"الحريات الأسيرة": الكشف عن استغلال الدين للاستبداد بالحكم

"الحريات الأسيرة": الكشف عن استغلال الدين للاستبداد بالحكم


01/02/2018

يعد كتاب "الحريات الأسيرة" مرجعاً لمعرفة الجذور الدينية، التي كانت حاضنة مثالية لاستنبات الاستبداد السياسي، بموجب فتاوى سلطانية، مغلّفة بأردية الشريعة الإسلامية، وضعه الدكتور محمد الحمّوري، المحامي الدولي الشهير، الذي تخرّج في جامعة كيمبردج البريطانية، في تخصّص الدكتوراه في القانون، كما تولّى منصب وزير الثقافة الأسبق، ووزير التعليم العالي في الأردن، وله كتب وأعمال كثيرة، تظهر انشغاله الدؤوب، وبحثه العميق في قضايا الحريات والفكر، وسيادة القانون.

الكتاب الصادر مؤخراً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، في بيروت وعمّان، جاء في أربعة فصول طويلة، وتفريعات عديدة، أظهرت قدرة المؤلف على الغوص بمهارة في التراث الإسلامي الضخم، واستخراج الأدلة، وربطها بالواقع الحالي، خصوصاً في موضوع "الحكم"، وربطه بالدين، إضافة إلى مقارنته بمسائل الاستبداد ببعض التجارب العالمية، وخصوصاً في أوروبا، مع إعطاء أمثلة وافية، ولعلّ نظرة على موضوعات هذا الكتاب، تظهر الفضاءات التي حلّق فيها الباحث، وكيف استطاع، خلال خمسمئة صفحة، أن يستوعب موضوعات إشكالية، مثل: الإسلام السلطاني والاستبداد والإرهاب، ويظهر كيف انحرفت الشورى بعد العهد الراشدي، وتحوّلت إلى "مُلك عضوض"، منذ معاوية، وصولاً إلى نهاية العثمانيين. موضحاً أساسيات الفقه السلطاني، التي تناقض العقل والعدل والحقائق الواقعية في الخلافة الراشدية، ومن هذه المعضلة يصل الباحث إلى إحدى قضايا العصر الحديث، وهي؛ محنة الشيخ علي عبدالرازق، ومحاكمته من قبل علماء الأزهر، على كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، إرضاءً للملك فؤاد!

يتميز الكتاب بمهارته في طرح واستيعاب إشكالياتٍ كالإسلام السلطاني والاستبداد والإرهاب 

يقول الحموري، عن التجربة الفاشلة للخلافة الإسلامية، في مرحلة ما بعد الخلفاء الراشدين: "لقد دامت الخلافة الإسلامية؛ منذ العهد الأموي حتى انتهاء العهد العثماني، ثلاثة عشر قرناً من الزمن، وتراكم خلالها في الممارسة وكتب التراث فقه سلطاني، ينطلق من تفسيرات النصوص القرآنية، ونصوص الأحاديث، يجعل طاعة الخليفة وسلطان حكمه من طاعة الله، وحكم على مبدأ الشورى القرآني بالسكوت والصمت، وعلى الحريات السياسية بالموت، وبهذا تكون الخلافة الإسلامية، على خلاف الحال في دول أوروبا، قد بدأت بحكم شورى ديموقراطي، وانتهت بحكم تسلّطي استبدادي".

لكنّ لي ملاحظة هنا للمؤلف، في سياق نقاش هذه الجزئية؛ إذ أعتقد أنّ الإسلام المحمّدي، في حقيقته، دعوة أخلاقية، مثل ما جاءت به الرسالات السماوية الأخرى؛ أي لإصلاح البشر، وإعمار الأرض بالخير والمحبة، ولم يأت لإقامة دولة سياسية. وأنّ الخليفة الراشدي، هو خليفة المسلمين، غير معصوم، ويقوم على شؤونهم، وليس خليفة للرسول. وأنّ الآيات التي جاءت بمعنى "الحكم لله" في القرآن، التي يتم الاستناد إليها، على أساس أنّها تعني الكيان السياسي القائم على الإسلام، تشير فقط إلى "الأحكام الشرعية للقضايا الاجتماعية والمواريث؛ أي ما يسمّى القضاء الشرعي"، وليست الخلافة باسم الله بمعنى الحكم السياسي، وهذا موضوع غاب عن الباحث، كما يبدو، أو ربّما فضّل عدم الخوض فيه، ليظهر لنا أنّ الانحراف في مقصد الرسالة، باتجاه السلطة، بدأ في عهد الأمويين. وفي كلّ الأحوال؛ فإنّ هذا الموضوع طويلٌ وشائكٌ، أحببت الإشارة إليه فقط في معرض الحديث عن طروحات الكتاب.

يستند الباحث إلى الكثير من المراجع الأجنبية أيضاً، للحديث عن قضايا آنية، ومن ذلك التنظير الأمريكي لكره الإسلام، وكيف تمّ خلق تنظيم داعش، ومنظمات التكفير، باسم المذهب السنّي، لتحقيق غايات أمريكية ومصالح سلطانية، والدور الذي تقوم به مراكز الأبحاث والفكر في أمريكا، التي تبرّر وحشية داعش، ثم يعود للبحث في جذور الإرهاب، خصوصاً طروحات ابن تيمية الإقصائية، وشذوذ عقوبة الحرق. أمّا الفصل الثاني؛ فيتناول ثورات الربيع العربي، والحالة المصرية تحديداً وتفاصيلها، ويرى الباحث أنّ شعار "الإسلام هو الحل"، غامضٌ، وفضفاض الدلالات، ولم يطرح أصحابه برامج تبيّن للناس ما هي الحلول الإسلامية التفصيلية، التي سيقدّمونها لعلاج مشكلات إدارة الدولة، بتشعباتها المختلفة، انطلاقاً من هذا الشعار "لقد عانت الأمة طويلاً من سيادة قاعدة أنّ الإسلام دين ودولة؛ حيث أدّى ذلك إلى أن تصبح الحرية أسيرة عند سلطة الحكم، وتصبح مخالفة الحكم، ونقد توجّهاته السياسية، مخالفة للدين وشرع المسلمين. إنّ دين الإسلام، هو دين هداية وقيم فاضلة، وممارسة السلطة والسياسة شأنٌ متغيّر متقلّب، تحكمه ظروف محلية وإقليمية ودولية، تنطلق من مصالح وتوازنات، لا تستقرّ على حال، ولا يجوز إلباسها أردية الدين"، وربما يكون، في هذا القول الفصل، إجابة على ما طرحته من تساؤلات بشأن علاقة الدين بالدولة، لكنّ الباحث يخصّص الفصل الثالث من كتابه، لتناول مسألة الشورى في الإسلام، وربطها بالديمقراطية التي تقوم على الانتخاب، كحلّ للخروج من أزمة الدين والسلطة، وتكمن الإشكالية هنا، في كثرة المنظّرين لمسألة الشورى والاختلاف حولها، وكثرة المفكّرين والجهات التي تريد أن تحتكر القول الفصل في هذا الأمر، سواء من السنّة أو من الشيعة، ويناقش الباحث بعض نماذج من الخطاب الإسلامي غير التكفيري، الباحث عن حلّ في القرن العشرين، مثل طروحات جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ويمرّ إلى تجربة الإخوان، عبر مؤسّسهم حسن البنا، قبل أن يأتي منظّرهم سيد قطب بتكفير المجتمعات، وبأنّ الحاكمية لله، وما جرّ هذا الفكر اليوم على المسلمين من الدمار.

يستند الباحث إلى الكثير من المراجع الأجنبية للحديث عن قضايا آنية ومن ذلك التنظير الأمريكي لكره الإسلام وكيف تمّ خلق تنظيم داعش

إنّ الفكر المتطرف، هو محصلة نتيجة لقراءة خاطئة لروح الإسلام القرآني، كما يرى د. الحموري، وسوء تأويل للآيات الواضحة التي خاطبت العقل أكثر من 800 مرة، في حين أنّ من يعتمد على نسخ أجمل الآيات في القرآن الكريم، لصالح ما يسمى "آية السيف"، هو نوع من الشذوذ لأصحاب تلك الطروحات التكفيرية، وخروجها على صراحة النصوص القرآنية، وتسامحها "إنّ قادة هذه التنظيمات "الجهادية /التكفيرية" يستوحون تفسيرات وفتاوى من التراث، أصدرها، في حقب من التاريخ الإسلامي، شيوخ من الخوارج منذ معركة صفين، عام 37 هجري، تطرفوا فيما نسب إليهم من فقه وفتاوى، حتى وصلنا إلى من جدّد، وأضاف لهذا الفكر المتطرف، وواصل ذلك آخرون مقلدون، وأتباع يكررون ما ورثوه، بعد شرحه بتوسّعٍ، ليحكم الوقت الحاضر".

يسوق مؤلّف الكتاب الكثير من الشواهد والأمثلة، على مدار صفحات الكتاب، لتوثيق ما خلص إليه من آراء، توضح الصورة الحقيقية لما وصلنا عن العلاقة الملتبسة بين الإسلام وبين الحكم، ويقدم نصائح للمتورطين في جرّ الدين الإسلامي إلى مستنقع السياسة: "أقول بيقين: إنّني لم أجد، فيما صدر عن الحركات والتنظيمات الإسلامية، من أدبيات وطروحات، ما يشكّل خطّة أو نظرية، أو برنامجاً لإقامة دولة، يحكم نهجها معطيات المجتمعات الحاضرة ومتطلباتها، وكيفية إدارتها تندرج تحت شعار "الإسلام هو الحل"، ولو تولّت أيّ من هذه الحركات، أو التنظيمات، حكم أيّ دولة، فلن يكون لدى مفكريها ومنظّريها، أكثر ممّا لدى أيّ مفكّر ومنظّر ممّن لا ينتمون إليها".

ولهذا، يدعو الباحث، في خلاصة كتابه، وفصل الخطاب، كما سمّاه، "أتباع التنظيمات التكفيرية من المغرّر بهم، سواء لأسباب دينية، أو لاعتبارات سياسية تتعلّق بأحوالهم في أوطان ضاقت بهم، فهجروها للاحتماء بإسلام تلك التنظيمات، إلى العودة لإسلام القرآن، وما فيه من سماحة، ونقاء سريرة، وصدق سلوك، وعندها سوف يدركون أنّ قادتهم في ضلال مبين".

يوضح الكاتب الصورة الحقيقية لما وصلنا عن العلاقة الملتبسة بين الإسلام وبين الحكم، ويقدم نصائح للمتورطين في جرّ الدين الإسلامي إلى مستنقع السياسة

وبعد، فإنّ هذا الكتاب مرجع على قدر عالٍ من الأهمية، لدراسة التاريخ الدموي للصراع على الحكم باسم الله، منذ بدايات الإسلام، وصولاً إلى يومنا هذا، وكيف ساهم التأويل الخاطئ للدين، والفقه السلطاني في تضليل الناس، وتدمير المجتمعات، ويصلح هذا الكتاب أن تعتمده الجامعات ومراكز الأبحاث، وأيضاً الجماعات التي تدّعي أنّ "الإسلام هو الحلّ"، للمراجعة والنقاش والاستفادة الحقيقية ممّا فيه، وقد حاول صاحبه أن يكون موضوعياً ومتوازناً، يقدّم الأمثلة دون تحيّز، ولا تطرّف، فرجل القانون بخبراته الطويلة، وعمق اطّلاعه على ما يجري في العالم اليوم، سينتصر في النهاية لما يراه من الحقّ، وصلاح المجتمع قبل فوات الأوان!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية