الشرق الأوسط على صفيح ساخِن: هل تنجحُ الصين في نزع فتيل التصعيد؟

الشرق الأوسط على صفيح ساخِن: هل تنجحُ الصين في نزع فتيل التصعيد؟

الشرق الأوسط على صفيح ساخِن: هل تنجحُ الصين في نزع فتيل التصعيد؟


01/02/2024

محمد الزغول

ما عادت حرب غزة، التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، مُقتصرةً على المواجهة بين إسرائيل وحركة حماس، وغيرها من الفصائل الفلسطينية. إذْ أخذت في الاتساع على الرغم من كل المحاولات الأمريكية للحؤول دون ذلك، لتتحول الحرب إلى مواجهة إقليمية بين إسرائيل، ومليشيات وتنظيمات ما يسمى "محور المقاومة" الذي تقوده إيران. وباتت الضّربات الميدانيّة التي توجّهها هذه الميليشيات إلى المصالح الإسرائيلية والأمريكية، أشد وطأةً من تلك التي تنفّذها حركة "حماس" المُنهكة بفعل الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة. وامتدت جغرافية هذا الصِّراع إلى أكثر من بلد في الشرق الأوسط، بما فيها العراق، وسورية، ولبنان، واليمن.

وبحسب المنظور الذي تتبنّاه إسرائيل، والقوى الغربية، فالمشهد ليس إلّا حرباً بالوكالة، تقودُها طهران ضدّ إسرائيل من جهة، وضدّ الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط من جهة ثانية. وخلال الأسابيع الماضية، تزايدت المؤشّرات والخطوات الميدانية التي تفيد برغبة إسرائيل في تجاوز حالة حرب الوكالة هذه، إلى مواجهة مُباشرة بين إيران وإسرائيل. وهي مواجهةٌ ستستدعي بلا شكّ، تدخُّلاً أمريكيّاً، وربما أوروبيّاً أيضاً.

وتحدَّث أكثر من مسؤول في الحكومة الإسرائيلية عن ضرورة الردّ على إيران باعتبارها "رأس الأفعى"، بُغية ردعها. وأكّد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل لا ترى مانعاً من توجيه ضربات مباشرة إلى إيران في سياق هذه المواجهة. وتُرجِمَت هذه المواقف ميدانيّاً، عبر هجماتٍ وضرباتٍ إسرائيلية عديدة ضد إيران، ووكلائها الإقليميين، كان على رأسها، اغتيال قائد فيلق القدس في سورية، رضي الموسوي، واغتيال نائب قائد فيلق القدس للشؤون الأمنية، حجت الله أوميدوار. 

على الجانب الإيراني، طالبت فئات عريضة من الشارع المؤيّد للمتشدّدين، بضرورة توجيه "صفعة مباشرة" إلى إسرائيل، وأكّد عددٌ من رموز التيار المحافظ أن "صفعةً مباشرةً، وقويّةً فقط" هي التي يُمكنها أنْ تردع الجانب الإسرائيلي عن مواصلة التصعيد ضدّ المصالح الإيرانية. وتُصرّ إيران على أنّ الحرب الراهنة لن تنتهي إلّا بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أولاً، ثم إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية. وثمّة خطواتٌ ميدانية إيرانية، أثّرت في تصعيد الموقف، من ضمنها هجومٌ بالمسيرات على سفن إسرائيلية في عرض المحيط الهندي؛ يُشتبَه بأن "الحرس الثوري" هو من يقف وراءه، علاوةً على توجيه ضربات صاروخية استهدفت مبنىً في أربيل، قالت إيران إنه حمل رسالةً إلى تل أبيب. وكان من اللافت أنّ مجمل الخطوات التصعيدية الإيرانية، استهدفت الاقتصاد الإسرائيلي، تطبيقاً لاستراتيجية أفصح عنها القائد الإيراني الأعلى، ويُراد منها ردعُ إسرائيل عبر تطبيق حصار بحري على وارداتها من الطاقة، والسلع الأساسية.

تداعيات التصعيد على الاقتصاد والأمن الإقليمي

لم تترك حرب غزّة أثراً جوهريّاً في الأمن الإقليمي، أو في اقتصادات المنطقة حينما كان النزاع محصوراً في قطاع غزة، وفي مناوشات محدودة على الحدّ الشمالي لإسرائيل. لكنّ اتّساع رقعة المواجهة، ترك تأثيره على الاقتصاد الإقليمي. وعلى الأرجح فإنّ "جبهة المقاومة" عمدت إلى توسيع رقعة المواجهة عمداً، وذلك لدفع الأطراف الإقليمية والدولية، للتحرُّك نحو إيقاف حرب غزة من منطلق تأثيرها على الاقتصاد والأمن الإقليميين. 

ومع ذلك، لم تكن كلّ تلك الآثار سلبية؛ إذْ أدى التصعيد الإقليمي إلى تحسُّن أسعار النفط التي شهدت ارتفاعاً، خاصةً بعد امتداد الأزمة إلى مضيق باب المندب؛ وهو ممّا عزز موقف البلدان الخليجية المصدرة للنفط في حرب الأسعار المستمرة منذ فترة بين "أوبك بلس" والغرب، وأسهم في سدّ العجز الناجم عن انخفاض الإيرادات النفطية نتيجة الانخفاض المضطرد في الأسعار، وفي الإنتاج. إلّا أنّ هذا المكسب العابر، لا يمكن أنْ يُضاهي من حيث الأهمية، التداعيات السلبيّة للمواجهة الإقليمية المفتوحة، والتي تتزايدُ احتمالاتها بفعل خطوات التصعيد الميداني، والرّغبات المتوافرة لدى الجانب الإسرائيلي بتوسيع نطاق الحرب.  ويختلف المحللون في تقدير حجم المواجهة الإقليمية المحتملة، لكنّهم يُجمِعُون على أنّها ستكون من بين أسوأ المواجهات في العُقود الأخيرة.

وسواءً افترضنا استمرار هذا التصعيد الذي تستفيد منه مراكز متشدّدة في كل من إيران وإسرائيل ضمن إطاره الراهن، لكنْ لفترة طويلة، أو افترضنا انزلاق المنطقة إلى "المواجهة المفتوحة" فإن النتائج السلبية المحتملة على الأمن، والاقتصاد المُستدام ستكون كبيرة، ومُقلِقة، خاصة بالنسبة لدول الخليج العربية التي تتبنّى مشاريع تنمويّة طموحة. ولعلّ من أهم مداخيل تأثير هذه الأزمة على المستوى العالمي، انعكاساتها المحتملة على أمن الطاقة، وأمن التجارة العالمية؛ إذْ تُشكِّل الممرّات المائية الرئيسة مسرحاً من مسارح هذه المواجهة المفتوحة.

وعلى الرغم من الحرص الذي أظهرته إيران الرسميّة على عدم الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل وأمريكا، إلّا أنّنا نلحظ كلّ يوم، تنامي لهجة التصعيد داخل الأوساط المقربة من "الحرس الثوري الإيراني"؛ ما يعزز احتمال أن تتّسع تداعيات هذه المواجهة بشكلٍ مُفاجئ. وقد تحدّثت مواقع مقربة من "الحرس الثوري" بوضوح، عن ضرورة ضرب ما زعمت أنه "خط إمدادات بري لإسرائيل"، وذلك في سياق استراتيجية الضغط على الاقتصاد الإسرائيلي.

ومن الواضح أن التوجه الإيراني نحو التصعيد اتخذ منحى أكثر جرأة، وخطورة ربما، إثر إعلان الجيش الأمريكي، في بيان صدر يوم 28 يناير الجاري، عن حصول هجوم مميت على قاعدة أمريكية تقع بالقرب من الحدود الأردنية مع سورية. وأدى الهجوم، الذي قيل إنه نُفِّذ بطائرة مسيرة، إلى مقتل ثلاثة جنود على الأقل، وإصابة العشرات، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ بدء الحرب في غزة. وعلى إثر هذا الهجوم تزايدت الدعوات داخل الولايات المتحدة إلى توجيه ضربة مباشرة إلى إيران، وعدم الاكتفاء بمعاقبة وكلائها.

الردع في مقابل التصعيد

مارست الولايات المتحدة، وأطراف دولية أخرى، ضُغوطاً متنوعةً لمنع الجانب الإيراني من مواصلة التصعيد، وحماية المنطقة من الانزلاق إلى مواجهة مباشرة. وفي هذا السياق، يمكنُ وضع رسائل الرّدع التي تواصل الولايات المتحدة إرسالها إلى إيران، وتُشارك فيها أطراف غربية، مثل فرنسا، وبريطانيا، والجهاز الدبلوماسي للاتحاد الأوروبي. وجميعُها تُؤكّد أنّ المجموعة الغربية تُحمّل إيران مسؤولية التصعيد الإقليمي، وتُطالبها برفع يدها عن الميليشيات، والكفّ عن دعمها، حتّى لا تتعرّض إلى مزيدٍ من العقوبات، والعزلة الدولية. وفي السياق نفسه، يمكنُ وضعُ الضغوط التي حاولت الأطراف العربية مُمارستها، بشكلٍ غير مباشر على إيران، من خلال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يمتلك تأثيراً ملحوظاً على القرار الإيراني. وأشارت مصادر إعلامية إيرانية إلى أنّ الرئيس بوتين نقل تلك الهواجس إلى إيران، أثناء لقائه بالرئيس الإيراني في ديسمبر 2023، عقب زيارة بوتين الناجحة إلى كل من أبوظبي، والرياض.

