لم تكن قضية "بوعسكور" سوى أحد الفصول التي كشفت تورّط بعض العناصر القطرية، المنتمية إلى الجهاز الأمنيّ بالدوحة، في التجسّس والإساءة للإمارات، حسبما كشفت التحقيقات الأمنية التي قام بها القضاء الإماراتي، قبل نحو سبعة أعوام؛ إذ تبيّن قيام خمسة من الضباط القطريين بالإساءة لرموز الدولة، عبر إنشاء حسابات وهميّة على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف تداول مجموعة من الأخبار والمعلومات الملفّقة والمضلّلة، وقد صدرت بحقّهم أحكام قضائيّة بالسجن عشرة أعوام، وغرامة قدرها نحو مليون درهم، إضافة إلى ترحيل الضبّاط المتّهمين عن الدولة.
التآمر القطريّ على الإمارات
تعدّدت الأنشطة المضادة التي استهدفت بها قطر دولة الإمارات، وذلك خلال الأعوام القليلة الماضية؛ حيث وظّفت الدوحة تنظيم الإخوان، المصنّف على قوائم الإرهاب في عدد من البلدان العربية، في أدوار تخريبية ومشبوهة، بحسب تقارير أمنية رسمية، في أبوظبي.
واستعانت الدوحة بعناصر تنظيميّة سرّية، تابعة للإخوان، بهدف القيام بأنشطة تحريضية وتعبوية بين المواطنين داخل الإمارات، من خلال بثّ إشاعات ضدّ الحكومة وقياداتها السياسيّة، والترويج لمعلومات مغلوطة وغير صحيحة، وكذا تدشين حسابات وهميّة على منصات التواصل الاجتماعيّ لتنفيذ المخططات ذاتها.
اقرأ أيضاً: ما طبيعة الدور القطري والتركي في الصومال؟
ومن حانبه، قال عبد الرحمن خليفة بن صبيح السويدي، الذي تمّ إيقافه في الإمارات، عام 2017، بسبب انتمائه لما يعرف بـ "التنظيم السرّي" للإخوان؛ إنّه حظي بدعم مالي هائل من الدوحة، بهدف تنفيذ "مخططات تخريبية ضدّ الإمارات، تستهدف زعزعة الاستقرار"، حسبما قال، وأضاف: "قطر أرسلت مدرّبين إلى الإمارات، عام 2010، لتدريب شباب التنظيم على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والتحريض على الحكومة، وتنظيم مظاهرات، وإحداث حالة من الفوضى في البلاد، مثلما حدث في "الربيع العربي".
استعانت الدوحة بعناصر تنظيميّة سرّية، تابعة للإخوان، بهدف القيام بأنشطة تحريضية وتعبوية بين المواطنين داخل الإمارات، من خلال بثّ إشاعات ضدّ الحكومة
وفي اللقاء الذي بثّته قناة أبو ظبي، قبل ثلاثة أعوام، أكّد السويدي على دور قطر بخصوص "استقبال أعضاء التنظيم الهاربين من الإمارات، واستصدار وثائق مزورة لهم لنقلهم إلى تركيا، وذلك بغية مواصلة نشر التحريض ضدّ الإمارات، بواسطة المنصات الإعلامية التابعة للدوحة والإخوان"، مضيفاً: "بعض الهاربين سافروا إلى قطر ببطاقة هوية فقط دون جواز سفر، وهناك حصلوا على وثائق سفر، لا نعلم من أين جاؤوا بها".
اقرأ أيضاً: منصات الإعلام القطري الجديدة... من يديرها وكيف تعمل؟
ويلفت القيادي بالإخوان إلى أنّ النشاط الخيري والاجتماعي الذي قام به، لسنوات، في الإمارات، كان بمثابة مظلّة، تتم من خلالها عملية نقل الودائع المالية إلى بقية الأفرع التنظيمية للجماعة بالمنطقة، لتحقيق المشاريع السياسية والأيديولوجية الخاصة بهم، وتجنيد الأفراد وإلحاقهم بالتنظيم، وتابع: "قدمت الدوحة إلى حسن الدقي، أحد مؤسسي التنظيم السرّي للإخوان في الإمارات، الدعم اللامحدود، وبدوره، قام بتجنيد المتطرفين لتنظيم داعش في سوريا والعراق، كما مهّد الطريق لبعض العسكريين المغرَّر بهم، ويحملون الجنسيّة الإماراتية، من بينهم محمد العبدولي، والذي قتل في سوريا، وكان مدعوماً من عدة جهات، أبرزها قطر، ونشر العديد من الكتب والآراء، للترويج للفكر المتطرف، وأسّس حزب الأمة الإرهابي".
الخلايا الإلكترونية القطرية
وبالعودة إلى قضية "بوعسكور"، تشير تحقيقات العدالة الإماراتية إلى أنّ الضباط القطريين، وهم؛ حمد علي محمد علي الحمادي، ملازم أول في جهاز الأمن القطري، وجاسم محمد عبد الله، مساعد رئيس جهاز الأمن القطري لشؤون العمليات، برتبة مقدم، وأحمد خميس الكبيسي، الذي يشغل منصب مدير الإدارة الرقمية في جهاز الأمن القطري، برتبة نقيب، إضافة إلى آخرين، عرضوا على المحكمة الاتحادية العليا.
وأوضحت النيابة الإماراتية؛ أنّ "القضية تختلف عن مثيلاتها من قضايا جرائم الشبكة المعلوماتية، لأنّنا ظننا أنّ المتورطين فيها أشقاء، وأنّهم حصن ودرع، إلا أنّ قلوبهم الضعيفة امتلأت بالحقد والكراهية فسوّلت لهم أنفسهم، وهم ضباط مخابرات بجهاز أمن الدولة القطرية، أن يشكّلوا فيما بينهم فريق عمل لتنفيذ مخططهم الإجرامي، فأنشؤوا مواقع إلكترونية نشروا فيها معلومات وشائعات وصوراً مسيئة لرموز وقيادات إماراتية بغرض دنيء، وهو السخرية والإضرار بسمعة الدولة وهيبتها ومكانتها.
اقرأ أيضاً: المصالحة الخليجية وحدود المناورة القطرية.. ما الجديد؟
ولإحكام تنفيذ مخططهم الإجرامي، بشقّ صفّ المجتمع الإماراتي، قاموا باستخدام أرقام هواتف إماراتية عبر تلك الحسابات والمواقع الإلكترونية، للإيهام بأنّ مستخدميها أشخاص إماراتيون".
وخلال التحقيقات؛ أكّد الملازم أول، حمد علي محمد علي الحمادي، انتسابه لجهاز الأمن القطري، وصلاته المباشرة بأقسام جهاز أمن الدولة القطري؛ حيث وصف في مقطع مصوّر، أو ما تعرف بـ "المعاينة التصويرية"، التي يتم من خلالها تمثيل أحداث ووقائع الجرائم القانونية، بدايات دخوله للإمارات، ثم عملية شراء شرائح الهواتف المحمولة، والتي تمّت من خلالها إدارة الصفحات والحسابات الوهميّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتنفيذ نشاطاتهم ضدّ الدولة، وقد كانت من بينها صفحة "بوعسكور".
الأجهزة الأمنية في الدوحة
وتعدّ "الإدارة الرقمية"، التي جرى تأسيسها، في جهاز الأمن القطري، مسؤولة عن الأنشطة المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة ورصد كلّ ما يتمّ بثّه في منصّاتها المختلفة، ومن بينها الحملات الإلكترونية؛ حيث تشير المعلومات، التي وردت في سياق التحقيقات، إلى أنّ مدير الإدارة الرقميّة في المخابرات القطريّة، النقيب حمد خميس الكبيسي، استدعى الملازم أول، حمد الحمادي، لتكليفه بالسفر إلى الإمارات، عن طريق التوجّه برّاً.
الباحث المصري إبراهيم عامر لـ"حفريات": قطر استفادت من السرّية التي تتيحها المنصات الافتراضية؛ حيث تعتمد التشفير، بالاستعانة بأرقام وخوادم من خارج الدولة، ويصعب تعقّبها
ومن ثمّ غادر الضابط الدوحة إلى معبر أبو سمرة القطري، ومنه إلى معبر سلوى السعوديّ، المتاخم للحدود بين البلدَين، وهناك توقف لشراء خمس شرائح هاتف سعوديّة، ومن الأراضي السعودية، انتقل باتجاه معبر الغويفات الإماراتي، ليكرّر الأمر ذاته؛ إذ اشترى خمس شرائح هاتفية إماراتية، وقد قام بتعبئة رصيد بخمسة آلاف ريال للأول، وخمسة آلاف درهم للثاني.
اقرأ أيضاً: هكذا وظفت قطر "الإخوان" لتهديد استقرار الإمارات
ومن جانبه، يشير الدكتور إبراهيم عامر، الباحث المصري في العلوم السياسية، إلى أنّ ثمة أموراً عديدة، تبرز دور قطر المتنامي في استخدام وتوظيف الشبكة الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعيّ، لخدمة أهدافها السياسيّة الدعائيّة، وكذا الإقليميّة؛ حيث لا يقتصر الأمر على ما تمّ الكشف عنه بعد القبض على خلية "بوعسكور" في أبو ظبي، والتي تورّطت فيها مجموعة من الضباط المنتمين للجهاز الأمنيّ القطريّ، إنّما تتجاوزه إلى نشاطات أخرى تخريبيّة، سواء في الإمارات أو الإقليم.
ويضيف عامر، في حديثه لـ "حفريات": "تقوم قطر من خلال الإدارة الجديدة التي تمّ استحداثها في جهازها الأمني، والمعروفة بـ "الإدارة الرقميّة"، بتوظيف مواقع التواصل الاجتماعي في الصراعات السياسية والإقليمية، باعتبارها إحدى الأدوات الناعمة والخفية، التي تنشر وتمرّر بواسطتها بعض الرسائل، فضلاً عن تهييج المواطنين وتحريضهم، عبر تعبئتهم، أو شحنهم، بمعلومات غير صحيحة ومغلوطة، الأمر الذي يساهم في زعزعة أمن واستقرار الأنظمة".
اقرأ أيضاً: قطر بين إمكانية المصالحة معها واستحالة عودة الثقة فيها
ويتابع: "تتيح مواقع التواصل الاجتماعي، عبر غرف الدردشة والصفحات أو الحسابات التي يجري إطلاقها بسهولة، الأمان والسرّية من جهة، والقدرة على نشر المعلومات والرسائل المكتوبة والمصوّرة، من جهة أخرى، بالتالي؛ تتحرّك تلك الحسابات الوهمية من فيسبوك إلى تويتر، وتتنقل إلى غيرهما من منصات التواصل الاجتماعيّ الأخرى، مثل: واتس أب، وأنستغرام، وتليغرام، بغية تشكيل بيئات افتراضية، تتهيأ داخلها العناصر الجاهزة للتمرّد السياسي، والاحتجاج ضدّ أنظمتها المحلية، وتبني خطابات معادية".
اقرأ أيضاً: تفاصيل المشروع السري للإخوان بفرنسا.. وما حقيقة الدعم القطري؟
ويلفت الباحث المصري إلى أنّ؛ الدور القطري المتعاظم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قد تصاعد في الفترة التي تزامنت مع اندلاع ثورات الربيع العربي، واستفاد، كما جرى في قضية "بوعسكور"، من السرّية التي تتيحها هذه المنصات الافتراضية؛ حيث تعتمد التشفير، وذلك عبر الاستعانة بأرقام وخوادم من خارج الدولة التي تبثّ من داخلها، بالتالي، تنجح عملية صناعة المحتوى بالتأثير في الرأي العام المحلي، بواسطة عناصر وأنظمة خارجية، تكون في الغالب أمنية، ويكون من الصعب تعقّبها واكتشافها بسهولة، إلا من خلال رصد "التغريدات" و"الهاشتاغات"، ومن ثمّ جمع المعلومات وتحليلها، بحيث يمكن تحديد هوية الحسابات وموقعها بدقة.