قد تكون عبارة "زمن دين بلا ثقافة" التي جعلها الباحث الفرنسي المعروف أوليفييه روا عنواناً فرعياً لكتابه "الجهل المقدس" خير مدخل لقراءة طبيعة حركة "الصحوة" التي هيمنت تمثيلاتها الأيدولوجية للإسلام في المملكة العربية السعودية على مدى ثلاثة عقود مضت؛ الأمر الذي يفسر التحولات الحالية التي تشهدها المملكة بأنها ردود فعل طبيعية تجاه تلك الحركة.
ذلك أن ما يحدث في المملكة، الآن وهنا، هو جزء من استحقاق طال انتظاره، بعد أن أدرك الجميع تقريباً الانسدادات النظرية والتأويلات النسقية لمفهوم الصحوة، عبر مزيج هائل من الكتابات المتشابهة، والأفكار النمطية الفقيرة، والشعارات المجوفة، لدعاة لم تتوفر كثرتهم الكاثرة على فكر موضوعي مختلف خارج تلك التأويلات النسقية للأيدولوجيا.
ما يحدث في السعودية حالياً جزء من استحقاق طال انتظاره بعد إدراك الانسدادات النظرية والتأويلات النسقية لمفهوم الصحوة
لقد كان الإيحاء المهيمن لهوية زمن الصحوة في المملكة العربية السعودية يتمثل في مجموعة من مقولات جاهزة وأفكار فقيرة في مجال: "الإعجاز العلمي للقرآن الكريم"، ونقد قشور الحضارة الغربية، والاستيهام المضلل لحيازة فهم السلف الصالح، مع وفرة من الرسائل الصغيرة في فروع الفقه بدت كافية في ذلك المناخ، لحشر أصحابها في زمرة "العلماء"، إلى جانب تعميم سردية محليَّة لما عرف بـ"الخصوصية " التي نشأ من جرائها نموذج تفسيري صحوي للمجتمع في المملكة، جعل منها حالة "طهورية" غدت في ذاكرة الصحويين كما لو أنها تعريف مرادف لحدود الجغرافيا السياسية للمملكة، ما أضفى في تقديرنا قيمة مضافة لتلك "الخصوصية" التي سيّجها خطاب الصحوة بـ"فهم" السلف الصالح؛ لينشأ من ذلك المزيج ظنٌ غالب لدى البعض، على أن تلك "الخصوصية" هي جزء جوهراني من نمط حياة كرسته الصحوة، وليمثل، بعد ذلك، انسداداً خطيراً في وجه الحياة الطبيعية للمجتمع في المملكة العربية السعودية.
النزاع بين أيدولوجيات الإسلام السياسي مع مؤسسة التقليد في المملكة "هيئة كبار العلماء" كان نزاعاً صامتاً
والواقع، أن ثقافة الصحوة التي غلب فيها الدعاة على العلماء، والوعاظُ على الباحثين، كانت أيدولوجيا دينية قائمة على تأويل معين للنصوص الشرعية، ولقد كان هنالك، نتيجة لهذه الأيدولوجيا، تصورات مثالية للواقع الذي كان يتحرك بعيداً عن رؤى "الصحوة" وتأويلاتها.
كما كان واضحاً أن هذه الطريقة للتعاطي مع الواقع، إنما هي في الحقيقة انعكاس لتصورات بسيطة تملك رؤية طوباوية للعالم وللواقع من ناحية، وتحيل إلى بساطة في التجربة المنغلقة والمحدودة بحدود واقعها الخاص من ناحية أخرى.
وكان نتيجة لهذه التحولات في خطاب الصحوة أن شاع تماهٍ أيدولوجي خادع نشأت عنه مقايسة موهومة بين هذه الحالة من التأويل، وافتراض أنها حالة مطابقة لحياة الجيل الأول في الإسلام (وهنا تحديداً تسقط الحدود بفعل الأيدولوجيا بين الرؤية التأويلية القاصرة والمتوهمة لدى تيار الصحوة، والفهم المعرفي الحقيقي للإسلام في فهم الجيل الأول)، ولقد نشأ هذا الوهم في الأساس من الفهم التأويلي الاحتكاري للإسلام؛ وهو فهم بطبيعته المؤدلجة يقوم على أفضلية حصرية متوهمة لخطاب الذات، ونافية في الوقت ذاته للتأويلات الأخرى أو مقللة من شأنها.
يرى باحثون أن تعميم خطاب الصحوة كان حرصاً على منع ظهور خطاب متطرف ومسلح بعد حادثة جهيمان العام 1979
وبالرغم من أن جسم الإسلام السياسي لم يكن موجوداً في المملكة كواجهة تنظيمية ــعلى غرار ما كان عليه الأمر في البلدان العربية الأخرى مثلاًـ فإن مقولات هذا الفكر في جانبها الدعوي، وعبر امتزاجها بخطاب حركي متحول عن السلفية ومتأثر بالإخوان المسلمين (وهو ما عرف بتيار السروريين بعد ذلك نسبة إلى الداعية السوري محمد سرور زين العابدين الذي كان يقيم في المملكة) مثلت الطبيعة المهيمنة لواقع الصحوة في المملكة.
كما يمكن القول إن النزاع بين أيدولوجيات الإسلام السياسي مع مؤسسة التقليد في المملكة "هيئة كبار العلماء" كان نزاعاً صامتاً، وإن كان التباين بينهما واضحا، في طبيعة الخطاب بين الطرفين، بيد أن تأثيرات الخطاب الصحوي وأيدولوجياته كانت هي الغالبة في الفضاء العام، وفي تقديرنا أن النزاع الصامت بين الطرفين كان يتمثل في المساومة التاريخية التي اضطر فيها الخطاب الإخواني الى مهادنة النمط التقليدي المحافظ للخطاب السلفي في المملكة من ناحية، ولإدراك الإخوان لطبيعة الحياة في هذا البلد، من ناحية ثانية.
المزيج المضلل في خطاب "الصحوة" بين الإسلام السياسي للإخوان والسلفية المتحولة حركياً أفرز موجات مستنسخة من الدعاة والخطباء والحركيين
ويرى كثير من الباحثين في المملكة العربية السعودية أن تعميم خطاب الصحوة في المجتمع، حرصاً على منع ظهور خطاب متطرف ومسلح في المستقبل؛ إثر حادثة الحرم التي قامت بها جماعة جهيمان العتيبي في العام 1979، كان بمثابة الضوء الأخضر لدعاة "الصحوة" الذين استغلوا تلك الأوضاع المثالية للنشاط، مما أدى في النهاية إلى تصميم مناخ عام جسّد قطيعة واضحة بين الصيرورة الطبيعية للمجتمع السعودي منذ أيام الملك عبدالعزيز بعد توحيد المملكة في العام 1932 إلى العام 1979؛ أي العام الذي سبق الحادثة الإرهابية في الحرم المكي التي أقدم عليها جهيمان وأتباعه.
والواقع أن من توهموا "الوسطية" في خطاب "الصحوة" بالمملكة، تبيّن لهم، بعد ثلاثين عاماً، أن ذلك الخطاب هو أصل القطيعة التي كان ينبغي ألا تحدث حيال ما كان عليه الحال في العام 1979.
فلم تكن "الوسطية" في ذلك الخطاب إلا وسطية متوهمة؛ إذ إنها عجزت عن تقديم خطاب معرفي لهوية الإسلام، يتمثل في خيارات مقاصدية من شأنها تسكين التناقضات المتوهمة بين هوية الإسلام وإمكانية حياة عصرية للمسلمين متصالحة مع متغيرات العالم الحديث، وللأسف كانت مفاعيل خطاب الصحوة تصب في ضخ التوترات، ليس بين المسلمين والعالم فحسب، بل حتى بين المسلمين داخل المجتمع السعودي؛ وذلك بسبب طبيعة الأيدولوجيا الانشقاقية التي هي من لوازم خطاب الإسلام السياسي، وما يتصل بها من عمليات تحويل المفاهيم الإسلامية ــبحسب أستاذنا رضوان السيدـ وإرجاع تفسيرها إلى مرجعيات خطابية أيدولوجية تتحرك وفق سرديات مضللة، وتقتضي بالضرورة في ذهنياتها المؤدلجة شروطاً للصدام مع المجتمع والعالم، وهو ما تمثل، بعد ذلك، في الحراك الإرهابي للجماعات التي آل خطابها المتشدد إلى ممارسات إرهابية خطيرة في المملكة، لاسيما منذ العام 2003 إلى العام 2009.
لقد كانت تمثلات الخطاب المتشدد، تكمن وراء الدعاوى المضللة لدعاة الصحوة وحججهم الخطابية، لا البرهانية، حول الاعتدال والوسطية؛ أي في الذهنيات التي كانت تجعل من الآخر المختلف في الفكر والرؤية مشروعاً للإقصاء والنبذ والتكفير (كتاب الحداثة في ميزان الإسلام لعوض القرني نموذجاً)، حيث يظهر فداحة الخطأ المنهجي حتى في عنوان الكتاب؛ فـ"ميزان" الإسلام هنا ليس هو بالضرورة هو ميزان المعرفة، بقدر ما يحيل إلى مماهاة متوهمة بين نوايا صاحب الكتاب باعتبارها "ميزان الإسلام".
لقد كان المزيج المضلل في خطاب "الصحوة" بين الإسلام السياسي للإخوان المسلمين، والسلفية المتحولة حركياً، بفعل اللقاء غير السعيد بين الخطابين، هو النموذج التفسيري الذي صمم، بعد ذلك، تيارات متناسخة لموجات من الدعاة والخطباء والحركيين الذين يقلد بعضهم بعضاً، دون أن تشكل أصداء خطابهم المكرورة رصيداً حقيقياً وواقعياً، أو تحدث فرقاً إيجابيا في واقع المجتمع السعودي. فالأحكام الانطباعية المتولدة من الآراء الظنية في خطاب الصحوة حيال قضايا وأفكار ومواقف في المجتمع السعودي كانت تشكل إطاراً لرؤية تيار عريض في المجتمع ــبتأثير نشاط غير طبيعي لدعاة فضائيين (كانوا يستخدمون أشرطة الكاسيت في الثمانينيات) ثم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ــ ذلك أن أحكام القطع المتوهمة في الآراء الايدلوجية والظنية، جرى تعميمها لتكون نموذجاً تفسيرياً مريحاً، لكنها كانت تخلق مشكلات وأزمات داخل المجتمع لأنها بطبيعتها الظنية والأحادية تلك كان لا بد أن تعكس تشويشاً على الذاكرة العامة، وتنتج الكثير من المشكلات حين تفترض القطعي في الظني.
وهنا لا بد أن يكون الحرج الاجتماعي العام ناتجاً عن تلك الأحكام التي عمّمتها ذهنية الصحوة؛ فبحسب خطاب الصحوة المؤدلج، قد لا يكون تحري الحقيقة، والمعرفة والعدل في الأحكام هو المهم، لأن صعوبة الانفكاك عن تلك الحالة المتواطئة مع طبيعة الخطاب الأيدولوجي في تلك الأحكام هي التي توهم في ذهنية صاحبها اقتراناً شرطياً بين الحكم على شخص ما، وما عليه حقيقةً ذلك الحكم في نظام العلم والمعرفة، لا في الخطاب الانتقائي للأيدولوجيا الصحوية!
ثقافة الصحوة التي غلب فيها الدعاةُ على العلماء والوعاظُ على الباحثين كانت أيدولوجيا دينية قائمة على تأويل معين للنصوص الشرعية
وهكذا، يكون مجرد حدث عادي جداً ككشف المرأة عن وجهها -بفعل تلك الذاكرة الأيدولوجية للصحوةــ كافياً لإطلاق أحكام قيمة سلبية صارمة عنها، نتيجة فقط لتمثلات صدى اقتران شرطي ينتجه التوهم في الذهنية العامة للمجتمع! والواقع إن انطباق الحكم السلبي على المرأة التي تكشف عن وجهها، وفق ذلك التأويل الأوتوقراطي للأحكام، لا يتصل بحيثيات اتهام حقيقية، وإنما هو إسقاط ذاكرة طهورية للمجتمع تعجز عن ملاحظة الفرق بين حكم القيمة وحكم الواقع الأيدولوجي.
هكذا وعلى ضوء أمثلة كثيرة، فضلاً عن هذا المثال، عمّم خطاب الصحوة في المملكة العربية السعودية تمثيلات مؤدلجة للكثير من الأحكام الظنية باعتبارها أحكاماً قطعية في اتصالها بحياة الناس وتفاعلاتهم الطبيعية، جاعلة من الإحساس الطهوري مرجعية خطيرة أعاقت التطور الطبيعي للمجتمع، وقطعت تلك الصيرورة التي توقف عنها المجتمع بعد العام 1979.
وإذا ما بدت لنا اليوم النتائج الكارثية للإسلام السياسي الذي أحدث قطعية في الصيرورة الطبيعية والسياسية للسودان منذ العام 1989؛ يمكننا القول، أيضاً: إن زمن الصحوة في المملكة هو الوجه الآخر للقطيعة التي طالت صيرورة المجتمع السعودي، وأنتجت تمثيلات وأنماط حياة وذاكرة ما تزال ضرورات القطع معها اليوم تعتبر أهم تحديات الواقع الجديد في المملكة العربية السعودية.