لكنّ هذه المحاولات لم تنجح حتى الآن في إبعاد شبح الحرب تماماً، ولم تمنع إيران من اتخاذِ مزيدٍ من خطوات التّصعيد؛ حيثُ واصلت الميليشيات الموالية لطهران ضرب أهدافٍ أمريكية وإسرائيلية على حدٍّ سواء في اليمن والعراق، وانخرطت قواتُها العسكرية بشكلٍ مُباشرٍ في هذا التّصعيد في سياق حرب ناقلات النفط. ويبدو أنّ التحذير الروسي (إن كانت الأنباء التي نقلته صحيحةً) لم يكن كافياً لردع إيران عن ممارسة التصعيد. وأغلب الظن أنّ إخفاق محاولات موسكو يعود إلى أنها لم تكن نابعة عن رغبة روسية صادقة بإنهاء الصّراع، على الرغم من نفوذ روسيا الواسع على "الحرس الثوري" الذي يمتلك القرار الميداني في هذه المواجهة، والتي تؤكد المعطيات أنّ موسكو من أكبر المستفيدين منها، سواء على الصعيد الاقتصادي (من حيث ارتفاع أسعار النفط والغاز)، أو على الصعيدين السياسي والعسكري (من حيث انعكاسها بشكل إيجابي على واقع الحرب في أوكرانيا، ودعم موقف روسيا هناك)؛ ما يعني أن روسيا لديها عديدٌ من الأسباب التي تدفعها إلى تجاهُل أهميّة إنهاء هذا التصعيد بشكلٍ سريع.

هل تنجح بيجين فيما أخفق فيه الآخرون؟

في ضوء إخفاق محاولات الرّدع الغربية، وعدم فعالية/جدّية الضغط الروسي، فإن مُعادلة التصعيد القائمة، تضعنا على مشارف الانزلاق إلى "المواجهة المباشرة" نتيجة أيّ خطأ محتمل في الحسابات. وتُظهِرُ التحضيرات العسكرية على جانبي الصّراع، استعدادهما لاحتمال وقوع هذا الخطأ؛ إذْ وضعت إيران صواريخها البالستية في مرحلة الاستعداد على الحدود الغربية، فيما تستعدّ إسرائيل لاحتمالات اتساع المواجهة عبر التزوُّد بأسراب جديدة من طائرات الجيل الخامس، والرابع، ومروحيات الأباتشي، والقذائف الصاروخية المتنوعة. 

وفي سياق البحث عن آليات للضغط على إيران لنزع فتيل التصعيد، طالبت جهات أمريكية وغربيّة الصين بالتدخل، والضّغط على طهران لنزع فتيل الأزمة. وتبدو الصين بالفعل، خياراً منطقيّاً للضغط الناجع على طهران، رغم أن الناطق باسم الخارجية الإيرانية نفى أن تكون الصين وجّهت أية تحذيرات إلى إيران بخصوص التصعيد في البحر الأحمر، مع أن هناك تقارير أكدت ممارسة الصين ضغوطاً على إيران لكبح هجمات الحوثيين التي تستهدف ممرات الملاحة الدولية. 

وربما وجدت بيجين أنّ بعض مصالحها تتحقق في استمرار الأزمة في الشرق الأوسط، خصوصاً من بوابة تأثير الأزمة السّلبي على الممر الهندي-العربي-الأوروبي الذي قد تنظر إليه بيجين، بوصفه بديلاً مُنافساً لمبادرة "الحزام والطريق". لكنّ الصين في الوقت ذاته، تُعَدُّ من أبرز المتضرّرين المحتملين من استمرار الأزمة، خاصة في حال استمرار ارتفاع أسعار النفط، أو تأثُّر الإمدادات النفطية نتيجةَ اتّساع الصّراع، باعتبار الصين أكبر البلدان المستوردة للنفط.

وتُنذر عودة التركيز الغربي على مبيعات النفط الإيرانية، والتلويح بإعادة ضبط العقوبات المفروضة عليها، بانعكاسات سلبيّة على بيجين أيضاً، لأنها تحرمها من النفط الإيراني الذي حصلت على كميات لافتة منه بأسعار تفضيلية خلال 2023، بفضل التساهل الأمريكي في تطبيق العقوبات. كما أنّ بيجين تظلُّ ضمن قائمة المُتضرّرين من استمرار الأزمة في باب المندب، نتيجةَ تأثيرها على كُلفة الشحن.

ومن الواضح أنّ نفوذ الصين على "الحرس الثوري" باعتباره المؤسسة التي تمتلك مقاليد القرار في التصعيد الراهن، لا يُضاهي نفوذ روسيا على هذه المؤسسة التي أظهرت رغبةً كبيرةً في الانخراط في تحالف استراتيجي مع موسكو، على الرغم من اعتراض أطيافٍ واسعة من المشهد السياسي الإيراني. لكنّ الصين تمتلكُ في المقابل، تأثيراً كبيراً على القرار السّيادي الإيراني من منطلق كونها الزبون الحصري للنفط الإيراني، والشريك الأول للاقتصاد الإيراني، والذي تحتاجُه طهران في ضوء العقوبات. ويرتبطُ مصيرُ نحو 30 مليار دولار من مبيعات النفط، ونحو ثلث الاقتصاد الإيراني بشكلٍ مباشرٍ بالعلاقة مع بيجين؛ ما يجعل بيجين شريكاً أساسيّاً للاقتصاد الإيراني، مقارنةً بالجانب الروسي الذي لا يتجاوز التبادل التجاري معه، نحو 5% من إجمالي حجم التجارة الإيرانية. 

ومع أنّ الصين لا تمتلكُ نفس التأثير الذي تمتلكه روسيا على الجهاز العسكري في "الحرس الثوري"، إلّا أنّ بيجين لديها علاقات مؤثرة مع باقي مؤسسات الدولة العميقة، وتتمتعُ كذلك بعلاقاتٍ واسعةٍ جداً مع الأذرُع الاقتصادية التابعة للحرس الثوري؛ إذْ تشتري بيجين نحو 400 ألف برميل من النفط يوميّاً عبر شركات تابعة للحرس، أو عبر "عقود المقايضة" التي ارتفعت خلال العام الأخير، وعززت ارتباط الصين بمؤسسات الحرس الاقتصادية الكبرى، ومنها، "منظمة خاتم الأنبياء" عبر عقود تتجاوزُ قيمتُها 10 مليارات دولار.

وإذا كانت الصين غير راغبة بممارسة ضغوط قوية وجدية على الجانب الإيراني لوقف التصعيد في المنطقة، فلربما يعودُ ذلك إلى أنها لا تُريد أنْ تنصاع للضغوط الغربية، أو أنّها تنظر إلى ما يجري في الشرق الأوسط، باعتباره ورقة ضغط في تنافُسها مع الولايات المتحدة. وهو السّبب نفسه الذي دفع واشنطن إلى عدم طرح الموضوع بجدية مع الصين، خشيةَ أن تستخدمه بيجين ورقة مساومة في سياق المواجهة حول تايوان. لكنْ في حال طرح الموضوع من جانب البلدان العربية فإن هذه النظرة المعيارية قد لا تظلّ قائمة لدى الصين، وقد تُبدي الصين تجاوباً أكبر مع المطالب العربية بالتدخُّل لخفض حدّة الصّراع.

ويتعيَّن إدراك حدود تدخُّل بيجين في الأزمة الراهنة في الشرق الأوسط؛ فمِنْ غير المُتصوَّر توقُّع أنْ يتجاوز الضغط الصيني على الحليف الإيراني إلى حدود الوساطة بين الأطراف، أو إلى حدّ طرح مُبادرات صينية لحل الأزمة، أو أي منهج آخر، يتضمن وجوداً سياسيّاً وعسكريّاً صينيّاً مُوسَّعاً في منطقة الخليج، والشرق الأوسط. وبمعنى آخر ينبغي الحرص على ألّا يؤدي أي تدخُّل صيني محتمل لخفض التصعيد في المنطقة إلى تشجيع بيجين على تعزيز وجودها السياسي والعسكري المباشر في منطقة الخليج؛ لأن مثل هذا الاتجاه سيفتحُ أبواباً جديدة للاستقطاب الدولي في منطقةٍ تعاني أساساً من مستويات خطرة من الهشاشة الأمنية والاستقطاب.

عن "مركز الإمارات للسياسات"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية