الحمية الغذائية: هل ستظل الربحية سيدة الموقف؟

الحمية الغذائية: هل ستظل الربحية سيدة الموقف؟


09/09/2020

ارتبط مصطلح التنوير في تاريخ البشرية بمقاومة التعصب الديني والاستبداد السلطوي، لكنه في مفهومه الأشمل، سعى إلى تحرير الإنسان من سطوة الجهل في مجالات متعددة، لذا وجد حيزاً أكثر رحابة في مناحي الحياة المختلفة، وكان من بينها ثقافة العلوم والتغذية العلاجية الحديثة.

لطالما كان الغذاء دواء، وعلى الرغم من بزوغ التغذية العلاجية Nutritional Therapy في القرن العشرين إلا أنه من الممكن اقتفاء أثرها في الحضارات القديمة، مروراً بالأديان الإبراهيمية، حيث كان يتم رصد الأثر الإيجابي لبعض الأغذية على صحة الإنسان.

 

الحمية الكيتوجينية لم تساعد فقط على فقدان الوزن بسرعة فائقة ولكنها أيضاً لم تشعرهم بالجوع

 

 فتناول العسل للمداواة مذكور في التوراة وكذلك في الحديث النبوي، لكن التغذية العلاجية المعاصرة توصي بتناوله في حالة الصحة التامة، وتحذر من تناوله بدون ضوابط في حالات الإصابة بالسكري من (النوع الأول) تحديداً.

 كما اكتشفت الأبحاث المعاصرة اختلاف البشر في رد فعل أجسامهم تجاه أغذية بعينها، وهذا لا يجعل الأغذية الطبيعية ضارة بل يجعلها غير مناسبة لبعض الناس، فنجد أناساً أصحاء لكنهم يعانون من حساسية العسل التي تؤدي إلى ضيق تنفس في بعض الأحيان؛ أي إنّ العسل مفيد لكنه ليس علاجاً لكل حالة بشكل مطلق.  

مغالطات تحولت إلى مطلق علمي

هذا الجمود لم يصنعه الأصوليون وحدهم، فالجمود حالة يصنعها اليقين التام، وهذا اليقين قد تدعمه بعض المؤسسات الحكومية، التي تتبنى نتائح طبية بحثية دون غيرها، ومن ثم تسعى تلك المؤسسات لتلقين الجماهير هذه الحقائق، وإقناعهم أنّ أي رأي مخالف يعد هرطقة علمية.

في هذا الصدد، هل ُيمكن أن يواجه بعض الأطباء في العصر الحديث باتهامات الهرطقة العلمية بدلاً من مناقشتهم؟

في العام 1972، أصدر الطبيب البريطاني جون يودكن نتائج أبحاثه عن علاقة السكر بالبدانة وبأمراض القلب في كتابه Pure, White and Deadly (نقي وأبيض ومميت)، ومن خلاله ربط بين ازدياد الاستهلاك في السكر أو النشويات التي تتحول إلى سكر في جسم الإنسان، وبين زيادة مؤشر أمراض الأوعية الدموية والقلب.

 وتوصل يودكن إلى أنّ الدهون الغذائية Dietary Fat أي غير المصنعة والموجودة في الطعام أو مستخرجة منه ليست السبب في البدانة أو أمراض القلب كما يروج الإعلام.  

اقرأ أيضاً: "الصحة الكوكبية".. حمية جديدة قد تنقذ حياة الملايين..تعرف إليها

قوبل الكتاب بالسخرية الشديدة من الجماهير، وقبل ذلك واجه يودكن سخرية مماثلة من شركات صناعة السكر والأطعمة المعالجة Processed Food Industry، وواجه على وجه الخصوص هجوماً لاذعاً من طبيب أمريكي يُدعى (أنسيل كيز)، وهو الطبيب الذي سعى لتبرئة السكريات والنشويات العالية من أمراض البدانة والقلب، لدرجة الاحتفاء به ونشر صورته على غلاف مجلة (تايم) الأمريكية. هكذا كانت سخرية الجماهير نابعة من تحريض بعض الأطباء الذين ادعوا اليقين العلمي وعدّوا أي رأي أو بحث طبي مخالف بمثابة الهرطقة.

اقرأ أيضاً: هل ترفع السمنة من احتمالية الإصابة بكورونا؟

نظرية (كيز) التي دعمتها الحكومة الأمريكية، تتعرض اليوم لتدقيق علمي ومراجعات دقيقة، كان أهمها استناده إلى نتائج منتقاة من بلاد بعينها في جنوب شرق آسيا والتي يعتمد أهلها على تناول النشويات، وتجاهله لنتائج أخرى من أكثر من عشرين دولة تتناول الدهون الغذائية بدون ازدياد في معدلات البدانة.

الهرم الغذائي: من أين جاء وكيف تسبب بطفرة البدانة؟

الهرم الغذائي الشهير والذي ينصح بتناول النشويات كأساس للغذاء، بينما ينصح بالتقليل من الدهون في مجملها، بدون التمييز بين الدهون المهدرجة والدهون الغذائية، يعود إلى العام 1992، وهو من صنيعة الحكومة الأمريكية التي أفصحت عن الخطوط الإرشادية السليمة لتغذية المواطن والحفاظ عليه من أمراض البدانة.

لكن الهرم الغذائي في أمريكا، ليس وليد التسعينيات، بل له جذور تعود إلى العام 1971 حين بدأت الولايات المتحدة في دعم زراعة الذرة لمواجهة نقص الغذاء، وتولى أمر هذه السياسة وزير الزراعة الأمريكي إيرل باتز، وأدت سياساته إلى توفير الطعام بثمن زهيد لأعداد متزايدة من السكان؛ لذا ظلت التعليمات الإرشادية غير بعيدة عن صناعة الغذاء لسد الطب على الغذاء من ناحية والربحية من ناحية أخرى؛ أي إن الإرشادات كانت اقتصادية أكثر ما كانت طبية.

 

الحمية الكيتوجينية ليست حقيقة مطلقة فالتقليل المزمن للنشويات قد يؤثر سلبياً على المدى البعيد على البكتيريا النافعة

 

كما استعانت مصانع إنتاج حبوب الإفطار  (Cereals)بأطباء مخضرمين للتأكيد على أن تلك المنتجات أفضل من تناول البيض والسبانخ في الإفطار، على حد قول رئيس قسم التغذية (فريدريك ستير) بجامعة هارفارد الأمريكية الذي بدأ تعاونه مع تلك المصانع حتى من قبل اتخاذ الحكومة الأمريكية لسياساتها الزراعية في السبعينيات.

سارت العديد من البلدان في ركب هذه الإرشادات لمجرد أنّها أمريكية المنشأ، وازدادات معدلات البدانة في أمريكا والعالم على مدار أربعة عقود ماضية بعد الالتزام بالهرم الغذائي.  

البدانة مسألة هرمونية يمكن السيطرة عليها

وكان التفسير البديهي لازدياد معدلات البدانة هو عدم الالتزام بالتوصيات، والجنوج نحو مطاعم الوجبات السريعة، لكن حتى من كانوا يمارسون الرياضة ويتناولون أطعمة منزوعة الدسم وعالية في النشويات الصحية، عانوا من البدانة أو فشلوا في الحفاظ على ما خسروه من وزن بعد جهود مضنية، وتعرضوا لضغوطات نفسية بسبب حالة الجوع المزمن ونقص الإرادة الحديدية وسد ذرائع النهم.

"الأمر لا علاقة له بالإرادة، فالمسألة هرمونية بحتة، والإرادة لا تهزم بيولوجيا الجسد"، هذا بحسب طبيب الغدد الصماء (روبرت لاستيغ) الذي تخصص في علاج الأطفال من البدانة منذ تسعينيات القرن الماضي.

وقد تواصلت مع لاستيغ منذ أمد، وذلك بسبب الاهتمام الشخصي والبحثي بنظريته عن دور الجهاز العصبي في استشعار الإفرازات الهرمونية من خلال الغدة النخامية، ودورها في الشعور بالشبع أو الجوع، وبالتالي التأثير في فقدان الوزن بشكل صحي وبدون حرمان من التغذية السليمة.

من خلال هذه الأطروحة، عالج لاستيغ طفلة أصيبت بالبدانة بعد حادث سيارة، تسبب في إصابة حلقة (تحت المهاد) الدماغية أو الـHypothalamus، وبعد علاجها بدأ جهازها العصبي يستشعر إفراز هرمون الشبع (Leptin Hormone)، ففقدت الوزن وعادت إلى طبيعتها بدون أدنى مجهود بدني بل زاد نشاطها واختفى خمولها المرضي.

 

عديد من الأطباء المستقلين لا يوصون بقطع الفواكه والنشويات تماماً من الغذاء بل التوازن المعقول بتناول النشويات الطبيعية

 

لاستيغ مهتم بسلامة استشعار المراكز العصبية للإفرازات الهرمونية، لذا يوصي بعدم قطع الدهون الغذائية الموجودة في الطعام بشكل طبيعي أو المستخرجة منه وذلك لكونها تسيطر على هرمون الجوع (Ghrelin Hormone) وتعزز من هرمون الشبع.

يعتمد لاستيغ في أطروحاته –هو وغيره من الأطباء المعاصرين– على دور الهرمونات في البدانة، وتأثير الغذاء الذي يعتمد على النشويات العالية في ارتفاع هرمون الأنسولين في الدم، وهو المسبب الأول للبدانة، بينما الدهون الغذائية لا أثر لها على مستوى الأنسولين في الدم.

اقرأ أيضاً: السمنة عند البطن قد تؤثر على دماغك.. احذر الخرف

كما تفرغ لاستيغ لدراسة ظاهرة تليف الكبد والكبد الدهني الناتج عن تناول الكحوليات، ومقارنتها بتليف الكبد والكبد الدهني المصاب به الأطفال البدناء بسبب تناول السكريات والنشويات المعالجة، فيقول لاستيغ "لقد رأينا أمراضاً ناتجة عن تناول الكحوليات لدى الأطفال وهم لا يتناولون الكحوليات بل يتناولون السكريات العالية وهذا مؤشر خطير".

وظل لاستيغ وغيره من الأطباء مثل؛ تيم نوكس في جنوب أفريقيا، يعملون على نظرياتهم حتى من قبل شيوع وسائل الإعلام الجديدة التي نقلت هذه المعلومات بكل يسر لقطاع عريض من الجماهير فيما بعد، بل بعض الأطباء الذين توصلوا لهذه النتائج ليسوا في نفس شهرة الأطباء أو مشاهير "اليوتيوب" الذين نقلوا المعلومات بدون العمل في المجال البحثي الذي كشف عنها.

 ثورة التكنولوجيا.. هل واجهت أباطرة الغذاء أم صنعت أباطرة جدداً؟

واجهت ثورة الإعلام الجديد تلك الدوغما الغذائية التي أوصت بحمية عالية النشويات كأسلوب للحياة الصحية، ومن ثم ظهرت التوصيات الطبية على المنصات الإعلامية الرقمية باتباع الأنظمة الغذائية منخفضة النشويات ومن بينها نظام الـketogenic ، وهو نظام يستمد اسمه من حالة بيولوجية Ketosis يتحول فيها الجسد إلى حرق الدهون لتوليد الطاقة على أن يتناول متبع الحمية ما لا يزيد على 30 غراماً من النشويات الصافية يومياً ويتناول 70 بالمئة من غذائه من الدهون.

هذه الحمية ليست اختراعاً جديداً، فهي متبعة بنجاح منذ عشرينيات القرن الماضي لعلاج مرضى الصرع كما تم استخدامها للسيطرة على نسب السكر المرتفع لدى مرضى السكري.

 

المثير بأطروحة لاستيغ أن توصياته كما يقول ليست مطلقة فقد يوصي بحمية قليلة الدهون ببعض الحالات

 

الجماهير الساعية للتخلص من البدانة كانت الفيصل، فالحمية الكيتوجينية لم تساعد فقط على فقدان الوزن بسرعة فائقة ولكنها أيضاً لم تشعرهم بالجوع، ولهذا سبب علمي بحت، وهو أنّ الدهون تعزز الشبع ولا ترفع مستوى الأنسولين في الدم، والذي بدوره يجعل الإنسان في حالة مستمرة من الجوع بعد تناول غذاء عال في قيمته النشوية أو السكرية. لهذا حظيت الحمية بالشعبية الجارفة وبدأت الجماهير تحاسب دعاة الهرم الغذائي والصناعة التي دعمت هذه الإرشادات الطبية المنقوصة.

لكن هذا لا يعني التسليم بأنّ الحمية الكيتوجينية بمثابة المطلق العلمي، فالتقليل المزمن للنشويات على الرغم أنه يحسن الصحة العامة ومؤشراتها إلا أنه يؤثر على المدى البعيد على البكتيريا النافعة في الأمعاء Micro biome وهي جزء من مناعة الجسد، كما تتسبب الحمية بفقدان الكتلة العضلية لدى الكثير مما يؤثر على المدى البعيد على سرعة وكفاءة الأيض.

اقرأ أيضاً: مبادرات المشي في عمّان: ثقافة جديدة تتعدى محاربة السمنة

عديد من الأطباء المستقلين، ومن بينهم (روبرت لاستيغ)، لا يوصون بقطع الفواكه الوزن والنشويات تماماً من الغذاء، ويميل الأطباء في هذا الصدد إلى التوازن المعقول في تناول النشويات الطبيعية لا المصنعة، ليصل الاستهلاك اليومي لما بين 100 إلى 150 غراماً من النشويات الصافية، وهذا يساعد على تقليل هرمون الأنسولين، وبالتالي خسارة الوزن الزائد بدون مضاعفات لتتحول الحمية إلى نظام حياة صحي يتجاوز الأطعمة المصنعة والمعالجة.

أما المثير أكثر للاهتمام في أطروحة لاستيغ فهو أن توصياته كما يقول ليست مطلقة وأنه في بعض الحالات قد يوصي بحمية قليلة الدهون؛ أي إنه لم يُنصب نفسه مالكاً للحقيقة المطلقة على الرغم من منهجيته العلمية، وتوصيته بتقليل الأطعمة التي ترفع نسب الأنسولين وأثر ذلك في فقدان الدهون.

لكن قوبل النقد العلمي للحمية الكيتوجينية بنفس الدوغما التي قوبل بها النقد العلمي للحمية عالية النشويات، خاصة بعدما ظهر أباطرة جدد في مجال التغذية يعملون في الاتجاه المعاكس وظهرت ثقافة مذهبية تدعي الحقيقة المطلقة حتى في العلوم الغذائية.

وهذا اليقين يتنافى، بطبيعة الحال، مع تاريخ العلم، فالعلم لا يعرف المطلق ولا الثبات، وهذا لا يُحسب عليه بل في صالحه، والقدرة على نقد القناعات في إطار علمي قد تكون هي الملاذ من الدوغما التي تدعمها الربحية، فالحمية الصحية تتضمن التمتع بوزن صحي لكنها فلسفة أكثر عمقاً من مجرد فقدان الوزن الزائد، فهي تهدف إلى تغذية الجسد لا تجويعه.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية