"النّساء شقائق الرجال"، "استوصوا بالنساء خيراً"، وصايا نبوية، حرص الرسول الكريم على ترسيخها بين أتباعه، وصحابته، وكلّ المسلمين الذين يأتون من بعده، لكنّ تلك الحقوق والوصايا، لم تستمر طويلاً بين المسلمين، بل تغيّرت، ووجدت فتاوى جديدة تُهمّش النساء، وتسلبهنّ كلّ الحقوق التي أقرّها الإسلام ونبيه للمرأة، ففي صحيح البُخاري: جاءت أم سليم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله، إنّ الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غُسل إذا احتلمت؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: إذا رأت الماء. فغطّت أم سلمة، تعني وجهها، وقالت: يا رسول الله أوتحتلم المرأة؟ قال: نعم، تربت يمينك! فبمَ يُشبهها ولدها؟ وفي رواية لمسلم، قالت أم سلمة، رضي الله عنها: قلت: فضحت النساء!
دفعت المرأة، عبر آلاف السنين، ثمناً باهظاً لتلك الفتاوى، والأحاديث الضعيفة، التي راجت في المجتمع
تبدو من حديث الرسول، عليه الصلاة والسلام، جرأة النساء، في السنوات الأولى من صدر الإسلام، وارتفاع مكانة المرأة في الجزيرة العربية، ومساواتها مع الرجل، لكنّ تلك الثقافة تغيّرت، وحلّت مكانها ثقافة أُخرى، تُهمّش النساء، وتسلبهنّ كلّ الحقوق التي أقرها الإسلام ورسوله للمرأة، تُخضع المرأة لقيود سياسية، واجتماعية، ونفسية، وتحطّ من مكانتها الإنسانية، درجة مساواتها بالبهيمة والدابة! وتغلغلت تلك في المجتمعات العربية عبر آلاف السنين، وأهدرت كرامة المرأة، وانتقصت من دورها المجتمعي، فأصيب المجتمع بخلل جذري، حتى نستطيع إصلاحه، تجب إعادة المرأة إلى مكانتها، وذلك ما يحاول الدعاة والمجددون، وأصحاب الفكر المستنير فعله، لإصلاح ما أفسده المتشددون.
أحمد بن حنبل
ولد أحمد بن حنبل، رائد فتاوى التشدد السلفي، وأحد أعمدتهم، في القرن الثامن الميلادي، وكان يتيم الأب، فقامت أمّه بتربيته، إلّا أنّ هذا لم يمنعه من اعتبار المرأة كلّها عورة، فقد ورد في فصل أحكام النساء، من كتابه "المُسند": " كلّ شيء من المرأة عورة حتى ظفرها"، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبعُولَتِهنَّ}، لم يقتصر حكم عورة النساء على الرجال، عند ابن حنبل، بل شمل أيضاً المرأة غير المسلمة، فقال: أخبرني محمد بن أبي هارون، أن إسحاق بن إبراهيم حدَّثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن المسلمة، تكشف رأسها عند نساء أهل الذمة، قال: لا يحلّ لها أن تكشف رأسها عند نساء أهل الذمة، لأن الله يقول: {أوْ نِسَائِهِنَّ}، قال: وسمعت أبا عبد الله، حين سئل عن هذه الآية: {أوْ نِسَائِهِنّ}، قال: نساء أهل الكتاب، اليهودية والنصرانية، لا تقبلان المسلمة، ولا تنظران إليها. من فصل أحكام النساء، في كتابه المسند أيضاً.
ابن تيمية، وربيبه ابن القيّم
انتهاك حقوق النّساء لم يظهر مرة واحدة؛ بل تدرّج على مراحل، وصار بعض الفقهاء، يُخضعون الفقه لأهوائهم، ويُفسرون الكتاب والسنة، تفسيرات تتعارض مع العقل والمنطق الإنساني، بل وتتنافى مع إنسانية البشر. وقد دفعت المرأة، عبر آلاف السنين، ثمناً باهظاً لتلك الفتاوى، والأحاديث الضعيفة، التي راجت في المجتمع.
التفسيرات المتعسفة تطارد النساء حتى يومنا هذا، فتمنعها من تقلد المَناصِب السياسية والقضَائية والإدارية العُليا
كان على رأس هؤلاء، وأشهرهم، الإمام ابن تيمية، مرجعية التيار الإسلامي السلفي، ولم تسلم المرأة من إلصاق أبشع التهم بها؛ فهي العورة، وأصل الشرور، ليست كالرجل؛ بل هي أقل منزلة منه، فالرجل لا يقتل إذا قتل امرأة! واستناداً إلى حديث الشافعيّ، قال: "لم أعلم مُخالفاً من أهل العلم في أنّ ديّة المرأة، نصف دية الرجل". لكن إذا عدنا إلى النص القرآني المتعلّق بالدية، نجد الآية تنص على: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا، فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ، وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ..}، فالآية لم تفرّق بين جنسي المؤمنين، الذكر أو الأنثى، إلّا أنّ ابن القيم، أحد تلامذة ابن تيمية، كان له رأي آخر، حين دلّل على حكم دية قتل المرأة فقال: "وأما الديّة، فلمّا كانت المرأة أنقص من المرأة، والرجل أنفعُ مِنها، ويسدّ ما لا تسُده المرأة من المناصب الدينية والولايات، وحفظ الثغور، وعمل المصالح العامة، والجهاد، لم تكن قيمتها مع ذلك متساوية، فإن دية الحر جارية المجرى مع العبد، أن جعل قيمتها نصف قيمتها، لما يعلم من فضله عليها" إعلام الموقعين 188/2ـ المرأة، في نظره، أقل شأناً من الرجل، هي ليست سوى أداةً لا عقل لها، ولا تختلف المرأة، في نظر ابن تيمية، عن الدابة، فقال: "المرأة كاللَّحم على وضم، وهي أحوج إلى الرِّعاية والملاحظة من الصبي"، عداء ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، كان نهجاً جديداً، انتهجه أبناء التيار السلفي ضدّ المرأة، وبقي إرثاً سارياً إلى الآن.
ابن باز وابن عثيمين
لم يختلف بعض رموز المدرسة الوهابية عن مدرسة ابن تيمية، والتشدد الإسلامي، الذي لم يعرفه المسلمون في عصور صدر الإسلام، حتى بعد قرون من فتاوى ابن تيمية وابن القيم، وغيرهما من أئمة التشدد، الذين اتخذوا من المرأة عدواً.
يطالعنا القرن العشرين بمثل هذه الفتاوى، بل، وبأكثر تعصباً منها، وكان من أبرز هؤلاء الأئمة: الإمامان: ابن باز، وابن عثيمين؛ ففي حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للبّ الرجل الحازم من إحداكنّ، فقيل: يا رسول الله، ما نقصان عقلها؟ قال: أليست شهادة المرأتين بشهادة رجل؟ قيل: يا رسول الله ما نقصان دينها؟ قال: أليست إذا حاضت، لم تصلِّ، ولم تصم". وفسّر الشيخ ابن باز الحديث في كتابه "فتاوى المرأة المسلمة"، فقال: "إنّ المرأة لم ترقَ إلى منزلة الرجل، فإنّ الله قد كرم جنس الرجال، وإنّما وُجدت المرأة لخدمة زوجها، لذا فإنّ شهادتها نصف شهادة الرجل، من هنا أتى نقصان عقلها، وعن نقصان دينها، فلمّا يدركها من الحيض والنفاس، يمنعها من الصلاة والصوم".
ومن أشهر فتاوى الشيخ ابن عيثمين، أحد تلامذة ابن باز، في كتابه "صيد الفوائد"، ما قاله بخصوص قيادة المرأة للسيارة، في رأيه أنه ينزع الحياء منها، والحياء من الإيمان، كما صحّ ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، والحياء هو الخلق الكريم الذي تقتضيه طبيعة المرأة، وتحتمي به من التعرض للفتنة، ولهذا كان مضرَب المثل فيه، ويقال: "أحيا من العذراء في خدرها، وإذا نزع الحياء من المرأة فلا تسل عنها"، ومن مفاسدها أيضاً: أنّها تكثر من خروج المرأة من بيتها، والبقاء في البيت خير لها، كما قال ذلك أعلم الخلق بمصالح الخلق، محمد، صلى الله عليه وسلم. ومن مفاسدها أيضاً: أن المرأة ستكون طليقة، تذهب حيث تشاء، متى تشاء، وربما تبقى إلى ساعة متأخرة من الليل، وإذا كان أكثر الناس يعانون من هذا في بعض الشباب، فما بالك بالشابات إذا خرجن حيث شئن!
هكذا اجتمع المتشددون ليفسّروا، بحسب أهوائهم، ما يصوغون به فتاوى تدين المرأة التي كرّمتها النصوص، فتعددت الفتاوى التي أهانت النساء، وجعلت قيمتهنّ تنحدر في المجتمع، فأمرت النساء أن يخضعن، ويمتثلن لفتاوى، تقلل من إنسانيتهنّ، وتجعلهنّ في منزلة تقارب البهيمة والدابة، وتنتقص من عقولهنّ، وتفرض عليهنّ كلّ الواجبات، وتسلبهنّ أبسط الحقوق.