الدولة حين تحارب الإرهاب وتروّج لخطاب التشدّد الاجتماعي

الدولة حين تحارب الإرهاب وتروّج لخطاب التشدّد الاجتماعي


12/09/2020

يتّفق مصريون كثيرون في أنّ الدولة تناقض نفسها؛ فبينما تعلن الحرب على التطرف الديني، وتجابه جرائمه الإرهابية، تحافظ في الوقت ذاته على نمط الحياة الاجتماعية الذي روّج له المتطرفون، من إخوان وسلفيين، طوال عقود، وهو نمط الحياة الذي أفرز الإرهاب، وأوجد بيئة حاضنة تعادي قيم الدولة.

وتفتقد الدولة لأداة الخطاب الديني الشعبي، الذي سمحت للتيارات الإسلامية بممارسته لمدة عقود، حتى عام 2011، في صفقة غير معلنة، قامت على أن تتولى الدولة الضبط السياسي عبر أجهزتها الأمنية، بينما تتولى التيارات الدينية الإسلامية ضبط الشارع، عبر نشر القيم التي تعادي الحريات، وحقوق المرأة، وحقوق الإنسان بشكل عام، ترجمةً لرؤية من الدولة تظنّ أنّ الانفتاح الاجتماعي يهدّد أمن المجتمع.

هناك توجهات محافظة عند واضعي السياسات الاجتماعية والحقوقية في الدولة، بل أكثر محافظةً مما لدى رجال القضاء المحافظين، وهو ما يجعل النيابة تتابع حياة الأفراد الشخصية

واليوم، بعد أن خلت الساحة من التيارات الإسلامية، أخذت الدولة على عاتقها ملء فراغ الضابط الاجتماعي، فألقت على أجهزتها القضائية والأمنية هذه المسؤولية، ومن ذلك خرجت النيابة العامة المصرية ببيانات عن حماية قيم الأسرة، والتصدي لفتيات التيك توك، والقبض على الشهود في قضية "الفيرمونت" لا لجرم سوى أنّ ممارسات حياتهم الشخصية لا تتفق مع منظور النيابة للقيم الأخلاقية التي يجب أن يعيش كلّ فرد في كنفها.

قضية "الفيرمونت": رسالة من الدولة

تعود أحداث واقعة اغتصاب فتاة على يد مجموعة من أصدقائها، في فندق "فيرمونت" بالقاهرة، إلى عام 2014، ولم تظهر القضية للعلن حتى إثارتها على السوشيال ميديا، في شهر تموز (يوليو) الماضي، ثم تدخّل المجلس القومي للمرأة، ودعا الشهود إلى التوجه للنيابة العامة للإدلاء بشهاداتهم حول الواقعة، وهو ما حدث.

وقبضت النيابة العامة على أحد المتهمين، وتقدمت بطلب إلى الإنتربول لتسليم الهاربين، فألقى الأمن اللبناني القبض على ثلاثة منهم.

لكن وقع ما لم يكن في حسبان الشهود؛ إذ أمرت النيابة بضبط اثنين من الشهود وإحضارهما، بعد تسريب فيديوهات، من مصدر مجهول، عن حياة الشهود الشخصية، تتضمن ممارسات جنسية، وغير ذلك من الممارسات الشبابية في بعض الحفلات، ووجِّهت إليهما اتهامات تضمّنت الآتي: "تعاطي موادّ مخدّرة، والتحريض على الفسق والفجور، وممارسة اللواط والسحاقية، وإقامة حفلات جنس جماعي، واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لإثارة مشكلات وهمية تخصّ قضية العنف ضدّ المرأة".

ودون مناقشة قرار النيابة العامة، الذي يستند إلى القانون، كما وضحه المحامي نجاد البرعي، لموقع "misr360"  بقوله: "من الممكن أن يتحوّل المجني عليه نفسه إلى متهم في القضية ذاتها؛ فمثلاً لو أحرزت مجموعة من الأصدقاء مخدّر الحشيش وتعاطوه، ثم أحدث أحدهم بزميله عاهة مستديمة، سيكون "الأخير" متهماً بإحراز المخدرات بقصد التعاطي".

اقرأ أيضاً: هكذا يسهم الإقصاء المتبادل بتعزيز الإرهاب في أوروبا

ومع القبض على الشهود أخذت القضية منحى آخر، ورُبطت بتوجهات من النيابة العامة بصون قيم الأسرة المصرية، وبات كثيرون يرون أنّ القبض على الشهود، جاء كرسالة ردع لكلّ من يخرج على الضوابط الاجتماعية، والتي لا يعرف أحد ما هي.

ورغم أنّ المجلس القومي للمرأة سبق أن طمأن الشهود، إلا أنّ تطميناته ذهبت أدراج الرياح، بعد أن قبع شاهدان في السجن.

ومن المرجح أنّ القضية كانت ستختلف في مسارها لولا أنّ نمط الحياة الذي يعيشه المتهمون والشهود هو من النمط الذي لا تقبل به الدولة، فلو اقتصرت القضية على واقعة اغتصاب لفتاة تعيش وفق القيم المحافظة، لما أحدثت هذه البلبلة.

لكنّ القضية أثارت قضية أكبر، وهي كيفية تعامل الجهات القانونية مع قضايا شائكة مثل واقعة "الفيرمونت"؛ التي تناوب فيها عدّة متهمين على اغتصاب صديقتهم، ثم اكتشفت النيابة أنّ المتهمين والضحية يعيشون نمط حياة فيه حرية ممارسة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج.

اقرأ أيضاً: كيف شخّص فيلم فندق مومباي مصادر الإرهاب؟

وتشبه هذه القضية مسألة اغتصاب الزوج لزوجته، وهو أمر غير مجرم في القانون المصري. وبشكل أكثر وضوحاً؛ ماذا سيكون موقف النيابة العامة إذا كانت فتاة على علاقة بصديق، وتقيم علاقات جنسية معه خارج إطار الزواج، وفي إحدى المرات مارس هذا الشخص علاقة معها بغير رضاها، أي اغتصبها؛ فهل ستنظر النيابة إلى الواقعة على أنّها اغتصاب، أم سيتحول الموضوع إلى حديث عن قيم الأسرة ومناقشة مسألة العلاقات خارج الزواج؟

المحامي مايكل رؤوف لـ"حفريات": قيم الأسرة المصرية أمر غامض، فعن أيّة قيم تتحدث النيابة؛ إذ إنّ أغلب الأسر المصرية تعاني من العنف ضدّ المرأة، والعنف ضدّ الأطفال

وحول الرسالة التي فهمها المتابعون من سير أحداث القضية، يقول شخص، فضّل عدم الكشف عن اسمه: "تحولت قضية الفيرمونت من حادثة اغتصاب، إلى قضية اجتماعية، وبات الاغتصاب أقلّ الموضوعات أهمية، وهناك رسالة وراء هذه المعالجة؛ وهي أنّ الدولة ترفض الانفتاح والخروج عن النمط المسموح به من العلاقات الجنسية؛ أي داخل إطار الزواج".

ويتابع لـ "حفريات"، قائلاً: "هنا تدخلت الدولة، بعد أن أدركت خروج جيل جديد عن سيطرتها الاجتماعية، وعدم تقيّده بخطاب الدين، وأخذت على عاتقها هدف محاربة الانفتاح الجنسي، ليظلّ الطريق الوحيد للعلاقة الجنسية يمرّ عبر الزواج، الذي تملك الدولة حقّ منحه أو تعطيله".

صون قيم الأسرة

ويقول المحامي، مايكل رؤوف، حول بيان النيابة العامة عن صون قيم الأسرة المصرية، والذي صدر بعد قضية "فتيات التيك توك": " قيم الأسرة المصرية أمر غامض، فعن أيّة قيم تتحدث النيابة؛ إذ إنّ أغلب الأسر المصرية تعاني من العنف ضدّ المرأة، والعنف ضدّ الأطفال، ونسبة قليلة منها فقط تعيش وفق قيم سوية".

ويتابع رؤوف، لـ "حفريات": "النيابة استندت إلى قانون حول القيم، لا أتفق معه، لكنّ المشكلة أنّها صدّرت بياناتها بآيات قرآنية، ومواعظ، وهذا يخالف عملها كجهة تحقيق تستند إلى القانون، وليس إلى نصّ ديني، وهو ما يؤثر في عمل الجهات القانونية، فتتحوّل إلى وصي على الأشخاص، وتنزلق إلى أمور لا علاقة لها بالجريمة الأساسية".

ويرى محامي حقوقي، فضّل عدم الكشف عن اسمه؛ أنّ هناك توجهات محافظة عند واضعي السياسات الاجتماعية والحقوقية في الدولة، بل أكثر محافظةً مما لدى رجال القضاء المحافظين، وهو ما يجعل النيابة تتابع حياة الأفراد الشخصية، فبات نشر فيديو رقص على اليوتيوب أمر يخصّ الدولة، لا الفرد.

 الدولة: ضابط اجتماعي 

ويثير ما سبق تساؤلات حول توجه الدولة، وسبب انخراطها في شؤون الحياة الشخصية للمواطنين، وتكليف أجهزة التحقيق وإنفاذ القانون بهذه المسائل، بدلاً من تقبّل تغير نمط الحياة لدى فئات واسعة من المجتمع.

وترتبط بذلك مسألة الطلاق؛ التي تراها الدولة خطراً على الأسرة، بينما هي حلّ لإخفاق الزواج.

وحول دور الدولة الاجتماعي يقول، المحامي الحقوقي: "كان من المتعارف عليه أنّ دور الضبط السياسي للدولة، ودور الضبط الاجتماعي للتيارات الإسلامية، لكن بعد محاربة الدولة لهذه التيارات خلت الساحة، ووقع على عاتقها مواجهة الضبط الاجتماعي، وأدركت ألا قدرة لها على التغلغل شعبياً، والحلول محلّ خطاب التيارات الدينية".

اقرأ أيضاً: "مكافحة الإرهاب الجديد".. كيف تغيرت الأساليب والغايات؟

ويتابع الحقوقي بقوله: "بات البديل هو قيام الأجهزة الأمنية والنيابة بهذا الدور، فتحوّلت المعالجة من قضائية إلى أمنية؛ فباتت فتيات التيك توك، وقضية الفيرمونت إحداث بلبلة، وتهييجاً للرأي العام، وفي هذا تناقض مع توجهات القيادة السياسية التي تتحدث كثيراً عن حقوق المرأة".

ويدعم ذلك؛ ما جاء في بيان النيابة العامة حول اتهام الشهود: "استغلال مواقع التواصل الاجتماعي لإثارة مشكلات وهمية تخصّ قضية العنف ضدّ المرأة"؛ فلو رأت الدولة أنّ أيّ خروج عن النمط الذي حددته للحياة هو إثارة للبلبة، لضيعت بذلك القانون، فهناك مشكلات عديدة تحتاج إلى إعادة النظر في القيم التي تحرك المؤسسات القضائية والتشريعية.

ويقول الحقوقي: "انخراط الدولة بمتابعة تفاصيل حياة المواطنين، يؤدي لإهمال دورها القانوني، فلو تقدمت امرأة ببلاغ حول تعرضها للاغتصاب، ستتعرض لأسئلة من النيابة حول سبب وجودها هناك؟ وأسئلة أخرى قد لا تكون  على صلة بالجريمة، أو تشوش على الجريمة".

ولم يقتصر دور الضبط على الأجهزة الرسمية، بل تناولت وسائل إعلام كثيرة القضية في إطار أفرغها من مضمونها، كجريمة اغتصاب، وتحويلها إلى إدانة لنمط حياة الضحية والشهود والمتهمين، ودخل محامون على الخطّ؛ وقدموا بلاغات ضدّ الفندق، ومنظمي حفلات، ومغنيين ومغنيات، بتهمة "إقامة حفلات جنس جماعي"، في حالة تشبه تعامل الدولة في التسعينيات مع محبي موسيقى الميتال، حين صورتهم قانونياً وإعلامياً على أنّهم "عبدة الشيطان".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية