعدادهم ليكونوا أحرارًا في تفكيرهم ومساهمين في التغيير الاجتماعي.

الكاتب والمفكر الصادق النيهوم

كما هو الحال مع العديد من المفكرين الذين يتحدّون السائد، كانت أفكار النيهوم محلًا للجدل. كانت بعض شرائح المجتمع الثقافي والمفكرين تتبنى أفكاره وتعتبره رمزًا للتحرر الفكري والاجتماعي. لقد مثلت أفكاره مصدر إلهام لعدة حركات إصلاحية في الوطن العربي، خاصة تلك التي تسعى لإعادة قراءة النصوص الدينية وتحرير الإنسان العربي من قيود السلطة التقليدية.

ومع ذلك، واجه النيهوم هجومًا لاذعًا من المؤسسات الدينية والسياسية، التي رأت في أفكاره تهديدًا لسلطتها ووجودها. في العديد من المناسبات، تعرض للنفي الاجتماعي والإعلامي، حيث تم تهميش كتاباته في الأوساط الأكاديمية والصحفية التي كانت تسيطر عليها الأنظمة. لكنه رغم ذلك استطاع أن يحافظ على تأثيره من خلال النشر المستقل والكتابة النقدية التي تركت أثرًا طويل الأمد.

ومن بين الشخصيات الفكرية التي تأثرت بفكره، نرى اليوم مفكرين يتبنون نفس النهج النقدي، ويركزون على إعادة قراءة التراث الديني والسياسي بشكل جديد. لقد أصبحت أفكار النيهوم تمثل اليوم دعوة للاستمرار في التفكير النقدي والبحث عن بدائل فكرية جديدة لتحرير المجتمع العربي.

رحيل الصادق النيهوم في عام 1994 لم يُنهِ أثره الفكري؛ بل إنه شكّل بداية لقراءات جديدة لأعماله. يتناول العديد من المفكرين اليوم أفكار النيهوم كمحور رئيسي في النقاشات حول التحديث الديني والسياسي في العالم العربي. إن إرثه الفكري لم يكن مجرد نقد بل كان محاولة لإعادة بناء وعي جديد يقوم على مبادئ الحرية والعدالة. ويبقى النيهوم في ذاكرة الفكر العربي مثالًا حيًا على الجرأة في مواجهة السائد والتصدي للسلطة بكل أشكالها.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية