الدين والتحولات.. هل يفرض كورونا مراجعات لأنماط التدين؟

الدين والتحولات.. هل يفرض كورونا مراجعات لأنماط التدين؟


29/10/2020

التدين هو الممارسة البشرية للدين، والقوانين والمبادئ والقيم والفقه والعقيدة التي جاء بها، وهو الحالة السائلة للدين ومثالياته وتمثلاته في الحياة والعيش والعلاقات والسلوك، وهو أيضاً الأثر الملاحظ للدين على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع.

لقد ثارت سجالات كثيرة، مؤخراً، حول المراجعات الضرورية الحتمية للدين، ليس بوصفه شريعة بل بوصفه فقهاً، للزمن أثر فيه وعليه، لا يمكن معه - أي مع هذا الأثر والتأثير - التسليم بالمقولة التقليدية إنّه "صالح لكل زمان ومكان"، دون الاشتغال على هذه الصلاحية بما ينسجم مع التحولات والتغيرات المستمرة.

 

لا يُمكن التسليم بالمقولة التقليدية إنّ الدين (صالح لكل زمان ومكان) دون الاشتغال على هذه الصلاحية بما ينسجم مع التحولات والتغيرات المستمرة

 

 لعلّ أهم عامل مؤثر في الدين، بوصفه فقهاً، والتدين بوصفه الشكل الظاهر القابل للرأي والاجتهاد والاختلاف والنقد، هي الأزمات أو التحولات الكبرى التي تفرض وجودها وإيقاعاتها على كل شيء؛ ففي الأزمات وأزمنة التحوّلات تتحقق حتمية المراجعات المنهجية للأحكام والأفهام.

أستطيع أن أفهم وأتعاطى بشكل مُقنع ومنطقي مع عبارة صالح لكل زمان ومكان في ظل إعادة إنتاج أو نقد أو مراجعة هذه الصلاحية وفقاً لطبيعة العصر أو ظروف المرحلة ووفق أحكام الزمن وتحولاته، لكنّ الارتهان لها باعتبارها صورة مُعبّرة عن المُقدّس الذهني والمُقدّس الوجداني الجامد، فهذا لا يعني إلّا أحد أمرين لا ثالث لهما؛ الأول ما يتصل بقدر هذا الجمود والثبات السلبي على الصمود أمام التحولات والأزمات التي تفرض التغيير الحتمي، والثاني ما يُمكن أن نطلق عليه "إرادة الانعزال" بشكل قصدي أو غير قصدي، وذلك من خلال الإصرار على التعاطي مع الظروف والمستجدات والأحوال الجديدة والمتجددة بروح قديمة وفهم قديم، هذا الإصرار يعني الرغبة في الانعزال عن الحياة والعالم، وبالتالي فقدان الفاعلية والتأثير في المجريات العمومية.

اقرأ أيضاً: أيّ مستقبل للفنون الجماهيرية بعد كورونا؟

أثناء "الربيع العربي"، بما شكّله وخلقه من ظروف وأزمات ومراجعات على مستوى الوعي والثقافة وخاصة الوعي الديني الذي أخذ يسيطر على التفسيرات والمعالجات وشكل وطريقة تعاطي المجتمع مع تفاصيله ومجرياته، أثناء ذلك خرجت أصوات ودعوات جادة ومنطقيه لإجراء مراجعات في حالة التدين فردية كانت أم جماعية، فرضها الحضور القوي لجماعات الإسلام السياسي والإسلام الجهادي أو العسكري، وانحياز كل جماعة إلى فهم أو تفسير خاص يناسب توجهاتها وأيديولوجياتها ويحمي وجودها ويعزز مقاصدها.

 

في زمن كورونا، ظهرت قدرة المجتمع على استدعاء كل المفردات المنحازة للوجدان الديني الهش الذي يخاف الخروج عن المألوف الوجداني

 

في زمن كورونا، بما فرضه أيضاً من تحولات في التفكير وطرائق العيش، وبالتالي في السلوك والعلاقات والأحوال، هذا الوباء الذي امتد أثره من الاقتصاد إلى السياسة والاجتماع وأنماط التدين وجميع أفكار الناس حول الممارسات الدينية، وظهرت بشكل كبير قدرة المجتمع على استدعاء كل المفردات المنحازة للوجدان الديني الهش الذي يخاف الخروج عن المألوف الوجداني، أو تلك المنحازة إلى العقل الديني الصلب الذي يرفض الخروج أيضاً من دائرة المألوف الفقهي المكرّس بحكم التلقين لا بحكم التفهيم.

مع توسع وانتشار فيروس كورونا ومساسه بحياة الناس، لجأت دول كثيرة إلى الحظر الجزئي أو الشامل من أجل محاولة مواجهة هذا الانتشار المخيف.

اقرأ أيضاً: كيف ستغدو المجتمعات بعد كورونا؟

وكان ممّا خضع لهذا الحظر المساجد التي من الطبيعي أن تكون بيئة متوقعة ومفترضة لانتشار المرض وانتقاله من شخص إلى آخر. ولأنّ مجتمع المصلين لم يألف أن يحظر عليهم الذهاب إلى المساجد وأداء شعيرة الصلاة الجماعية، اعتبروا ذلك - انطلاقاً من حكم وجداني رخو أو حكم عقلي متصلب -  حرباً على الإسلام، وشكلاً من أشكال الممارسة السلطوية التي تأتي في سياق الممارسات السلطوية التي أخذت على محمل العداء للدين والمتدينين.

اقرأ أيضاً: دروس للعالم من وباء كورونا المستجد

أصبح الوجدان الديني لدى الجمهور الديني ومجتمع المصلين يقيس ويُقدّم مقاربات هشة - على سبيل المثال - المقاربة بين فتح المحال التجارية الكبرى وإغلاق المساجد، حتى بدا هذا الأمر يبعث على التندر بأنّ الفيروس يستطيع بتوجيه ذاتي أن يتجنب المولات والأسواق ويقصد المساجد والمصلين، وهذه المقاربة ليست عادلة ولا موضوعية؛ فالضرورة التي تفضي إلى قرار فتح الأسواق ليست من جنس  الضرورة التي تفضي إلى قرار إغلاق المساجد؛ إذ يستطيع المصلون أداء صلاتهم في البيت، لكنهّم لن يكونوا قادرين ولن يتمكّنوا من صناعة كل لوازمهم الحياتية والمعيشية في البيت.

 

لم يلجأ الناس إلى أي تبرير منطقي ومتوازن يخالف اعتباراتهم الدينية التي شكّلت وجدانهم ووعيهم

 

العلاقة الشائكة والمُلتبسة والمصابة بالخوف والتوجّس والعدائية بين قوى ومؤسسات السلطة والدين أفضت ربما إلى هذا المستوى من الاعتبارات غير السوية في معظمها؛ فلم يلجأ الناس إلى أي تبرير منطقي ومتوازن يخالف اعتباراتهم الدينية التي شكّلت وجدانهم ووعيهم، وكان أقرب ما لديهم من تبرير، وأسهله وأيسره هو تبرير العدائية، ومحاولة التصالح مع الوجدان على حساب التصالح مع المنطق والعقل والواقع.

صحيح أنّنا لا نحمل قدراً كبيرا من الثقة بعقل الدولة والحكومات وممارسات السلطة وخياراتها وقراراتها، لكنّ ذلك لا يُشكّل حجة مطلقة للمغامرة بالصحة والحياة أمام توحّش هذا الفيروس وانتشاره إلى مستوى قياسي خطير، وربما الظروف والتغيرات التي فرضها ويفرضها هذا الفيروس أوسع وأخطر من تلك التي فرضتها وقائع "الربيع العربي". وحين نحاول البحث والحديث والتوجيه لإجراء مراجعات في التدين وأنماطه وسلوك المتدينين، ليس لأنّ الدين والمتدينين متهمون دوماً، بل لأنّ الدين يُشكّل "حضوراً مركزياً" في حياة الناس على المستوى الفردي والجماعي، وبالتالي فإنّ تأثيره في المجتمع وسلوك المجتمع وقابليته للتغيير واستعداده للقبول بالمراجعات تعتبر ضرورة من أجل الحياة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية