"الحارة" يغضب المحافظين لكشفه النفاق الاجتماعي في الأردن

"الحارة" يغضب المحافظين لكشفه النفاق الاجتماعي في الأردن

"الحارة" يغضب المحافظين لكشفه النفاق الاجتماعي في الأردن


01/02/2023

هوفيك حبشيان

مسلسل الاعتراض على الأعمال السينمائية واستنكار مضامينها التي لا تتوافق مع رؤية بعضهم للأخلاق يتنقل من بلد عربي إلى آخر، وقد حطت إحدى حلقاته الجديدة أخيراً في الأردن مع بدء عرض فيلم "الحارة" لباسل غندور على "نتفليكس" بعد مرور نحو سنتين على إنتاجه وعرضه في "مهرجان لوكارنو".

وبعدما أصبح الفيلم في متناول الجميع عبر منصة العرض التدفقي أثيرت حفيظة المحافظين وحراس "الصورة الإيجابية" والأخلاق الحميدة، والفضيحة الكبرى أن "الحارة" كان عرض في الصالات الأردنية خلال الصيف الفائت، إلا أن أحداً لم يكترث له، لأن الألفاظ التي اعتبرت خادشة للحياء حذفت منه حينها لملاقاة جمهور الصالات التجارية، إلا أنها أعيدت إلى الفيلم مع عرضه على "نتفليكس".

وعلى خلاف البلدان المتقدمة اجتماعياً التي تتعامل مع الواقع بكل تفاصيله من دون تجميل أو إنكار، لا تزال المجتمعات العربية التي تدفن رأسها في الرمال تطلب من السينما ان تكون شاهدة زور، وتطالب السينمائي أن يرى شيئاً ويصور شيئاً آخر، وبهذا الشرط يرضى عنه المجتمع وترضى عنه السلطات والجهات التي تسعى إلى الحفاظ على الاستقرار كي يبقى كل شيء على حاله.

ألفاظ الشخصيات

وفي "الحارة" بعض الألفاظ التي تخرج من أفواه الشخصيات ذات السمعة السيئة ولا تختلف عما نسمعه في كل شارع، لكن المشاهدين الذين اختاروا العيش في الإنكار يعتبرون هذه الألفاظ "عبارات خادشة للحياء العام"، وهذا الغضب على الفيلم لم يقتصر على وسائط التواصل الاجتماعي التي فيها من الآراء ما هب ودب، بل ترددت أصداؤه في البرلمان الأردني بعدما انتقد النائب محمد أبو صعيليك الفيلم معتبراً أنه "يسيء إلى الجهات الأمنية والمجتمع المحلي"، وطالب بفتح تحقيق مع المنتجين والقائمين عليه داعياً إلى محاسبة المسؤولين في الهيئة الملكية للأفلام ومحاكمتهم، ففي نظره أن هذه الهيئة دعمت أفلاماً شوّهت الصورة العامة للمجتمع الأردني.

وعلق النائب بأن "الهيئة دعمت أعمالاً قبيحة ولا ينبغي تركها تستمر بذلك تحت الاسم الملكي الذي له مكانته واحترامه". هذا الانقسام عبر وسائط التواصل جعل "الحارة" الفيلم الأكثر مشاهدة على "نتفليكس" في الأردن، مؤكداً مرة جديدة أن أية مهاترة من هذا النوع تصب في مصلحة الفيلم.

"الحارة" فيلم شجاع ومستفز أحياناً، وهذه إحدى وظائف السينما وهي أن تتحدى منظومة القيم المتوارثة التي يقوم جزء منها على التستر على العيوب وطمس السلبيات وعدم الغوص في تناقضات المجتمع، بداعي الحفاظ على صورة البلاد الوردية وسمعتها.

ويبتعد الفيلم عن التجارب الأردنية القليلة التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة ليجد له مكاناً على حدة، ولا علاقة له بما سبق ولا يمكن أن يكون امتداداً له، بل يكتب على صفحة جديدة في دفتر جديد.

هذا الانفصال يتجلى أولاً من خلال المعالجة والجماليات وكل ما يتعلق بفن الشاشة من تمثيل وإخراج وتصوير ومونتاج، ويتحقق ثانياً من خلال الدخول في ما يمكن اعتباره "حميميات" مجتمع أردني وأفراده الذين يعيشون داخل حي شعبي "مزنر" بالجهل والتخلف وأعمال البلطجة والممارسات الشنيعة، ومن خلال هذا كله يرفع الفيلم الغطاء عن كثير من النفاق وعلاقات القوة والانتهاك في تعاطي الناس مع بعضهم بعضاً، وهذا بالنسبة إلى المحافظين الغيارى على صورة الوطن فضيحة في ذاتها، فهم يتجاهلون المشار إليه ليهاجموا السينمائي الذي يتولى الإشارة إلى عيوب المجتمع، حيث تسود شريعة الغاب وحيث القوي يفرض سلطته المطلقة على الضعيف في غياب كلي للدولة التي ينبغي لها أن تسهر على حقوق المواطن وتحميه.

أجواء البيئة

وسواء تناسل "الحارة" من مخيلة مخرجه ومؤلفه باسل غندور أو كان انعكاساً لبيئة من بيئات الأردن المتعددة، ففي الحالتين لا توجد مشكلة فنية ولا يمكن محاسبة المخرج على ما ارتكبه، فنحن إزاء عمل فني وككل عمل فني متخيل، وهناك هامش من التأويل وهامش من التحريف للضرورات الدرامية، وهذا أبسط حقوق الفنان وأبسط أدواته ولا يمكن أن يطلب الإذن ليطلق العنان لمخيلته أو يتقدم بطلب موافقة مسبقة قبل الخروج على تقاليد أو قيم مجتمعه.

بأسلوب سلس يولي اهتماماً بالصورة والايقاع والتقطيع يستعرض الفيلم الخلل الاجتماعي من خلال شخصيات تائهة تتخبط، وحتى أكثرها سلطة غير مستقرة نفسياً.

ومن هذا الجحيم يحاول الفيلم إنقاذ بعض الشخصيات التي تبدو لوهلة كأنها الأعز على قلب المخرج، وأولها الشاب علي (عماد عزمي) ولانا (بركة رحماني) اللذان يجمعهما حب لن يكتب له الاستمرار بسبب ما تحيطه من ظروف معاكسة.

"علي" هو بطل الفيلم القوي حيناً والضعيف حيناً آخر والذي يحاول تدبير أموره الحياتية بالكذب والاحتيال، لكن حبه لـ "لانا" صادق إلى أبعد حد، إلا أن هذا الصدق لا يمكن أن يزهر في بيئة قاحلة تهمش أمثال "علي" وتعيدهم لواقعهم. وتزيد الوضع سوءاً "أم لانا" (نادرة عمران) التي لا تريد "علياً" زوجاً لابنتها، فتلجأ إلى خدمات البلطجي الخطر عباس (منذر رياحنة) الذي يرعب الحي بشرّه وقوى الأمر الواقع الذي يمثله، فلا يتوانى عن إطلاق النار على من يضر بمصلحته.

هذه باختصار أحداث هذا الفيلم الجيد على كل المستويات على رغم وجود بعض الهنات والثغرات في السيناريو والتمثيل والتي من غير الضروري الإشارة إليها في ظل وجود العديد من الميزات، وهذه الأحداث كلها ستولد كثيراً من المفارقات والمغامرات والتقلبات وضربات المسرح التي تحبس الأنفاس في توليفة بصرية تحاكي نمط السينما الأميركية من دون أن تخفي نزعتها إلى قالب سينمائي يرضي الجمهور، وهذا ليس عيباً متى ما كان متقناً.

قوة "الحارة" في شكله ومضمونه في آن واحد، وهذا أمر نادر في السينما العربية التي يصعب عليها التوفيق بين ما تريه والكيفية التي ترويه فيها، وباسل غندور أتقن الجانبين، الجانب الجمالي والجانب المتعلق بدرس الشخصيات وما يكشفه سلوكها عن البيئة التي تعيش فيها.

وإذا كان لا بد من ترتيب الفيلم تحت عنوان واحد فيمكن القول إن النفاق الاجتماعي هو هذا العنوان، وهو ما يتحدث عنه الفيلم، فما هو معلن اجتماعياً يختلف جذرياً عما تعيشه الشخصيات في السر وخلف الجدران، فالحي الشعبي مسرح لممارسات وانتهاكات وتصفيات جسدية، وهذا كله يكشف الوجه الآخر للصورة التي يريدها المحافظون عن مجتمعهم المتداعي، لكن السينما بميلها الفطري إلى كشف المستور وفضح الأكذوبة الجماعية هي دائماً المرصاد، "وراك وراك"! 

عن "اندبندنت عربية"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية